لكم دينكم ولي دين.. براءة من الأديان الأخرى وليست إقرارا وتركا لها

منذ 2013-01-22

أن هذه الآية الكريمة {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، بل وسورة "الكافرون" كلها أنزلها الله تعالى للبراءة من الشرك وأهله.

لكم دينكم ولي دين.. براءة من الأديان الأخرى وليست إقرارا وتركا لها

المقدمة:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله..

أما بعد: 

كثيرًا ما نسمع في وسائل الإعلام عند التحدث عن الأديان الأخرى غير الإسلام، من يهودية ونصرانية وبوذية وغيرها.. أن الإسلام يقر الحرية، والإسلام دين السماحة ويعترف بالأخرين ويقرهم على دينهم، ثم يستدلون بقول الله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}..!!

ويقول ذلك ويدعيه العامة والخاصة حتى البعض ممن ينتمون إلى العلم والدعوة بل وبعض الجماعات الإسلامية، ويركزون على ذلك ويعتمدونه، حتى أصبح الأمر بمثابة العقيدة التي لا تتزعزع عند الناس وللأسف أن بعض الدول تنتهج سياسة الوفاق مع اليهود والنصارى، وإدعاء الوحدة الوطنية والإخوة الإنسانية، وأنه لا يوجد عداء بين المسلمين وغيرهم من أجل الدين على الإطلاق، بل لا بد من وجود المحبة والموالاة والمحبة بين المسلم وبين أصحاب الأديان الأخرى فإنهم جميعًا يشتركون في الوطن والإنسانية.. وهذه السياسات الفاسدة هي التي جندت من يدعي هذه الإدعاءات.

هكذا تموت عقيدة الولاء والبراء، وهكذا يغطون على الآيات البينات من كتاب الله تعالى التي أمرت بالبراءة من اليهود والنصارى والمشركين أجمعين، وهكذا يتم تدجين المسلمين فيأمن منهم اليهود والنصارى والمشركين، مع أن المسلمين في الواقع يقعون دومًا ولا يزالون تحت كيد مكر وخبث اليهود والنصارى وآلة القتل اليهودية والنصرانية لا تزال تعمل في أبناء الأمة. وفوق هذا يأتي من يتلاعب بالنصوص الشرعية، ويلوي أعناق النصوص، ويلبس على المسلمين البسطاء دينهم، ليدعي أن الإسلام أمر بمتاركة الأديان الأخرى، وأقرها، وأقر حرية الاعتقاد، وأمر بالمسامحة والمحبة.. إلى آخر هذا الباطل.

عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ عَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الأَئِمَّةُ الْمُضِلُّونَ» (رواه أحمد [26213]، والطيالسي في مسنده [1057]، وعن ثوبان رواه الترمذي في الفتن باب ما جاء في الأئمة المضلين [2155]، وأبو داود في الفتن [3710]، وأحمد [21359]، وعن أبي ذر رواه أحمد [20335]، وعن عمر أخرجه أبو نعيم في "الحلية" [6 /46]، والحديث صححه الألباني في الصحيحة [1582])

وفي السطور القادمة نحب أن نركز على آية من كتاب الله تعالى، يستدلون بها على باطلهم، وهذه الآية أتت على عكس ما يزعمون بالمرة فهي آية البراءة من المشركين لا آية القرب والمحبة وسنبين ذلك بالدليل من الكتاب والسنة وأقوال علماء الأمة: أن هذه الآية الكريمة {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، بل وسورة "الكافرون" كلها أنزلها الله تعالى للبراءة من الشرك وأهله، وفيما يأتي بيان مقصود الشريعة من هذه الآية الكريمة بالدليل والبرهان وأنها نزلت لتقر أن الإسلام بريء من كل الأديان الأخرى ولا يقرها ولا يعتمدها ولا يتاركها -على عكس زعمهم-.. وهذا البيان سيكون بإذن الله تعالى في عدة نقاط هي:

1ـ بيان النبي صلى الله عليه وسلم بأن سورة الكافرون براءة من الشرك.

2ـ أقوال أئمة التفسير وهو موافق لقول النبي صلى الله عليه وسلم. 

3ـ هل قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} إذن للآخرين في الكفر وحرية العقيدة؟

4ـ السورة نزلت للمفاصلة بين المسلمين وغيرهم من أهل الأديان الأخرى.

5ـ سبب نزول السورة الكريمة يؤيد ويدعم كل ما سبق.

6ـ أنزل الله هذا الدين العظيم ليظهره على الدين كله.

7ـ هل الإسلام يقر حرية العقيدة؟

8ـ ذكر بعض الآيات الآمرة بالبراءة من الشرك والمشركين والناهية عن موالاتهم ومحبتهم، وبيان عداوتهم وكيدهم وخداعهم وبغضهم لأهل الإسلام.

9ـ ذكر بعض الأحاديث والآثار في ذلك.

10ـ تفسير سورة "الكافرون".

وإليكم البيان.. والعبرة بالدليل.. لا بالأشخاص ولا بالآراء ولا بالأفكار.. إنما العبرة بالقرآن والسنة بفهم سلف الأمة الأبرار.

أولاً: قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: «أنها براءة من الشرك».

النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أنزل الله عليه القرآن، وعلمه إياه، وهو نبي هذه الأمة المبلغ عن ربه، وهل بعد فهم النبي صلى الله عليه من فهم؟!، وهل بعد تفسير النبي صلى الله عليه وسلم من تفسير؟!، وهل بعد بيانه من بيان؟! وهل من بعد علمه من علم؟!.. وهل هناك من يعرف مقاصد القرآن مثله صلى الله عليه وسلم ؟!. فالنبي صلى الله عليه وسلم بَيَّنّ أن هذه السورة إنما أنزلها الله تعالى للبراءة من الشرك والمشركين، وأن دين الإسلام لا يقر عقيدتهم ولا يصحهها، بل يتبرأ منها وينفيها، ومع حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يفسر هذه السورة ويبين معناها والمقصود منها:

1ـ عَنْ فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ عن أبيه رضي الله عنه: "أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَقُولُهُ إِذَا أَوَيْتُ إِلَى فِرَاشِي؟ قَالَ: «اقْرَأْ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنْ الشِّرْكِ» (رواه الترمذي في كتاب الدعوات [3325]، والنسائي في الكبرى [10640]، والحاكم [2031] وقال صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي / ورواه والبيهقي في السنن [2415] والطبراني في الدعاء [252]، وأبو يعلى [1561]، وأبو نعيم في معرفة الصحابة [6315] و [6330]، وابن الحارث في مسنده [1041]، وابن الأعرابي في المعجم [1151]، والخرائطي في مكارم الأخلاق [905]، وصححه الألباني في صحيح الترمذي).

2ـ عَنْ فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ أَبِيهِ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِنَوْفَلٍ: «إقرأ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}» (رواه أبو داود في كتاب الأدب باب ما يقال عند النوم [4396]، وأحمد [23690]، والدارمي في فضائل القرآن [3293]، وابن أبي شيبة في مصنفه [6/241]، وبغية الحارث [1/316]، والنسائي في الكبرى [10637]، والحاكم [3941] وقال صحيح الإسناد، والبيهقي في السنن [2416]، والطبراني في الدعاء الكبير [340]، وابن السني في عمل اليوم والليلة [688]، وابن سلام في فضائل القرآن [422]، وابن الجعد في مسنده [2138]، وابن حبان [791] وصححه، وأبو نعيم في معرفة الصحابة [5830]، وابن القانع في معجم الصحابة [1799]، والخرائطي في مكارم الأخلاق [906]، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، وقال المنذري في الترغيب:رواه أبو داود واللفظ له والترمذي والنسائي متصلاً ومرسلاً وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد، وصححه الألباني في صحيح الترغيب [605]).

3ـ عَنْ جَبَلَةَ بْنِ حَارِثَةَ قَالَ: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَقُولُهُ عِنْدَ مَنَامِي؟ قَالَ: «إِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ فَقُلْ{يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} حَتَّى تَخْتِمَهَا، فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنْ الشِّرْكِ» [رواه أحمد في المسند (20924)، والطبراني في الكبرى (2150)، والأوسط (900) و(2042)، ، وأبو نعيم في معرفة الصحابة  (2247)، ورواه البغوي وابن قانع والضياء (كنز العمال 41253)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/121): رواه الطبراني ورجاله وثقوا، وصححه الألباني في صحيح الجامع (292)].

4ـ عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «اقرأ {يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} عند منامك، فإنها براءة من الشرك» [رواه البيهقي في شعب الإيمان (2418)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1161)].

5ـ عَنْ مُهَاجِرٍ أَبِي الْحَسَنِ عَنْ شَيْخٍ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَمَرَّ بِرَجُلٍ يَقْرَأُ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} قَالَ: «أَمَّا هَذَا فَقَدْ بَرِئَ مِنْ الشِّرْكِ»؛ قَالَ: وَإِذَا آخَرُ يَقْرَأُ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «بِهَا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» [رواه أحمد (16010)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة  (6/396)].

ثانيًا: أقوال أئمة التفسير وهو موافق لقول النبي صلى الله عليه وسلم.

نذكر طائفة من أقوال المفسرين، وهي تابعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم، وموافقة له، وهذا هو فهم الأمة الصحيح الذي لم يخالطه الخبث والدخن الذي انتشر اليوم. قال ابن عباس: "ليس في القرآن أشد غيظاً لإبليس منها؛ لأنها توحيد وبراءة من الشرك" [تفسير القرطبي (20/235)، وتفسير اللباب لابن عادل (16/471)]. 

قال ابن كثير: "هذه السورة سورة البراءة من العمل الذي يعمله المشركون، وهي آمرة بالإخلاص فيه، فقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} شمل كل كافر على وجه الأرض. [تفسير ابن كثير (8/507) طبعة دار طيبة]. قال أبو حيان: " {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}: أي لكم شرككم ولي توحيدي، وهذا غاية في التبرؤ" [البحر المحيط (11/22)]. 

وقال البقاعي: "ولما كان القصد إعلامهم بالبراءة منهم من كل وجه، وأنه لا يبالي بهم بوجه لأنه محفوظ منهم، قال مؤذناً بصدق خبره تعالى آخر الكوثر من حيث إنه مع الجزم بالمنابذة لا يستطيعون له نوع مكابدة نافذة، بادئاً بالبراءة من جهته لأنها الأهم {لاَ أَعْبُدُ} أي الآن ولا في مستقبل الزمان" [نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (10/29)]. قال ابن الخطيب: "هذه السورة تسمى سورة البراءة وسورة الإخلاص، والمشفعة" [تفسير اللباب لابن عادل (16/471)]. قال الشنقيطي: " {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}: هو نظير ما تقدم في سورة يونس: {أَنتُمْ بريئون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بريء مِّمَّا تَعْمَلُون} [يونس: 41]، وكقوله: {وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ}" [البقرة: من الآية 139]. ليس في هذا تقريرهم على دينهم الذي هم عليه، ولكن من قبيل التهديد والوعيد كقوله: {وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: من الآية 29]. 

وفي هذه السورة قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وصف يكفي بأن عبادتهم وديانتهم كفر. وقد قال لهم الحق: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} لأنها عبادة باطلة. عبادة الكفار، وبعد ذلك إن أبيتم إلا هي، فلكم دينكم ولي دين. [أضواء البيان (9/320)].

ثالثًا: هل قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} إذن للآخرين في الكفر وحرية العقيدة؟ قال البيضاوي: " {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} فليس فيه إذن في الكفر ولا منع عن الجهاد" [أنوار التنزيل وأسرار التأويل (5/422)]. قال الإمام الرازي: "فإن قيل: فهل يقال: إنه أذن لهم في الكفر؟ قلنا: كلا فإنه عليه السلام ما بعث إلا للمنع من الكفر فكيف يأذن فيه، ولكن المقصود منه أحد أمور:

أحدها: أن المقصود منه التهديد، كقوله: {اِعْمَلُوا مَا شِئِتُم} [فصلت: من الآية 40].

وثانيها: كأنه يقول: إني نبي مبعوث إليكم لأدعوكم إلى الحق والنجاة، فإذا لم تقبلوا مني ولم تتبعوني فاتركوني ولا تدعوني إلى الشرك.

وثالثها: {لَكُمْ دِينُكُمْ} فكونوا عليه إن كان الهلاك خيراً لكم {وَلِيُّ دِينِ} لأني لا أرفضه.

القول الثاني: في تفسير الآية أن الدين هو الحساب أي لكم حسابكم ولي حسابي، ولا يرجع إلى كل واحد منا من عمل صاحبه أثر ألبتة.

القول الثالث: أن يكون على تقدير حذف المضاف أي لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني وحسبهم جزاء دينهم وبالاً وعقاباً كما حسبك جزاء دينك تعظيماً وثواباً.

القول الرابع: الدين العقوبة: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ الله} [النور: من الآية 2] يعني الحد، فلكم العقوبة من ربي، ولي العقوبة من أصنامكم، لكن أصنامكم جمادات، فأنا لا أخشى عقوبة الأصنام، وأما أنتم فيحق لكم عقلاً أن تخافوا عقوبة جبار السموات والأرض.

القول الخامس: الدين الدعاء، فادعو الله مخلصين له الدين، أي لكم دعاؤكم: {وَمَا دُعَاء الكافرين إِلاَّ فِى ضلال} [الرعد: من الآية 14]، {وَإِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ} [فاطر: من الآية 14]، ثم ليتها تبقى على هذه الحالة فلا يضرونكم، بل يوم القيامة يجدون لساناً فيكفرون بشرككم، وأما ربي فيقول: {وَيَسْتَجِيبُ الذين ءامَنُواْ} [الشورى: من الآية 26]، {ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: من الآية 60]، {أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ} [البقرة: من الآية 186].

القول السادس: الدين العادة، قال الشاعر:

يقول لها وقد دارت وضيني *** أهذا دينها أبدأ وديني


معناه لكم عادتكم المأخوذة من أسلافكم ومن الشياطين، ولي عادتي المأخوذة من الملائكة والوحي، ثم يبقى كل واحد منا على عادته، حتى تلقوا الشياطين والنار، وألقى الملائكة والجنة.

المسألة الثانية:

قوله: {لَكُمْ دِينَكُمْ} يفيد الحصر، ومعناه لكم دينكم لا لغيركم، ولي ديني لا لغيري، وهو إشارة إلى قوله: {أَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى . وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 38-39]؛ أي أنا مأمور بالوحي والتبليغ، وأنتم مأمورون بالامتثال والقبول، فأنا لما فعلت ما كلفت به خرجت من عهدة التكليف، وأما إصراركم على كفركم فذلك ممالا يرجع إلي منه ضرر ألبتة.

المسألة الثالثة:

جرت عادة الناس بأن يتمثلوا بهذه الآية عند المتاركة، وذلك غير جائز؛ لأنه تعالى ما أنزل القرآن ليتمثل به بل ليتدبر فيه، ثم يعمل بموجبه، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم، وصلى الله على سيدنا، وعلى آله وصحبه وسلم [تفسير الرازي (17/264)].

رابعًا: السورة نزلت للمفاصل بين المسلمين وغيرهم من أهل الأديان الأخرى، وهذه الفقرة تحتاج إلى كثير اهتمام وتدبر عند القراءة، وهي لأئمة أجلاء من أئمة هذا الدين العظيم. قال الشيخ العلامة الشنقيطي رحمه الله: في هذه السورة منهج إصلاحي، وهو عدم قبول ولا صلاحية أنصاف الحلول، لأن ما عرضوه عليه صلى الله عليه وسلم من المشاركة في العبادة، يعتبر في مقياس المنطق حلاً وسطاً لاحتمال إصابة الحق في أحد الجانبين، فجاء الرد حاسماً وزاجراً وبشدة، لأن فيه أي فيما عرضوه مساواة للباطل بالحق، وفيه تعليق المشكلة، وفيه تقرير الباطل، إن هو وافقهم ولو لحظة، وقد تعتبر هذه السورة مميزة وفاصلة بين الطرفين، ونهاية المهادنة، وبداية المجابهة [أضواء البيان (9/320)].

وقال الأستاذ سيد قطب رحمه الله: ثم إجمال لحقيقة الافتراق الذي لا التقاء فيه. والاختلاف الذي لا تشابه فيه، والانفصال الذي لا اتصال فيه، والتمييز الذي لا اختلاط فيه: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}.. 

أنا هنا وأنتم هناك، ولا معبر ولا جسر ولا طريق!!! مفاصلة كاملة شاملة، وتميز واضح دقيق.. ولقد كانت هذه المفاصلة ضرورية لإيضاح معالم الاختلاف الجوهري الكامل، الذي يستحيل معه اللقاء على شيء في منتصف الطريق. الاختلاف في جوهر الاعتقاد، وأصل التصور، وحقيقة المنهج، وطبيعة الطريق. إن التوحيد منهج، والشرك منهج آخر.. ولا يلتقيان.. التوحيد منهج يتجه بالإنسان مع الوجود كله إلى الله وحده لا شريك له. ويحدد الجهة التي يتلقى منها الإنسان، عقيدته وشريعته، وقيمه وموازينه، وآدابه وأخلاقه، وتصوراته كلها عن الحياة وعن الوجود، هذه الجهة التي يتلقى المؤمن عنها هي الله، الله وحده بلا شريك. ومن ثم تقوم الحياة كلها على هذا الأساس، غير متلبسة بالشرك في أية صورة من صوره الظاهرة والخفية.. وهي تسير.. وهذه المفاصلة بهذا الوضوح ضرورية للداعية، وضرورية للمدعوين.. 

إن تصورات الجاهلية تتلبس بتصورات الإيمان، وبخاصة في الجماعات التي عرفت العقيدة من قبل ثم انحرفت عنها، وهذه الجماعات هي أعصى الجماعات على الإيمان في صورته المجردة من الغبش والالتواء والانحراف، أعصى من الجماعات التي لا تعرف العقيدة أصلاً، ذلك أنها تظن بنفسها الهدى في الوقت الذي تتعقد انحرافاتها وتتلوى! واختلاط عقائدها وأعمالها وخلط الصالح بالفاسد فيها، قد يغري الداعية نفسه بالأمل في اجتذابها إذا أقر الجانب الصالح وحاول تعديل الجانب الفاسد.. وهذا الإغراء في منتهى الخطورة!

إن الجاهلية جاهلية، والإسلام إسلام، والفارق بينهما بعيد، والسبيل هو الخروج عن الجاهلية بجملتها إلى الإسلام بجملته، هو الانسلاخ من الجاهلية بكل ما فيها والهجرة إلى الإسلام بكل ما فيه. وأول خطوة في الطريق هي تميز الداعية وشعوره بالانعزال التام عن الجاهلية: تصوراً ومنهجاً وعملاً، الانعزال الذي لا يسمح بالالتقاء في منتصف الطريق، والانفصال الذي يستحيل معه التعاون إلا إذا انتقل أهل الجاهلية من جاهليتهم بكليتهم إلى الإسلام. لا ترقيع، ولا أنصاف حلول، ولا التقاء في منتصف الطريق.. مهما تزيت الجاهلية بزي الإسلام، أو ادعت هذا العنوان! وتميز هذه الصورة في شعور الداعية هو حجر الأساس، شعوره بأنه شيء آخر غير هؤلاء، لهم دينهم وله دينه، لهم طريقهم وله طريقه، لا يملك أن يسايرهم خطوة واحدة في طريقهم، ووظيفته أن يسيرهم في طريقه هو، بلا مداهنة ولا نزول عن قليل من دينه أو كثير! وإلا فهي البراءة الكاملة، والمفاصلة التامة، والحسم الصريح.. {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}... وما أحوج الداعين إلى الإسلام اليوم إلى هذه البراءة وهذه المفاصلة وهذا الحسم..

ما أحوجهم إلى الشعور بأنهم ينشئون الإسلام من جديد في بيئة جاهلية منحرفة، وفي أناس سبق لهم أن عرفوا العقيدة، ثم طال عليهم الأمد: {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}، وأنه ليس هناك أنصاف حلول، ولا التقاء في منتصف الطريق، ولا إصلاح عيوب، ولا ترقيع مناهج.. إنما هي الدعوة إلى الإسلام كالدعوة إليه أول ما كان، الدعوة بين الجاهلية. والتميز الكامل عن الجاهلية {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}.. 

وهذا هو ديني: التوحيد الخالص الذي يتلقى تصوراته وقيمه، وعقيدته وشريعته.. كلها من الله.. دون شريك.. كلها.. في كل نواحي الحياة والسلوك. وبغير هذه المفاصلة، سيبقى الغبش وتبقى المداهنة ويبقى اللبس ويبقى الترقيع.. والدعوة إلى الإسلام لا تقوم على هذه الأسس المدخولة الواهنة الضعيفة، إنها لا تقوم إلا على الحسم والصراحة والشجاعة والوضوح.. وهذا هو طريق الدعوة الأول: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [في ظلال القرآن (6/3992)].

خامسًا: سبب نزول السورة الكريمة يؤيد ويدعم كل ما سبق:

قال ابن كثير رحمه الله: هذه السورة سورة البراءة من العمل الذي يعمله المشركون، وهي آمرة بالإخلاص فيه، فقوله {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} شمل كل كافر على وجه الأرض، ولكن المواجهين بهذا الخطاب هم كفارُ قريش. وقيل: إنهم من جهلهم دَعَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة أوثانهم سنة، ويعبد?ن معبوده سنة، فأنزل الله هذه السورة، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية [تفسير ابن كثير (8/507)]. قال ابن الجوزي رحمه الله: ذكر سبب نزولها. اختلفوا على ثلاثة أقوال.

أحدها: "أن رهطاً من قريش منهم الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد يغوث لقوا العباس بن عبد المطلب، فقالوا: يا أبا الفضل لو أن ابن أخيك أسلم بعض آلهتنا لصدقناه بما يقول ولآمنا بالآلهه، فأتاه العباس فأخبره، فنزلت هذه السورة" [رواه أبو صالح عن ابن عباس].

والثاني: أن عتبة بن ربيعة، وأميّة بن خَلَف لقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا يا محمد: "لا ندعك حتى تتبع ديننا، ونتبع دينك، فإن كان أمرنا رشداً كنتَ قد أخذتَ بحظِّك منه، وإن كان أمرك رشداً كنا قد أخذنا بحظنا منه، فنزلت هذه السورة، قاله عبيد ابن عمير".

والثالث: أن قريشاً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن سَرَّك أن نتبع دينك عاماً، وترجع إلى ديننا عاماً، فنزلت هذه السورة، قاله وهب. قال مقاتل في آخرين: نزلت هذه السورة في أبي جهل وفي المستهزئين، ولم يبق من الذين نزلت فيهم أحد" [زاد المسير (6/196)]. وكل ما نقلته كتب التفسير حول أسباب النزول، تذكر هذا السبب، ألا وهو دعوة كفار قريش للنبي صلى الله عليه وسلم أن يلتقوا معه على حل وسط، فيعترف بآلهتهم ويقرهم على دينهم، وهم بناء على ذلك سيعترفون بدينه ويقرونه عليه. فأنزل الله تعالى هذه السورة العظيمة للبراءة منهم ومن شركهم، وبيان أنه صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يلتقي معهم في طريق واحد، ولا يمكن أن يكون بينه وبينهم حلاً وسطًا. وتم توجيه الخطاب بهذه السورة إلى جميع ملل الكفر عامة، لا لكفار قريش فقط، فهي نزلت لتكون عقيدة وحكمًا ماضيًا إلى يوم الدين، وكما يقول أهل العلم: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فما أشد الحاجة اليوم لأن يتفهم أهل الإسلام لهذه السورة وما تتضمنه من عقائد وأحكام.

سادسًا: أنزل الله هذا الدين العظيم ليظهره على الدين كله:

ومما يؤيد ما ذكرناه سابقًا من أن المقصود بـ {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} البراءة من الشرك والمشركين، وليس المقصود تركهم أو إقرارهم على ما هم عليه من دين، ما أنزله الله تعالى من آيات تبين وتوضح وتقرر أن الله أرسل رسوله بهذا الدين، ليظهره على الأديان كلها، وينصره عليها. أنزل الله تعالى هذا الدين العظيم ليظهره على الدين كله، وذلك بنصوص القرآن الواضحة الجلية فلم ينزل لكي يترك الأديان الأخرى أو يقرها أو يداهنها، بل ليظهر على الأديان كلها. 

قال الله تبارك وتعالى في أكثر من موضع من كتابه الكريم: في سورة التوبة: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[32-33]. قال الشيخ السعدي: فأرسله اللّه بالهدى ودين الحق {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} أي: ليعليه على سائر الأديان بالحجة والبرهان، والسيف والسنان، وإن كره المشركون ذلك، وبغوا له الغوائل، ومكروا مكرهم، فإن المكر السيئ لا يضر إلا صاحبه، فوعد اللّه لا بد أن ينجزه، وما ضمنه لا بد أن يقوم به [تفسير السعدي (1/235)].

وفي سورة الفتح: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} قال ابن كثير: أي على أهل جميع الأديان من سائر أهل الأرض، من عرب وعجم ومليين ومشركين. [تفسير ابن كثير (7/255)]. وفي سورة الصف: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ . يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [7-9]. 

قال الشيخ السعدي: " {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} أي: ليعليه على سائر الأديان، بالحجة والبرهان، ويظهر أهله القائمين به بالسيف والسنان، فأما نفس الدين، فهذا الوصف ملازم له في كل وقت، فلا يمكن أن يغالبه مغالب، أو يخاصمه مخاصم إلا فلجه وبلسه، وصار له الظهور والقهر، وأما المنتسبون إليه، فإنهم إذا قاموا به، واستناروا بنوره، واهتدوا بهديه، في مصالح دينهم ودنياهم، فكذلك لا يقوم لهم أحد، ولا بد أن يظهروا على أهل الأديان، وإذا ضيعوه واكتفوا منه بمجرد الانتساب إليه، لم ينفعهم ذلك، وصار إهمالهم له سبب تسليط الأعداء عليهم، ويعرف هذا، من استقرأ الأحوال ونظر في أول المسلمين وآخرهم" [تفسير السعدي (1/860)].

فالقرآن الكريم يصدق بعضه بعضًا، ويفسر بعضه بعضًا، فلا تضاد ولا تناقض. فلا يمكن أن نقول: أن هناك آيات قالت وصرحت وبينت وقررت بأن الهدف من إرسال النبي صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام ليظهر هذا الدين على سائر الملل والأديان، ثم نأتي ونقول أن هناك آية آخرى أتت لتقر الأديان الأخرى وتتركها. بل القرآن أتى ليصدق بعضه بعضًا، فـ {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} أتت للبراءة من الأديان لا لتقررها، و {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} أتت لتقرر هذا المعنى أيضًا وتزيده وضوحًا وبيانًا. 

ولقد أتت الأحاديث النبوية الصحيحة بمثل هذه الحقائق القوية عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلا وَبَرٍ، إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ، أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلامَ، وَذُلاً يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ».

وَكَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ يَقُولُ: قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ فِي أَهْلِ بَيْتِي لَقَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ الْخَيْرُ وَالشَّرَفُ وَالْعِزُّ، وَلَقَدْ أَصَابَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِرًا الذُّلُّ وَالصَّغَارُ وَالْجِزْيَةُ. [رواه أحمد (16344)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/181)، والحاكم في المستدرك (8444) وصححه، والطبراني في الكبير (1265) وفي مسند الشاميين (925)، والطحاوي في مشكل الآثار (5387)، وابن حبان (1631)، وابن بشران في الأمالي (363)، والبخاري في الأحاديث المرفوعة من التاريخ (456)، وابن منده في الإيمان (1113)، والحافظ عبد الغني المقدسي في " ذكر الإسلام" (166 / 1 ) وقال: "حديث حسن صحيح"، والمنتقى لأبي عروبة (69)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/449): رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3)].

(1) - المدر: الطين اللزج المتماسك، وما يصنع منه مثل اللَّبِنِ والبيوت وهو بخلاف وبر الخيام.

(2) - الوبر: صوف الإبل والأرانب ونحوهما والمقصود أهل البادية لأنهم يتخذون بيوتهم منهم.

عن المقداد ابن الاسود الكندي رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يبقى على ظهر الارض بيت مدر ولا وبر إلا ادخله الله كلمة الإسلام، إما بعز عزيز، وإما بذل ذليل، إما يعزهم الله فيجعلهم من أهله فيعزوا به، وإما يذلهم فيدينون له» [رواه البيهقي في السنن الكبرى (9/181)، والبخاري في الأجاديث المرفوعة من التاريخ (456)، والطبراني وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/449): ورجال الطبراني رجال الصحيح]. 

عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله استقبل بي الشام، و ولى ظهري اليمن، ثم قال لي: يا محمد إني قد جعلت لك ما تجاهك غنيمةً و رزقًا، و ما خلف ظهرك مددًا، و لا يزال الله يزيد أو قال يعز الإسلام و أهله، وينقص الشرك و أهله، حتى يسير الراكب بين كذا يعني البحرين لا يخشى إلا جورًا، وليبلغن هذا الأمر مبلغ الليل» [رواه أبو نعيم (6 / 107 108) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1 / 377 378 ط ) والحديث عزاه السيوطي في "الجامع الكبير" (1 /141 /1) للطبراني في "الكبير" أيضاً وابن عساكر، وصححه الألباني في الصحيحة (35)]. هذا وهناك أحاديث أخرى تدور حول نفس المعنى، فالإسلام يعلو ويسود ويظهر على كل الأديان منفصلاً عنها ومفارقًا لها، بريئًا منها، لا يلتقي مع أي دين آخر، ولايحابيه ولا يداهنه، ولا يأذن له ولا يقره ولا يتاركه.. فكل ما يدور على الألسنة من السماح بحرية الاعتقاد، كلام فاسد لا أصل له في دين الإسلام. فالمقصود هو ظهور الدين وإعلاء كلمة الله على الدين كله، لا مداهنة أهل الأديان الأخرى والاعتراف لهم بصحة ما هم عليه من الباطل أو إقرارهم على ما هم عليه من الشرك.

سابعًا: هل الإسلام يقر حرية العقيدة؟ هذا السؤال تم توجيهه إلى الشيخ ابن باز رحمه الله فأجاب:

"الحمد لله. الإسلام لا يقر حرية العقيدة. الإسلام يأمر بالعقيدة الصالحة ويلزم بها ويفرضها على الناس، ولا يجعلها حرة يختار الإنسان ما شاء من الأديان، فالقول بأن الإسلام يجيز حرية العقيدة هذا غلط. الإسلام يوجب توحيد الله والإخلاص له سبحانه وتعالى، والالتزام بدينه والدخول في الإسلام، والبُعد عما حرم الله، وأعظم الواجبات وأهمها: توحيد الله والإخلاص له، وأعظم المعاصي وأعظم الذنوب: الشرك بالله عز وجل، وفعل ما يكفر العبد من سائر أنواع الإلحاد، فالله سبحانه يقول: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]، ويقول سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]، ويقول سبحانه: {يَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، ويقول عز وجل: {فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2]، ويقول سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّ الإِسْلامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» (متفق على صحته).

فَبَيَّن عز وجل وبَيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم وجوب العقيدة ووجوب الالتزام بشرع الله، وأن لا حرية للإنسان في هذا، فليس له أن يختار ديناً آخر، وليس له أن يعتنق ما حرم الله، وليس له أن يدع ما أوجب الله عليه، بل يلزمه ويُفتَرض عليه أن يستقيم على دين الله وهو الإسلام، وأن يوحد الله بالعبادة، وألا يعبد معه سواه سبحانه وتعالى، وأن يؤمن برسوله محمد عليه الصلاة والسلام، وأن يستقيم على شريعته، ويوالي على هذا ويعادي على هذا، وأن يقيم الصلاة كما أمر الله، وأن يؤدي الزكاة كما أمر الله، وأن يصوم كما أمر الله، ويحج كما أمر الله. وفي الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ»، فأنزل الله في هذا قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا . إِلا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 68-70]. فدل ذلك على أن توحيد الله والإخلاص له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وتحريم القتل وتحريم الزنا أمر مفترض لابد منه، وليس لأحد أن يشرك بالله، وليس له أن يزني، وليس له أن يسرق، وليس له أن يقتل نفساً بغير حق، وليس له أن يشرب الخمر، وليس له أن يدع الصلاة، وليس له أن يدع الزكاة وعنده مال الزكاة، وليس له أن يدع الصيام وهو قادر على صيام رمضان إلا في السفر والمرض، وليس له أن يترك الحج وهو قادر على أن يحج مرة في العمر، إلى غير ذلك.

فلا حرية في الإسلام في ذلك، بل يجب أن يلتزم الإنسان العقيدة الصحيحة ويدع ما حرم الله، نعم، له حرية في الأمور المباحة التي أباحها الله له، له حرية في الأمور المستحبة التي لا تجب، فلو شاء تركها لا بأس، والمباح إن شاء فعله الإنسان وإن شاء تركه، أما ما أوجب الله عليه فيلزمه فعله، وما حرمه الله عليه فيلزمه تركه، وليس له أن يعتنق الشيوعية أو النصرانية أو اليهودية أو الوثنية أو المجوسية، ليس له ذلك بل متى اعتنق اليهودية أو اليهودية أو النصرانية أو المجوسية أو الشيوعية صار كافراً حلال الدم والمال، ويجب أن يستتاب، يستتيبه ولي الأمر المسلم الذي هو في بلده، فإن تاب ورجع إلى الحق وإلا قتله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» (رواه البخاري في الصحيح). فمن بدل دينه دين الإسلام بالكفر يجب أن يقتل إذا لم يتب، فبهذا يعلم أنه ليس للمسلم حرية أن يترك الحق وأن يأخذ بالباطل أبداً، بل يلزمه الاستقامة على الحق ويلزمه ترك الباطل، وعليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وينصح لله ويدعو إلى الله عز وجل، وأن يحذر ما حرم الله عليه، وأن يدعو الناس إلى ترك ما حرم الله عليهم، كل هذا أمر مفترض حسب الطاقة" انتهى. [سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله "فتاوى نور على الدرب" (1/311 313)].

ثامنًا: ذكر بعض الآيات الآمرة بالبراءة من الشرك والمشركين والناهية عن موالاتهم ومحبتهم، وبيان عداوتهم وكيدهم وخداعهم وبغضهم لأهل الإسلام قال الله تبارك وتعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6-7]. عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضُلالٌ» [تفسير ابن عطية؛ المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 203)]. فنحن نطلب من الله تعالى ونكرر في الصلوات الخمس وغيرها من النوافل أن يهدينا إلى صراطه المستقيم ويجنبنا سبل اليهود الذين غضب الله عليهم، والنصارى الذين ضلوا عن الحق، فكيف يمكن لنا إقرار هؤلاء على دين باطل أو محبتهم وموالاتهم. وقال تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61]. فكيف الالتقاء مع أعداء الله، الكافرون بآياته، قتلة الأنبياء، أهل الظلم والعدوان.

{مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105]. يكشف للمسلمين عما تكنه لهم صدور اليهود حولهم من الشر والعداء، وعما تنغل به قلوبهم من الحقد والحسد، بسبب ما اختصهم به الله من الفضل؛ ليحذروا أعداءهم، ويستمسكوا بما يحسدهم هؤلاء الأعداء عليه من الإيمان، ويشكروا فضل الله عليهم ويحفظوه. ويجمع القرآن بين أهل الكتاب والمشركين في الكفر.. وكلاهما كافر بالرسالة الأخيرة فهما على قدم سواء من هذه الناحية؛ وكلاهما يضمر للمؤمنين الحقد والضغن، ولا يود لهم الخير. وأعظم ما يكرهونه للمؤمنين هو هذا الدين {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 109]. يوقظ السياق القرآني وعي الجماعة المسلمة ويركزه على مصدر الخطر، ومكمن الدسيسة؛ ويعبىء مشاعر المسليمن تجاه النوايا السيئة والكيد اللئيم والحسد الذميم. قال ابن كثير: يحذر تعالى عباده المؤمنين عن سلوك طَرَائق الكفار من أهل الكتاب، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم. ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو والاحتمال، حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح. {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]. فهم يعتقدون أن المسلمين في النار، ويملئون الدنيا صراخًا وعويلاً إذا وصفهم أحد من المسلمين بالكفر، مع أن الله تعالى حكم بكفرهم في أكثر من موضع في القرآن.

{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة: 120]. هذا هو الثمن الوحيد الذي يمكن أن يرضيهم، وأما غير ذلك فلا، إذا فكل دعاوى الوحدة والمحبة والوطنية فباطلة ومزيفة، وكذب، فلا يغتر المسلمون، وينزلقون وراء هذه الدعاوى، لأن المراد منها في النهاية أن ينسلخ المسلمون من دينهم بالكلية. ومصداق ذلك في قوله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 135]. 

{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 145]. الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته أيضًا، وفيه النهي عن اتباع أهواء اليهود والنصارى، والله تعالى لم يقل "دينهم" وقال "أهواءهم" لأن دينهم كله بدع وأهواء فاسدة ليست من الحق في شيء فلا يجوز ويحرم متابعتهم على شيء من هواهم وفكرهم وطريقتهم، وإلا صار الإنسان من الظالمين. {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28].

قال الطبري: "وَهَذَا نَهْي مِنَ اللَّهِ عز وجل الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا الْكُفَّارَ أَعْوَانًا وَأَنْصَارًا وَظُهُورًا، وَلِذَلِكَ كَسَرَ {يَتَّخِذِ} لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ بِالنَّهْيِ، وَلَكِنَّهُ كَسَرَ الذَّالَ مِنْهُ لِلسَّاكِنِ الَّذِي لَقِيَهُ وَهِيَ سَاكِنَةٌ، وَمَعْنَى ذَلِكَ: لا تَتَّخِذُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْكُفَّارَ ظَهْرًا وَأَنْصَارًا، تُوَالُونَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَتُظَاهِرُونَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَدُلُّونَهُمْ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ؛ يَعْنِي بِذَلِ?َ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ، وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ بِارْتِدَادِهِ عَنْ دِينِهِ، وَدُخُولِهِ فِي الْكُفْرِ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً، إِلا أَنْ تَكُونُوا فِي سُلْطَانِهِمْ، فَتَخَافُوهُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَتُظْهِرُوا لَهُمُ الْوَلَايَةَ بِأَلْسِنَتِكُمْ، وَتُضْمِرُوا لَهُمُ الْعَدَاوَةَ، وَلا تُشَايِعُوهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَلا تُعِينُوهُمْ عَلَى مُسْلِمٍ بِفِعْلٍ"[تفسير الطبري: جامع البيان ط هجر (5/ 315)].

{وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ . يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ . يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ . وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ . يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ . وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 69-75].

{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78]. {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ . قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ . وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 100-102]. 

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ . هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ . إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:  118-120].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران: 149]. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} [النساء: 44]. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلاً . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء: 51-52]. {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا . الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء 138-139]. 

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 144].

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41]. 

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ . فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ . وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِين} [المائدة 51-53]. 

وقال القاضي ابن عطيّة رحمه الله تعالى: "نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء في النصرة والخلطة المؤدية إلى الامتزاج والمعاضدة، وحكم هذه الآية باق. وكل من أكثر مخالطة هذين الصنفين فله حظه من هذا المقت الذي تضمنه قوله تعالى: {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}، وأما معاملة اليهودي والنصراني من غير مخالطة ولا ملابسة فلا تدخل في النهي، وقد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم يهوديا ورهنه درعه" [تفسير ابن عطية: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 203)].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ . قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ . قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ . وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ . وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ . وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}  [المائدة: 57-64].

وقال ابن كثير: "وَهَذَا تَنْفِيرٌ مِنْ مُوَالاةِ أَعْدَاءِ الإِسْلامِ وَأَهْلِهِ، مِنَ الْكِتَابِيِّينَ وَالْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ أَفْضَلَ مَا يَعْمَلُهُ الْعَامِلُونَ، وَهِيَ شَرَائِعُ الإِسْلامِ الْمُطَهَّرَةُ الْمُحْكَمَةُ المشتملة على كل خير دنيوي وأخروي، يَتَّخِذُونَهَا {هُزُوًا وَلَعِبًا} يَسْتَهْزِئُونَ بِهَا، {وَلَعِبًا} يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا نَوْعٌ مِنَ اللَّعِبِ فِي نَظَرِهِمُ الْفَاسِدِ، وَفِكْرِهِمُ الْبَارِدِ" [تفسير ابن كثير ت سلامة (3/ 140)]. {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ . وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ . وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ . فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ . وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [المائدة:82-86]. 

{وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً} نزلت في نصارى الحبشة ومنهم النجاشي حين أسلموا، بدليل الآية التي بعدها {وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ}، فوعدهم الله الجنة بإيمانهم، وتوعد الذين كفروا منهم بالجحيم كما في الآية الأخيرة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} فتأمل {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 72- 73].

لما عقد الولاية بين المؤمنين، أخبر أن الكفار حيث جمعهم الكفر فبعضهم أولياء لبعض فلا يواليهم إلا كافر مثلهم. وقوله: {إِلا تَفْعَلُوهُ} أي موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، بأن واليتموهم كلهم أو عاديتموهم كلهم، أو واليتم الكافرين وعاديتم المؤمنين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ . قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}  [التوبة: 23-24]. قال الشيخ الجزائري: "هذا إنذار الله تعالى للمؤمنين ينهاهم فيه عن اتخاذ من كفر من آبائهم وإخوانهم أولياء لهم يوادونهم ويناصرونهم ويطلعونهم على أسرار المسلمين وبواطن أمورهم. فيقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} أي بالله ورسوله ولقاء الله ووعده ووعيده {لا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ} أي اثروا الكفر والإِصرار عليه على الإِيمان بالله ورسوله ثم يهددهم إن لم يمتثلوا أمره ويفاصلوا آباءهم وإخوانهم المستحبين للكفر على الإِيمان فيقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، ووجه الظلم ظاهر وهو أنهم وضعوا المحبة موضع البغضاء، والنصرة موضع الخذلان.

والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، ثم أمر تعالى رسوله أن يقول لهم، وفي هذا العدول عن خطابهم مباشرة إلى الواسطة ما يشعر بالغضب وعدم الرضى، والتهديد والوعيد: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ}، فتركتم الهجرة والجهاد لذلك {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} أي انتظروا أمر الله وهو فتح مكة عليكم وإنزال العقوبة بكم، {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي لا يوفقهم لسبيل نجاتهم وسعاتهم.

من هداية الآيات:

1 - حرم اتخاذ الكافرين أولياء يُوادون ولو كانوا من أقرب الأقرباء كالأب والابن والأخ.

2 - من الظلم الفظيع موالاة من عادى الله ورسوله والمؤمنين.

3 - فرضية محبة الله ورسوله والجهاد في سبيله، ومحبة سائر محاب الله تعالى وكره سائر مكاره الله تعالى من العقائد والأحوال والأعمال الذوات والصفات.

4 - حرمان أهل الفسق المتوغلين فيه من هداية الله تعالى إلى ما يكملهم ويسعدهم [أيسر التفاسير(2/68)].

{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآَخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ . وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ . اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ . يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة 29-33]. لما أمر الله تعالى رسوله والمؤمنين بقتال المشركين حتى يتوبوا من الشرك ويوحدوا ويعبدوا الله تعالى بما شرع أمر رسوله في هذه الآية والمؤمنين بقتال أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى إلى أن يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وجعل إعطاء الجزية غايةً لنهاية القتال، لا الإِسلام لأن الإِسلام يعرض أولاً على أهل الكتاب فإن قبلوه فذاك وإن رفضوه يطلب الدخول في ذمة المسلمين وحمايتهم تحت شعار الجزية وهي رمز دال على قبولهم حماية المسلمين وحكمهم بشرع الله تعالى فإذا أعطوها حقنوا دماءهم وحفظوا أموالهم، وأمنوا في حياتهم المادية والروحية، هذا ما تضمنته الآية الكريمة.

من هداية الآية الكريمة:

1- وجوب قتال أهل الكتاب حتى يسلموا أو يدخلوا في حكم الإِسلام وذلك من أجل إعدادهم للإِسلام ليكملوا عليه ويسعدوا به.

2- الإِيمان غير الصحيح لا يعتبر إيماناً منجياً ولا مسعداً.

3 - استباحة ما حرم الله من المطاعم والمشارب والمناكح كفر صريح.

4 - مشروعية أخذ الجزية من أهل الكتاب وهي مقدّرة في كتب الفقه مبينة وهي بحسب غنى المرء وفقره وسعته وضيقه [أيسر التفاسير (2/71)].

{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36].  {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: 73]. {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 113-114]. 

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 123]. 

{وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [هود: 113]. {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ، وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52]. 

{وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ . وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [القصص: 86-87].

{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ . وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ . ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ . فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ . سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ . وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ . وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ . ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ . أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا . ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 1-11].

{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29]. 

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَ?ا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ . أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ . لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ . يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ . اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ . إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ . كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 14-21].

هذه الآيات نزلت في من تولى اليهود، فحكم الله تعالى عليهم بالنفاق، فمن آيات النفاق موالاة أعداء الله من اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين. [قال السعدي (1/848) يخبر تعالى عن شناعة حال المنافقين الذين يتولون الكافرين، من اليهود والنصارى وغيرهم ممن غضب الله عليهم، ونالوا من لعنة الله أوفى نصيب، وأنهم ليسوا من المؤمنين ولا من الكافرين، {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} فليسوا مؤمنين ظاهراً وباطناً لأن باطنهم مع الكفار، ولا مع الكفار ظاهراً وباطناً، لأن ظاهرهم مع المؤمنين، وهذا وصفهم الذي نعتهم الله به، والحال أنهم يحلفون على ضده الذي هو الكذب، فيحلفون أنهم مؤمنون، وهم يعلمون (1) أنهم ليسوا مؤمنين .. فجزاء هؤلاء الخونة الفجرة الكذبة، أن الله أعد لهم عذاباً شديداً، لا يقادر قدره، ولا يعلم وصفه، إنهم ساء ما كانوا يعملون، حيث عملوا بما يسخط الله ويوجب عليهم العقوبة واللعنة. 

{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} أي: ترساً ووقاية، يتقون بها من لوم الله ورسوله والمؤمنين، فبسبب ذلك صدوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل الله، وهي الصراط الذي من سلكه أفضى به إلى جنات النعيم. ومن صد عنه فليس إلا الصراط الموصل إلى الجحيم، {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} حيث استكبروا عن الإيمان بالله والانقياد لآياته، أهانهم بالعذاب السرمدي، الذي لا يفتر عنهم ساعة ولا هم ينظرون. {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} فلا تدفع عنهم شيئا من العذاب، ولا تحصل لهم قسطاً من الثواب، {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} الملازمون لها، الذين لا يخرجون عنها، {وهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ومن عاش على شيء مات عليه.

فكما أن المنافقين في الدنيا يموهون على المؤمنين، ويحلفون لهم أنهم مؤمنون، فإذا كان يوم القيامة وبعثهم الله جميعاً، حلفوا لله كما حلفوا للمؤمنين، ويحسبون في حلفهم هذا أنهم على شيء، لأن كفرهم ونفاقهم وعقائدهم الباطلة، لم تزل ترسخ في أذهانهم شيئاً فشيئا، حتى غرتهم وظنوا أنهم على شيء يعتد به، ويعلق عليه الثواب، وهم كاذبون في ذلك، ومن المعلوم أن الكذب لا يروج على عالم الغيب والشهادة، {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأذَلِّينَ . كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}. هذا وعدٌ ووعيد، وعيد لمن حاد الله ورسوله بالكفر والمعاصي، أنه مخذول مذلول، لا عاقبة له حميدة، ولا راية له منصورة. ووعد لمن آمن به، وبرسله، واتبع ما جاء به المرسلون، فصار من حزب الله المفلحين، أن لهم الفتح والنصر والغلبة في الدنيا والآخرة، وهذا وعد لا يخلف ولا يغير، فإنه من الصادق القوي العزيز الذي لا يعجزه شيء يريده]. {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]، فلا يجتمع في قلب إيمان بالله تعالى واليوم الآخر، وموالاة أعداء الله، المخالفين لدينه وشرعه.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الحشر: 11]. هذا حكم من الله تعالى من أن أولياء أعداءه هم المنافقون، وحكم عليهم بأنهم منهم، فمن تولى اليهودي فهو مثله، فكل من تولى أحدًا حكم الله عليه بأنه على شاكلته ومنه وأخيه. 

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ . إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ}.  {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة: 13]. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التحريم: 9]. {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ . وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}  [القلم: 8-9]. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ . إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ . جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِ?َ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 6-7]. فكيف يجتمعان {شَرُّ الْبَرِيَّةِ}، {خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}، وكيف يجتمع أهل النار و"أهل الجنة". فلا بد من البراءة من أهل الكفر والشرك بالله تعالى من اليهود والنصارى وغيرهم، كما فرق الله بين الفريقين.

تاسعًا: ذكر بعض الأحاديث والآثار في الولاء والبراء:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوثق عري الإيمان: الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، و البغض في الله» (رواه الطبراني (3/ 125 / 2) و البغوي في "شرح السنة"، وصححه الألباني في الصحيحة (998)). وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَبِي ذَرٍّ: «أَيُّ عُرَى الإِيمَانِ» -أَظُنُّهُ قَالَ-: «أَوْثَقُ؟»  قَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «الْمُوَالاةُ فِي اللهِ، وَالْمُعَادَاةُ فِي اللهِ، وَالْحُبُّ فِي اللهِ، وَالْبُغْضُ فِي اللهِ» [المعجم الكبير للطبراني (11/ 215) (11537 ) صحيح لغيره]. عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْمُشْرِكِينَ، لا تَرَاءَى نارَهُمَا» [رواه الترمذي في السير (1530) ، وأبو داود في الجهاد (2274)، والطبراني في الكبير (2215)، والبيهقي في السنن والآثار (5240)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي وصحيح أبي داود]. لا تتراءى ناراهما: يباعد منزله عن منزل المشرك ولا ينزل الموضع الذي إذا أوقدت فيه ناره رآها. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: "أَيْ يَلْزَمُ الْمُسْلِمَ وَيَجِبُ أَنْ يَتَبَاعَدَ مَنْزِلُهُ عَنْ مَنْزِلِ الْمُشْرِكِ، وَلا يَنْزِلُ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي إِنْ أُوقِدَتْ فِيهِ نَارُهُ تَلُوحُ وَتَظْهَرُ لِلْمُشْرِكِ إِذَا أَوْقَدَهَا فِي مَنْزِلِهِ، وَلَكِنَّهُ يَنْزِلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، هُوَ حَثٌّ عَلَى الْهِجْرَةِ." ا. هـ

عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ» [رواه الطبراني في الكبير (2216) والنسائي في القسامة (4698)، وصححه الألباني في صحيح النسائي]. عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَقَامَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ» [رواه البيهقي في السنن (9/12)، وابن أبي عصم في الآحاد والمثاني (2231)، والطبراني في الكبير (2212)، وعلي ابن عمر في الفوائد العوالي (115)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (6073)]. عن سَمُرَة بْنُ جُنْدَبٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لا تُسَاكِنُوا الْمُشْرِكِينَ، وَلا تُجَامِعُوهُمْ، فَمَنْ سَاكَنَهُمْ، أَوْ جَامَعَهُمْ، فَهُوَ مِثْلُهُمْ وفي لفظ فهو منهم» [رواه الترمذي في السير (1520) وصححه الألباني في صحيح الترمذي، ورواه البيهقي في السنن الكبرى (9/142)، والحاكم في المستدرك وصححه (2578)، والطبراني في الكبير (6762)، وأبو نعيم الأصبهاني في أخبار أصبهان (401)]. عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ» [رواه أبو داود في الجهاد باب الإقامة بأرض الشرك (2405)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود].

قَالَ الإِمَام اِبْن تَيْمِيَة: "الْمُشَابَهَة وَالْمُشَاكَلَة فِي الأُمُور الظَّاهِرَة تُوجِب مُشَابَهَة وَمُشَاكَلَة فِي الأُمُور الْبَاطِنَة، وَالْمُشَابَهَة فِي الْهُدْي الظَّاهِر تُوجِب مُنَاسَبَة وَائْتِلافًا وَإِنْ بَعُدَ الزَّمَان وَالْمَكَان، وَهَذَا أَمْر مَحْسُوس، فَمُرَافَقَتهمْ وَمُسَاكَنَتهمْ وَلَوْ قَلِيلاً سَبَب لِنَوْعٍ مَا مِنْ اِنْتِسَاب أَخْلاقهمْ الَّتِي هِيَ مَلْعُونَة، وَمَا كَانَ مَظِنَّة لِفَسَادٍ خَفِيّ غَيْر مُنْضَبِط عُلِّقَ الْحُكْم بِهِ وَأُدِيرَ التَّحْرِيم عَلَيْهِ، فَمُسَاكَنَتهمْ فِي الظَّاهِر سَبَب وَمَظِنَّة لِمُشَابَهَتِهِمْ فِي الأَخْلاق وَالأَفْعَال الْمَذْمُومَة بَلْ فِي نَفْس الاعْتِقَادَات، فَيَصِير مُسَاكِن الْكَافِر مِثْله وَأَيْضًا الْمُشَارَكَة فِي الظَّاهِر تُورِث نَوْع مَوَدَّة وَمَحَبَّة وَمُوَالَاة فِي الْبَاطِن، كَمَا أَنَّ الْمَحَبَّة فِي الْبَاطِن تُورِث الْمُشَابَهَة فِي الظَّاهِر، وَهَذَا مِمَّا يَشْهَد بِهِ الْحَسَن، فَإِنَّ الرَّجُلَيْنِ إِذَا كَانَا مِنْ بَلَد وَاجْتَمَعَا فِي دَار غُرْبَة كَانَ بَيْنهمَا مِنْ الْمَوَدَّة وَالائْتِلاف أَمْر عَظِيم بِمُوجِبِ الطَّبْع. وَإِذَا كَانَتْ الْمُشَابَهَة فِي أُمُور دُنْيَوِيَّة تُورِث الْمَحَبَّة وَالْمُوَالاة فَكَيْف بِالْمُشَابَهةِ فِي الأُمُور الدِّينِيَّة، فَالْمُوَالاة لِلْمُشْرِكِينَ تُنَافِي الإِيمَان {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} " اِنْتَهَى كَلامه. 

وَقَالَ اِبْن الْقَيِّم فِي كِتَاب الْهَدْي النَّبَوِيّ: "وَمَنَعَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم مِنْ إِقَامَة الْمُسْلِم بَيْن الْمُشْرِكَيْنِ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْهِجْرَة مِنْ بَيْنهمْ وَقَالَ: «أَنَا بَرِيء مِنْ كُلّ مُسْلِم يُقِيم بَيْن أَظْهُر الْمُشْرِكِينَ» قِيلَ: يَا رَسُول اللَّه وَلِمَ؟ قَالَ: «لا تَرَاءَى نَارَاهُمَا»، وَقَالَ: «مَنْ جَامَعَ مَعَ الْمُشْرِك وَسَكَنَ مَعَهُ فَهُوَ مِثْله»، وَقَالَ: «لا تَنْقَطِع الْهِجْرَة حَتَّى تَنْقَطِع التَّوْبَة، وَلا تَنْقَطِع التَّوْبَة حَتَّى تَطْلُع الشَّمْس مِنْ مَغْرِبهَا» وَقَالَ: «سَتَكُونُ هِجْرَة بَعْد هِجْرَة، فَخِيَار أَهْل الأَرْض أَلْزَمُهُمْ مَهَاجِر إِبْرَاهِيم، وَيَبْقَى فِي الأَرْض شِرَار أَهْلهَا، يَلْفِظهُمْ أَرَضُوهُمْ، تُقْذِرهُمْ نَفْس اللَّه وَيَحْشُرهُمْ اللَّه مَعَ الْقِرَدَة وَالْخَنَازِير»" اِنْتَهَى [عون المعبود (6/242)].

وقَالَ جَرِيرٌ رضي الله عنه: "أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُبَايِعُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْسُطْ يَدَكَ حَتَّى أُبَايِعَكَ وَاشْتَرِطْ عَلَيَّ فَأَنْتَ أَعْلَمُ، قَالَ: «أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتُنَاصِحَ الْمُسْلِمِينَ، وَتُفَارِقَ الْمُشْرِكِينَ» وفي رواية: «وتبرأ من الكافر»  [رواه النسائي في البيعة باب البيعة على فراق الشرك (4106)، وأحمد (18386)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/13)، وصححه الألباني في صحيح النسائي]. 

عن يَزِيد بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ قَالَ: "كُنَّا بِالْمِرْبَدِ جُلُوسًا فَأَتَى عَلَيْنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ لَمَّا رَأَيْنَاهُ قُلْنَا هَذَا كَأَنَّ رَجُلٌ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ، قَالَ: أَجَلْ، فَإِذَا مَعَهُ كِتَابٌ فِي قِطْعَةِ أَدِيمٍ قَالَ وَرُبَّمَا قَالَ فِي قِطْعَةِ جِرَابٍ، فَقَالَ: هَذَا كِتَابٌ كَتَبَهُ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا فِيهِ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِبَنِي زُهَيْرِ بْنِ أُقَيْشٍ وَهُمْ حَيٌّ مِنْ عُكْلٍ: إِنَّكُمْ إِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلاةَ، وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ، وَفَارَقْتُمْ الْمُشْرِكِينَ وَأَعْطَيْتُمْ الْخُمُسَ مِنْ الْمَغْنَمِ ثُمَّ سَهْمَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّفِيَّ وَرُبَّمَا قَالَ وَصَفِيَّهُ، فَأَنْتُمْ آمِنُونَ بِأَمَانِ اللَّهِ تبارك وتعالى وَأَمَانِ رَسُولِهِ»" [رواه أحمد (19813)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/13)، وصححه الألباني في الصحيحة (2857)]. عن معاوية بن حيدة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ مُشْرِكٍ أَشْرَكَ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ عَمَلاً، حَتَّى يُفَارِقَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ» [رواه ابن ماجه في الحدود باب المرتد عن دينه (2527)، وأحمد (19182)، والنسائي في الزكاة (2125) , والحاكم في المستدرك (8927)، وحسنه الألباني في الصحيحة (369)].

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلا النَّصَارَى بِالسَّلامِ، فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ» [رواه مسلم في السلام (4030)، والترمذي في الاستئذان (2624)، وأبو داود في الطهارة (128)، وأحمد (9349)، والبيهقي في شعب الإيمان (8625)]. وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» [مسند أحمد ط الرسالة (9/ 123) (5114) حسن]. فمن تشبه بأهل الإيمان فهو منهم، ومن تشبه بأهل الكفر من اليهود والنصارى أو غيرهم من المشركين فهو منهم. وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو قَالَ: "مَنْ بَنَى فِي بِلادِ الأَعَاجِمِ فَصَنَعَ نَوْرُوزَهُمْ وَمِهْرَجَانَهُمْ وَتَشَبَّهَ بِهِمْ حَتَّى يَمُوتَ وَهُوَ كَذَلِكَ حُشِرَ مَعَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" [السنن الكبرى للبيهقي (9/ 392) (18864) صحيح]. وعَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ قَالَ: "سَمِعْتُ عِيَاضًا الأَشْعَرِيَّ، أَنَّ أَبَا مُوسَى رضي الله عنه وَفَدَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنهما، وَمَعَهُ كَاتَبٌ نَصْرَانِيُّ، فَأَعْجَبَ عُمَرَ رضي الله عنه مَا رَأَى مِنْ حِفْظِهِ، فَقَالَ: "قُلْ لِكَاتِبِكَ يَقْرَأْ لَنَا كِتَابًا"، قَالَ: إِنَّهُ نَصْرَانِيٌّ، لا يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ، فَانْتَهَرَهُ عُمَرُ رضي الله عنه، وَهَمَّ بِهِ، وَقَالَ: "لا تُكْرِمُوهُمْ إِذْ أَهَانَهُمُ اللهُ، وَلا تُدْنُوهُمْ إِذْ أَقْصَاهُمُ اللهُ، وَلا تَأْتَمِنُوهُمْ إِذْ خَوَّنَهُمُ اللهُ عز وجل" [السنن الكبرى للبيهقي (10/ 216) (20409) صحيح].

عَنْ عِيَاضٍ: "أَنَّ عُمَرَ أَمَرَ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ أَنْ يَرْفَعَ إِلَيْهِ مَا أَخَذَ وَمَا أَعْطَى فِي أَدِيمٍ وَاحِدٍ وَكَانَ لَهُ كَاتِبٌ نَصْرَانِيٌّ، فَرَفَعَ إِلَيْهِ ذَلِكَ فَعَجِبَ عُمَرُ وَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَحَفِيظٌ هَلْ أَنْتَ قَارِئٌ لَنَا كِتَابًا فِي الْمَسْجِدِ جَاءَ مِنَ الشَّامِ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ لا يَسْتَطِيعُ، قَالَ عُمَرُ: أَجُنُبٌ هُوَ؟ قَالَ: لا بَلْ نَصْرَانِيٌّ قَالَ: فَانْتَهَرَنِي وَضَرَبَ فَخِذِي قَالَ: أَخْرِجُوهُ ثُمَّ قَرَأَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} " [تفسير ابن أبي حاتم، الأصيل مخرجاً (4/1156) (6510) حسن]. وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "أَحِبَّ فِي اللهِ وَأَبْغِضْ فِي اللهِ وَوَالِ فِي اللهِ، وَعَادِ فِي اللهِ، فَإِنَّهُ لا تُنَالُ وِلايَةُ اللهِ إِلا بِذَلِكَ، وَلا يَجِدُ رَجُلٌ طَعْمَ الإِيمَانِ وَإِنْ كَثُرَتْ صَلاتُهُ وَصِيَامُهُ حَتَّى يَكُونَ كَذَلِكَ، وَصَارَتْ مُؤَاخَاةُ النَّاسِ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا، وَإِنَّ ذَلِكَ لا يَجْزِي عَنْ أَهْلِهِ شَيْئًا" [المعجم الكبير للطبراني (12/ 417) (13537) حسن لغيره].

وعَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: "يَا مُجَاهِدُ أَحِبَّ فِي اللَّهِ، وَأَبْغِضْ فِي اللَّهِ، وَوَالِ فِي اللَّهِ، وَعَادِ فِي اللَّهِ، فَإِنَّمَا تَنَالُ مَا عِنْدَ اللَّهِ بِذَلِكَ، وَلَنْ يَجِدَ عَبْدٌ حَلاوَةَ الإِيمَانِ وَإِنْ كَثَّرَ صَلاتَهُ وَصِيَامَهُ حَتَّى يَكُونَ كَذَلِكَ، وَقَدْ صَارَتْ مُؤَاخَاةُ النَّاسِ الْيَوْمَ أَوْ عَامَّتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ لا يُجْزِئُ عَنْ أَهْلِهِ شَيْئًا، ثُمَّ قَرَأَ { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}، وَقَرَأَ {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}" [تعظيم قدر الصلاة لمحمد بن نصر المروزي (1/ 406) (396) حسن]. وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ: "لِيَتَّقِ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ، يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَهُوَ لا يَشْعُرُ، قَالَ: فَظَنَنَّاهُ أَنَّهُ يُرِيدُ هَذِهِ الآيَةَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}" [تفسير ابن أبي حاتم، الأصيل مخرجاً (4/ 1156)(6511 ) صحيح].

عاشرًا: تفسير سورة "الكافرون" سورة الكافرون. بسم الله الرحمن الرحيم.   {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ . لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ . وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ . وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}. {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}: نداء للمشركين بمكة، لما عرضوا عليه أن يترك دعوته ويملّكوه عليهم أو يعطوهم المال ما يرضيه ونحوه فرفض، فقالوا: تقبل منا ما نعرضه عليك: تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فسكت عنهم فنزلت، وقالوا له: إن يكن الخير معنا أصبته، وإن يكن معك أصبناه. وفي مجيء: قل، مع أن مقول القول كان قد يكفي في البلاغ، ولكن مجيئها لغاية فما هي؟ قال الفخر الرازي: إما لأنهم عابوه صلى الله عليه وسلم في السورة التي قبلها بقولهم: إنه أبتر فجاء قوله: {قُلْ}، إشعاراً بأن الله يرد عن رسوله بهذا الخطاب، الذي ينادي عليهم في ناديهم بأثقل الأوصاف عليهم، فقال له: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}. أو أنه لما كان هذا الخطاب فيه مغايرة المألوف من تخاطبه معهم من أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة، وكان فيه من التقريع لهم ومجابهتهم، قال له: قل: إشعاراً بأنه مبلغ عن الله ما أمر به، وجاءت يا، وهي لنداء البعيد، لبعدهم في الكفر والعناد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ . وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ . وَلا أَنْت?مْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}. قيل، تكرار في العبادات للتوكيد، كتكرار {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}، وتكرار {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. ونظيره في الشعر أكثر من أن يحصر، من ذلك ما أورده القرطبي رحمه الله:

هلا سألت جموع كندة *** يوم ولو أين أينا

وقول الآخر:

يا علقمة يا علقمة يا علقمة *** خير تميم كلها وأكرمه

وقيل: ليس فيه تكرار، على أن الجملة الأولى عن الماضي والثانية عن المستقبل. وقيل: الأولى عن العبادة، والثانية عن المعبود. وقيل غير ذلك، على ما سيأتي إن شاء الله. والسورة في الجملة نص على أنه صلى الله عليه وسلم لا يعبد معبودهم، ولا هم عابدون معبوده وقد فسره قوله تعالى: {فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بريائون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ}. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه الكرم على هذا المعنى، عند آية يونس تلك، وذكر هذه السورة هناك. وقد ذكر أيضاً في دفع إيهام الاضطراب جواباً على إشكال في السورة وهو قوله تعالى: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ}، نفى لعبادة ل منهما معبود الآخر مطلقاً، مع أنه قد آمن بعضهم فيما بعد وعبد ما يعبده صلى الله عليه وسلم، وأجاب عن ذلك بأحد أمرين: موجزهما أنهما من جنس الكفار، وإن أسلموا فيما بعد فهو خطاب لهم ما داموا كفاراً إلى آخره، أو أنها من العام المخصوص، فتكون خاص بالحاضر، لأن ما إذا دخلت على اسم الفاعل تعينه للحاضر.

وناقشه أبو حيان، بأن ذلك في مغالب لا على سبيل القطع. والذي يظهر من سياق السورة، قد يشهد لما ذهب إليه الزمخشري، وهو أن السورة تتكلم عن الجانبين على سبيل المقابلة جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وجهة الكفار في عدم عبادة كل منهما معبود الآخر. ولكنهما لم تساوى في اللفظ بين الطرفين، فمن جهة الرسول صلى الله عليه وسلم جاء في الجملة الأولى {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} عبر عن كل منهما بالفعل المضارع الدال على الحال: أي لا أعبد الآن ما تعبدون الآن بالفعل. ثم قال: {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} فعبر عنهم بالاسمية وعنه هو بالفعلية، أي ولا أنتم متصفون بعبادة ما أعبد الآن. وفي الجملة الثانية قال: {وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ . وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ} مَآ أَعْبُدُ فعبر عنه بأنه ليس متصفاً بعبادة ما يعبدون ولا هم عابدون ما يعبد، فكان وصفه هو صلى الله عليه وسلم في الجملتين بوصفين مختلفين بالجملة الفعلية تارة وبالجملة الاسمية تارة أخرى، فكانت إحداهما لنفي الوصف الثابت، والأخرى لنفي حدوثه فيما بعد. أما هم فلم يوصفوا في الجملتين إلا بالجملة الاسمية الدالة على الوصف الثابت، أي في الماضي إلى الحاضر، ولم يكن فيما وصفوا به جملة فعلية من خصائصها التجدد والحدوث، فلم يكن فيها ما يتعرض للمستقبل فلم يكن إشكال، والله تعالى أعلم [أضواء البيان (9/319)].

{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} فأحالهم على عبادتهم، ولم يحلهم على معبودهم. هو نظير ما تقدم في سورة يونس: {أَنتُمْ بريائون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ}، وكقوله: {وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ}، وليس في هذا تقريرهم على دينهم الذي هم عليه، ولكن من قبيل التهديد والوعيد كقوله: {وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}. وفي هذه السورة قوله: {قُلْ يا أيها الكافرون} وصف يكفي بأن عبادتهم وديانتهم كفر. وقد قال لهم الحق: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}؛ لأنها عبادة باطلة. عباد الكفار، وبعد ذلك إن أبيتم إلا هي، فلكم دينكم ولي دين. [أضواء البيان (9/220)]. ونكتفي بهذا القدر المختصر من التفسير، لما ذكرناه من بداية البحث ويه كفاية إن شاء الله.

أخيرًا:

نسأل الله تعالى أن يكون الأمر قد تبين، وأن يرد المسلمين إلى دينهم ردًا جميلاً، فالمحبة في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم. كما أن الولاء لا يكون إلا لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين، وهذا من أعظم واجبات الدين، وأهم أركان التوحيد.. والبغض والمعاداة لا بد وأن يكون لكل أعداء الله تعالى من اليهود والنصارى ولجميع المشركين على اختلاف مللهم ونحلهم، وهذا أمر واجب من أعظم واجبات الدين. وعلى ذلك دلت نصوص الكتاب والسنة كما سبق. هذا.. وقد عقد الكثير من علماء الأمة "أهل السنة والجماعة" العديد من الكتب والرسائل القيمة التي تتحدث عن عقيدة الولاء والبراء، وفيها بيان شافٍ لهذه العقيدة المهمة، فلا بد لمن أراد السلامة لدينه أن يهتم بهذه الكتب، والحرص على دراستها وتعلمها.

وفي الختام نسأل الله العلي القدير أن يجعلنا من أولياءه الصالحين، وحزبه المفلحين، وجنده المخلصين، وأن يغفر لنا ويرحمنا والمسلمين أجمعين. وصلِ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله ربِّ العالمين.

  • 64
  • 39
  • 605,244

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً