الخلاف بين أبناء التيار الإسلامي

منذ 2012-11-02

..يقول الأنصاري رحمه الله: وإنَّ حركةً تعزل نفسها عن النقد الذاتي الصادر من الأفراد والمؤسسات، لهي حركةٌ قد حكمت على نفسها بالخروج من حركية التاريخ المتجددة.


يقول العلامة أحمد شاكر رحمه الله تعالى: "لم توجد أمةٌ وسعتْ مخالفيها، وأفسحت لهم صدورها كما فعل المسلمون.

إنَّ الأمة الإسلامية هي الأمة الوحيدة التي تحمل قيمها وتعاليم دينها الحنيف، الآداب والأطر للتعامل مع المخالف بدرجات الخلاف المتعددة، ومع وضوح القواعد التي تنظم أدب الخلاف وتؤطره، إلا أنَّ الواقع يشهد على تلاسن وتراشق أبناء الحركة الإسلامية، حتى ربما يصل التلاسن إلى العلماء والدعاة، بعدما يغلي أتونه ويشتعل بين الشباب!

والمقصود من هذه الكلمات، هو تذكير نفسي أولا، وأبناء التيار الإسلامي بفصائله، فعساهم أن ينصتوا لصوت ضعيف ربما يشبه صوت الهدهد في ضعفه حينما أنصت له نبي الله سليمان عليه السلام!

إنَّ الملاحظ في المشهد العام، لمن أعمل فكره وقلَّب ناظريه هو عدة أمور أجملها:

1- التعصب:
فكلٌ يرى شيخه حسنة الأيام ومسك الختام، ووحيد عصره وفريد زمانه، ومن خالفه ولو كان من أهل العلم فساقطٌ قوله ولو عضده بالشواهد والبينات، والحجج والبراهين، وما هكذا يكون الاتباع للحق، والدليل الذي أمرنا الله تعالى بالتحاكم إليه والتمحور حوله عند اختلاف العقول والفهوم؛ فالسبيل القويم أن نقبل الحق ممن جاء به كائنا من كان، ولو لم يكن من عالم يخالف شيخي، بل لو كان الحق آتيا من كافر! والعالم دائرٌ باجتهاده على كل حال بين الأجر والأجرين؛ فأحدهما مصيب فأصاب الأجرين، وأحدهما لم يوفق فأصاب أجرا! فلما التشغيب والتهويل والتنقص من أهل العلم وغمزهم ولمزهم؟!

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحقَّ لا يجوز له تقليد أحد في خلافه"، ثم قال: "وأمَّا إنْ قلَّد شخصا دون نظيره بمجرد هواه، ونصره بيده ولسانه، من غير علم أنَّ معه الحق، فهذا من أهل الجاهلية، وإن كان متبوعه مصيبا، لم يكن عمله صالحا، وإن كان متبوعه مخطئا كان آثما، كمن قال في القرآن برأيه، فإن أصاب فقد أخطأ، وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار".

فيكفي المرء أن يتبع ما يغلب على ظنه أنه الأوفق والأقرب للدليل، دون تجريح أو تسفيه أو تبديع وتجهيل كما ابتلينا في وقتنا هذا! ويسعك أن تحمل كلام من تخالفه على محمل حسن، طالما وجدت له في الخير محملا!

واعرف لكل ذي فضل فضله وسبقه، ولا تقع في غلواء الشطط الفكري والمنهجي، ولا تفرح بزلة، ولا تتبع عثرة، ولا تلوِّث لسانك بالخوض في الأشخاص والأعراض، وكن كبيرا ذا مروءة، وناقش الفكرة وجزئياتها.

2-عدم التثبت في نقل الأخبار:
ابتلينا في وقتنا الحاضر بأئمة دجاجلة، هم المرجع عند الأغمار الأغرار؛ فديدن أحدهم: حدثنا "الفيس بوك" قال: أخبرنا: "تويتر"!

ومتفلسف آخر: ولقد رُوّينا عن (اليوتيوب) ما نصه أنَّ فلانا ساقطٌ لا يعتدُّ به!

أمَّا (جوجل) فهو الجامع الكبير، من حمل نسخة من تصنيفه صار مبرّزاً حقا! لكن في الكذب وغش المسلمين!
إنها ثالثة الأثافي وقاصمة الظهور، أن نتحرى الأخبار دون تمحيص ولا إعمال للقواعد العلمية في النقل، ثم نطعن بالأعراض ونقول إنَّه دين نتقرب به إلى الله!

يقول ابن خلدون رحمه الله في مقدمته: "فالتحقيق قليل، وطرْف التنقيح في الغالبِ كليل، والوهمُ نسيبٌ للأخبار وخليل، والتقليد عريضٌ في الآدميين وسليل!".

وقد روى الإمام أحمد رحمه الله في مسنده والترمذي في جامعه عن ابن أبي مليكة أنَّ عائشة رضي الله عنها قالت: "ما كان خلقٌ أبغضَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب، ولقد كان الرجل يكذب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذبة، فما يزال في نفسه عليه حتى يعلم أنه قد أحدث منها توبة"، وفي الحديث: «بئس مطية الرجل زعموا!».

واعلم أننا ابتلينا بمن تخصص بنشر الأراجيف والأباطيل، وتلويث أعراض الأفاضل؛ لرياء ظاهر وشهوة خفية، فهو كهذا الرجل الذي وصفه الزاهد العابد الحسن البصري رحمه الله تعالى قال: "خرج علينا رجل من البصرة، فقال: لأكذبن كذبة يتحدث بها الوليد! قال الرجل: فما رجعت إلى منزلي حتى ظننت أنها حق لكثرة ما رأيت الناس يتحدثون بها"!

أرأيت؟! ظنَّ أنها حقٌ لكثرة من تحدث بها! إلى الله المشتكى!

3- الانغلاق الجماعي:
فكلُّ جماعة تنغلق على تنظيمها الجماعي، وترى في اجتهادات خيارها وكوادرها منتهى الاجتهاد! ولو استعانت الجماعات والكيانات الإسلامية بخبرات بعضها البعض، واستفادت من مجهوداتها وتنوع مشاربها لصبَّ ذلك مباشرة في مصلحة الدين أولا.

ثمَّ إن كل جماعة تكِّونُ مجلسا من أفاضل كوادرها ليتكلموا في النوازل والمستجدات، وما يجدُّ على الساحة السياسية والاقتصادية من أمور، وقد تقصر بعض الاجتهادات لانعدام التخصص؛ فقد يحسن المرء فنا وتغيب عنه فنون! والسبيل لذلك أن تستعيض كل جماعة بمراكز دراسات في التخصصات التي ترى فيها عجزا في كوادرها؛ ليكون القرارعلميا منهجيا، قائما على أساسيات العلم ومسلماته، لا على الأراء والرغبات والخواطر.

يقول الشيخ فريد الأنصاري رحمه الله تعالى: "إنَّ مراكز الدراسات اليوم، وجه من وجوه القوة بالمفهوم القرآني الوارد في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ..} [الأنفال:60]، والإعداد العلمي في التخطيط والتنظيم والتأطير والمدافعة والمواجهة والنقد والعرض، كل ذلك من أساس العمل السليم.

4- الاستفادة القليلة من النقد:
بل وقل انعدامها في مواطن إن شئت! إن الخلل يكمن أنَّ الجماعات تعلم أن هناك من يتربص بهذه الدوائر، ويتمنى إخفاقها، ويشنع بها في كل مكان ومشهد، فيكون الرد: دعونا نعمل وليتكلم من يتكلم، وهذا حسنٌ لو أضفنا له واجب التفرقة بين الناقد المحبِّ والناقد الشانىء… فرقٌ كبير!

بونٌ واسعٌ بين من يرى ثغرةً فيتحرّق لذلك، وينتقد العاملين عليها، ويتمنى في قرارة نفسه لو سُدّتْ اللحظة قبل الغد، وبين من ينتقد ليشهّر، فإذا ما استجاب القوم لنقده، واسترشدوا بقوله، وقوّموا اعوجاجهم، أصابه الغمُّ والحزن!

وجه الخلل يكمن في الخلط بين النقدين، ومعاملتهما معاملةً واحدة من التجاهل، وهو خطرٌ كبير وخطْبٌ جلل؛ لأنَّ صم الآذان عن هذه الخروقات والتعامي عنها؛ يعني اتساعها وعدم تداركها بما يؤذن بالانهيارلا قدر الله.

يقول الأنصاري رحمه الله: وإنَّ حركةً تعزل نفسها عن النقد الذاتي الصادر من الأفراد والمؤسسات، لهي حركةٌ قد حكمت على نفسها بالخروج من حركية التاريخ المتجددة.

فإعمال النقد المحب خيرٌ من إهماله.
وللحديث بقية إن شاء الله.


كريم إبراهيم أبو ذكوان
 
المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 26
  • 0
  • 2,201

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً