ثورة العمل والتعاون..

منذ 2013-02-25

لكي نعمل العمل الذي يرضي الله ويؤدي شكر نعمته: نحتاج إلى كل القوى وبذل أقصى جهد ممكن فتتضافر الجهود، لذلك كان أول عمل للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة هو: توحيد الأمة، وكان أول خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة -أول تصريح وأول هدف- هو: التعاون على البر والتقوى..


بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ.

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين ورحمة الله للعالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا ومعلمنا محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم. اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما عدد ما أحاط به علمك وخط به قلمك وأحصاه كتابك، وارض اللهم عن سادتنا أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وارض اللهم عنا معهم أجمعين اللهم آمين.

أورد الحافظ بن كثير في البداية والنهاية: أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عسّ المدينة ذات ليلة -عام الرمادة- فلم يجد أحدًا يضحك ولا يتحدث الناس في منازلهم على العادة، ولم يرى سائلًا يسأل، فسأل عن سبب ذلك فقيل له: يا أمير المؤمنين إن السُؤَّال سألوا فلم يُعطوا فقطعوا السؤَال، والناس في همٍّ وضيق فهم لا يتحدثون ولا يضحكون..

فكتب عمر إلى أبي موسى بالبصرة أن: يا غوثاه لأمة محمد، وكتب إلى عمرو بن العاص بمصر أن: يا غوثاه لأمة محمد..
فبعث إليه كل واحد منهما بقافلة عظيمة تحمل البُر وسائر الأطعمة، ووصلت ميرة عمرو في البحر إلى جدة ومن جدة إلى مكة.. وهذا الأثر جيد الإسناد (البداية والنهاية).
ولكأني بأهل مصر وهم يسمعون رسالة عمر بن الخطاب وهم يبكون، ولكأني بعمرو بن العاص -رضي الله عنه- حين شاهد الكرم المصري، ولكأني بقوافل الطعام والكساء تُحمل من أهل مصر الكرام لإخوانهم وأهليهم في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولطالما كانت مصر هي التي تبعث بكسوة الكعبة تكريمًا وتشريفًا لمصر..

نلمح من هذا الموقف أن عمر: وما أدراك ما عمر؟! أصيب الناس وهم تحت إمرته وحكمه بالمجاعة فلم يكن عيبا لا في عمر ولا في حكم عمر، وقد كان يحكم بالإسلام وبالشرع وإنما هي حِكَمُ الله في عباده، ففي ظل الحق والصواب قد نصاب بالمصائب والنقص والابتلاءات، وتكون نعمة من الله علي عباده وقتئذ.. وكما يقال: (الضربة التي لا تكسر ظهرك تقويه).

انظر: ماذا قال بنو إسرائيل وقت انتصار موسى على السحرة وتوعد فرعون لهم بالعذاب في أولى جولات الحق والباطل؟ {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129]. فنحن في وقت العمل.. بل دقق معي في قول الله: {كَيْفَ تَعْمَلُونَ}. ولم يقل: ماذا تعملون؟ بل قال: كيف...

قال الشيخ الشعراوي: إزالة الشيء الضار نعمة بمفردها، أما أن يهلك الله عدوي ويعطيني الله مكانة عدوي العالية فهذه نعمة إيجاب تكون بعد نعمة سلب، وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} وتلك وحدها نعمة تليها نعمة أخرى هي: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرض} لكن ثمن هذه النعم هو أن ينظر: ماذا تعملون؟ هل ستشكرون هذه النعم وتكونون عباداً صالحين أو تجحدونها وتكفرونها؟ فالإِنسان ظلوم كفار (تفسير الشعراوي).

وبنو إسرائيل لم يعوا الدرس ولم يعملوا شكرًا لنعمة ربهم.. ولعل هذا سبب ذكر الله قصة بني إسرائيل لنا باستفاضة حتى لا نكون مثلهم.. -أعاذنا الله من هذا الشر والجحود-.
فنحن الآن محل نظر الله واختباره لنا بعد سجن الظالمين ومحاكمة المفسدين المضللين، وهذه نعمة تستوجب العمل شكرًا: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]. فالشكر عمل متواصل...

حاجة الأمة لتضافر الجهود:
لكي نعمل العمل الذي يرضي الله ويؤدي شكر نعمته: نحتاج إلى كل القوى وبذل أقصى جهد ممكن فتتضافر الجهود، لذلك كان أول عمل للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة هو: توحيد الأمة، الأنصار فيما بينهم، الأوس والخزرج، والتي كانت الحروب بينهم طاحنة، والمسلمين فيما بينهم المهاجرين والأنصار، وأهل المدينة جميعهم المسلمين واليهود، ووثيقة المدينة -دستور للبلاد- دستور التعاون والمواطنة دفاعًا عن البلاد والعباد، فعلى الجميع الإخوان المسلمون والسلف وباقي الجماعات أن تتوحد فيما بينها، وعلى السياسيين والقادة والمفكرين والعلماء حتى غير المسلمين على الجميع: أن يتوحدوا لعبور تلك الأزمة والخروج من ذلك المأزق مستعينين بالله رب العالمين، وأن من فرَّق المصريين إلي شيع وجماعات كانت في بعض الأحيان متناحرة هو: ذلك النظام البائد -المخلوع- ليسود هو.. ولم يحدث بيننا حروب كما كانت بين العرب قبل الإسلام، وجاء الإسلام بالخير ووحد الناس لمواجهة أعداء الخير والإصلاح..

وكان أول خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة -أول تصريح وأول هدف- هو: التعاون على البر والتقوى..
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ قَالَ: "لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَبَنْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، وَكَانَ أَوَّلَ شَيءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: «{C}{C}أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلاَمَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِسَلاَمٍ{C}{C}»" (قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ).
وفي رواية ابن ماجة زيادة: «وَصِلُوا الأَرْحَامَ» وفي أخرى: «وَكُونُوا إِخْوَاناً كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» (ابن ماجة، وأحمد). والخطاب لعموم الناس، لكل سكان المدينة..

ولقد خلق اللهُ سبحانه الإنسان مدنيًّا بطبعه، لا تستقِيم حياته ولا يدوم بقاؤه إلا بِمعاونة غيره له، فقد سخر اللهُ عز وجل الناس بعضهم لبعضٍ في: (الغذاء والكساء، والتصنيع والحماية) فلا يستطيع أحد أنْ يستقِلَّ بنفسه، لذلك لابدَّ من التعاون بين الناس لقيام المجتمعات وبناء الحضارات وتقدم الشعوب ورفعتها وازدهارها، ولا يمكن أَن يعيش الفرد بدون معونة الآخرين، ولا يحيا حياة آمنة مطمئنَّة بدون تعاون مع غيره..

ويقول الشاعر:
 

الناس للناس من بدو وحاضرة‏ *** بعـض لبعض وإن لم يشعروا خدم‏

الناس اليوم تنتظر منقذا من السماء (أيناك يا ابن الخطاب؟ أين صلاح الدين؟) نريد رئيس أو رئيس وزراء يفعل ويفعل وكأن معه عصًا سحرية، وينسى نفسه ولا ينسى أن له دورًا لابد أن يؤديه.. فحتى لو جاء المنقذ فلن يقيم الحياة وحده...

موسى عليه السلام وهو النبي يقول:
{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي . وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي . وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي . يَفْقَهُوا قَوْلِي . وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي . هَارُونَ أَخِي . اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي . وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 25 - 32]. لقد طلب إلى ربه أن يشرح له صدره.. وانشراح الصدر يحوِّل مشقة التكليف إلى متعة، ويحيل عناءه لذة، ويجعله دافعاً للحياة لا عبئاً يثقل خطى الحياة.. وطلب إلى ربه أن ييسر له أمره.. وتيسير الله لعباده هو ضمان النجاح، وإلا: فماذا يملك الإنسان بدون هذا التيسير؟ ماذا يملك وقواه محدودة وعلمه قاصر، والطريق طويل وشائك ومجهول؟ وطلب إلى ربه أن يحل عقدة لسانه فيفقهوا قوله.. وقد روي أنه كانت بلسانه (حبسة) والأرجح أن هذا هو الذي عناه ويؤيده ما ورد في سورة أخرى من قوله: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} [القصص: 34]. {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} [الفرقان: 35]. (في ظلال القرآن)..
فإذا كان موسى وهو النبي المرسل وكليم الله عز وجل طلب (المُعِين) فكيف بنا نحن؟! لأنه لن يغير الكون وحده بل يحتاج إلى الوزير المعين ليغير وليكمل موسى.

ذو القرنين:
أعطى الله سبحانه ذا القرنين مُلكًا عظيمًا، فكان يطوف الأرض كلها من مشرقها إلى مغربها، وقد مكَّن الله له في الأرض، وأعطاه القوة والسلطان، فكان يحكم بالعدل ويطبق أوامر الله..
وذو القرنين الذي قال الله عنه: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف: 84]. فوجد هنالك قوماً (متخلفين): {قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} [الكهف: 93]. وعندما وجدوا فاتحاً قوياً وتوسموا فيه القدرة والصلاح عرضوا عليه: أن يقيم لهم سداً في وجه يأجوج ومأجوج الذين يهاجمونهم ويعيثون في أرضهم فساداً، ولا يقدرون هم على دفعهم وصدهم وذلك في مقابل خراج من المال يجمعونه له من بينهم، وتبعاً للمنهج الصالح الذي أعلنه ذلك الحاكم الصالح من مقاومة الفساد في الأرض فقد رد عليهم عرضهم الذي عرضوه من المال، وتطوع بإقامة السد، ورأى أنّ أيسر طريقة لإقامته هي ردم الممر بين الحاجزين الطبيعيين، فطلب إلى أولئك القوم (المتخلفين) أن يعينوه بقوتهم المادية والعضلية: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف: 95]. (في ظلال القرآن).
فهو ذو عقل ولديه فكر، وهم لا يكادون يعقلون، ولكنهم أصحاب قوة عضلية ومالية.. فتتجمع القوى لتحارب الفساد، فعليهم أن يُنَقِّبُوا ويبحثوا في الصحراء والجبال حتى يحضروا حديدًا كثيرًا لإقامة السد ولا ينتظرون من يعمل لهم ويكدح من أجلهم وهم نائمون..

وجوب التعاون بين الناس:
كان المبدأ العربي المشهور: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" وهو المبدأ الذي يعبر عنه الشاعر الجاهلي وهو يقول:
 

وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت.. وإن تــرشــد غـزية أرشـد

كانت حمية الجاهلية ونعرة العصبية، كان التعاون على الإثم والعدوان أقرب وأرجح من التعاون على البر والتقوى، وكان الحلف على النصرة في الباطل قبل الحق، وندر أن قام في الجاهلية حِلف للحق.. وذلك طبيعي في بيئة لا ترتبط بالله، ولا تستمد تقاليدها ولا أخلاقها من منهج الله وميزان الله، ثم جاء الإسلام جاء المنهج الرباني للتربية.. جاء ليقول للذين آمنوا: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2].
تعاونوا على خير الدنيا والآخرة: جاء ليربط القلوب بالله، وليربط موازين القيم والأخلاق بميزان الله.. جاء ليخرج العرب ويخرج البشرية كلها من حمية الجاهلية ونعرة العصبية، وضغط المشاعر والانفعالات (الشخصية والعائلية والعشائرية) في مجال التعامل مع الأصدقاء والأعداء.. (في ظلال القرآن).
وأرسى مبدأ جديدا هو نفس المبدأ ولكن بمفهوم إسلامي، فضُبِط وعُدِّل، روى البخاري عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِماً أَوْ مَظْلُوماً» قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُوماً، فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِماً؟ قَالَ: «تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ».

التعاون سمة المؤمنين:
يقول الحق تبارك وتعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71].
وفي الحديث: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، يَرُدُّ مُشِدُّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ وَمُتَسَرِّعُهُمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ، لاَ يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلاَ ذُو عَهْدٍ فِى عَهْدِهِ» (أبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وأحمد، وصححه الألباني).

ولنا في سيدنا إبراهيم -عليهِ السلامُ- القدوةُ الحسنةُ: حينمَا أمرَهُ ربُّهُ ببناءِ البيتِ قَالَ: "يَا إِسْمَاعِيلُ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ.. قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ.. قَالَ وَتُعِينُنِي قَالَ: وَأُعِينُكَ.. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِي هَا هُنَا بَيْتاً.. وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ، فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي.. حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ فَقَامَ عَلَيْهِ وَهْوَ يَبْنِي، وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَهُمَا يَقُولاَنِ: {{C}{C}رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ{C}{C}} قَالَ: فَجَعَلاَ يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْلَ الْبَيْتِ وَهُمَا يَقُولاَنِ: {{C}{C}رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ{C}{C}}" (رواه البخاري).

وفي الذبح عاون ابنه على طاعة الله، فقد كان في إمكانه أن يذبحه فجأة ولكن ليربيه ويشاركه في الأجر: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102].

وفِي الأسرة والبيت تتجلى الحاجة إلى التعاون بين أفراد الأسرة جميعا من الزوجين والأَولاد، وكل فرد فيها مطالب بأن يساعد الآخر في واجبِه، وأنْ يُسْهِمَ في تكوين الأسرة وبنائها واستقرارها وسعادتها، فالزوج والزوجة يتعاونان على تأسيس هذه الأسرة على التفاهم والمودة والرحمة، بأن يعرف كل منهما واجبه تجاه أسرته لأن مسؤوليتهما مشتركة.

وقد كان سيدنَا محمَّد صلى الله عليه وسلم يحقق مبدأ التعاون مع أهله:
روى: البخاري عَنِ الأَسْوَدِ قَالَ: "سَأَلْتُ عَائِشَةَ: مَا كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ -تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ- فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ".
وروى: أحمد، وصححه الألباني قِيلَ لِعَائِشَةَ: "مَا كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: كَمَا يَصْنَعُ أَحَدُكُمْ يَخْصِفُ نَعْلَهُ وَيُرَقِّعُ ثَوْبَهُ" وهو صلى الله عليه وسلم النبي صاحب الرسالة وحاكم البلاد، والقاضي بين الناس وقائد الجيوش، ومعلم الأمة والمسئول عن الإسلام كله...

ومجتمع الصحابة رضوان الله عليهم كان كله يتمثل هذا النموذج: "كما يصنع أحدكم" حتى مع خَدَمِهم، وحث النبي صلى الله عليه وسلم على معونة الخدم: روى: البخاري، ومسلم عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: "مَرَرْنَا بِأَبِي ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ وَعَلَى غُلاَمِهِ مِثْلُهُ فَقُلْنَا: يَا أَبَا ذَرٍّ لَوْ جَمَعْتَ بَيْنَهُمَا كَانَتْ حُلَّةً، فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ إِخْوَانِي كَلاَمٌ وَكَانَتْ أَمُّهُ أَعْجَمِيَّةً فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ فَشَكَانِي إِلَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَلَقِيتُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «{C}{C}يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ{C}{C}» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ سَبَّ الرِّجَالَ سَبُّوا أَبَاهُ وَأُمَّهُ قَالَ: «{C}{C}يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ هُمْ إِخْوَانُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُم{C}{C}»".

أهمية التعاون:
عباد الله: وللتعاون أهمية بالغة في تماسك المجتمع وقوته ونشر المحبة فيه، وتحقيق التكافل بين أفراده.. لذلك شرع الإسلام الزكاة ورغب فِي الصدقة والوقف بكل أنواعه وجميع أبوابه، وحث على الإحسان للجيران ومعاونتهم، وعيادة المرضى والوقوف بجانبِهم، ومساعدة المحتاجين وإدخال السرور على قلوبهم، ودعا جميع أفراد المجتمع الواحد أنْ يتعاونوا فيما بينهم في جميع أمورهم وأحوالهم.. روى: البخاري، ومسلم عَنْ أَبِي مُوسَى -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً» وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ..
وروى: البخاري، ومسلم عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى». الرأس له مهمة والعين لها مهمة والشعر له مهمة... فأنا وأنت عضو في هذا الجسد وعلى كل عضو القيام بدوره، ولا تستصغر دورك صغر أم كبر..

التَّعاون هو سبيل النجاح:
أيها المؤمنون: إن التعاون هو سبيل النجاح وإدراك الغايات السامية والأهداف النبيلة، ففي ميدان التعليم يجب أن تتضافر جميع الجهود لتحقيق الأهداف المرجوة من التعليم، فالمعلم لا يعمل من أجل المرتب آخر الشهر بل لأنه: (صاحب رسالة) فالآباء والأمهات بالمراقبة والمتابعة، والمدرسون والمدَّرساتِ بأداء الأمانة، والطُّلاب بالجدِّ والاجتهاد، والمفكِّرون بتقديم أبحاث لتطوير التَّعلِيم، والإعلاميُّونَ ببثِّ النشاط وتقوية العزيمة في نفوس أبناء المجتمع، ورجال الأعمال بدعم العلم والأبحاث العلميَّة عن طريق: الوقف والمساهمة فِي تطوير المؤسسات التعليميَّة ورعاية الْمُبْدعين والمتفوقين، وبذلك يستحقُّ الجميع ثواب الدَّلالةِ على الخير.. روى: مسلم عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيّ قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي أُبْدِعَ بِي فَاحْمِلْنِي فَقَالَ: «{C}{C}مَا عِنْدِي{C}{C}» فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَدُلُّهُ عَلَى مَنْ يَحْمِلُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «{C}{C}مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ{C}{C}»".

واعلموا أن التعاون مطلوب من كل فرد من أفراد هذَا المجتمع، كلٌ في مجال عمله واختصاصه، فالعلماءُ والوعاظ وأئمة المساجد لهم رسالة: يتعاونون على غرس القيم الإيمانية والأخلاقية ونشر منهج الوسطية والاعتدال، وبيان أحكام الدين بيسر وسماحة.. والأطباء: يتعاونون على علاج المرضى وتحقيق الأمن الصِّحِّيِّ لمجتمعهم..
وجميع أفراد المجتمع: يتعاونون في المحافظة على أمن هذا الوطن واستقراره وصيانة ممتلكاته ومقدَّراته، ونظافة بيئته وشوارعه وطرقه.. وبذلك نكون مساهمين في المحافظة على جسد الأمة وعلى تقدمه ورقيِّه وتَطوره وازدهاره، وقيام الموظفين بأعمالهم وأداء واجبهم الوظيفي هو من التعاون على البر والتقوى، لأن المسلمين بحاجة إلى خدماتهم وخبراتهم كلٌ في مجاله: (الفلاح في حقله، والعامل في المصنع، والتاجر والحرفي والشرطي و....).

فضل التعاون:
روى: البخاري، ومسلم عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ».

لاشك أن أعظم ثمرة يجنيها المسلم من إعانته لأخيه هي: ذاك العون والمدد من الله تبارك وتعالى، وكيف لا ولا حول للإنسان ولا قوة إلا بالله عز وجل، وهو سبحانه المتصرف في هذا الكون وهو المعطي والمانع، بيده قلوب العباد يقلبها كيف يشاء، فيُلْهِم الناس ليسارعوا إلى معونة من يبذل العون لغيره، ويسعوا في خدمته وقضاء حوائجه، والاهتمام بشؤونه، والفضل منه وإليه سبحانه.. ولكن سخر الناس بعضهم لبعض روى: البخاري، ومسلم عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». «وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» (رواه مسلم).

فلا ترى بابًا للخير والبر وتستطيع المساهمة إلا ساهمت ولو بالكلمة الطيبة فهي صدقة.. روى: البخاري، ومسلم عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "كُنَّا مَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي السَّفَرِ فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ، -قَالَ-: فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً فِي يَوْمٍ حَارٍّ أَكْثَرُنَا ظِلاًّ صَاحِبُ الْكِسَاءِ، وَمِنَّا مَنْ يَتَّقِي الشَّمْسَ بِيَدِهِ -قَالَ-: فَسَقَطَ الصُّوَّامُ وَقَامَ الْمُفْطِرُونَ فَضَرَبُوا الأَبْنِيَةَ وَسَقَوُا الرِّكَابَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «{C}{C}ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالأَجْرِ{C}{C}»". أي: جاوزوه واستصحبوه ومضوا به، ولم يتركوا لغيرهم شيئاً منه، وهذا على المبالغة والمراد: أن لهم من الأجر مثل ما للصوام أو أكثر لأنهم بعملهم أعانوا الصوام على صومهم..

خطورة التفَرُّق:
يأتي بعد الأمر بالتعاون على البر والتقوى قول الله تعالى: {وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. أمر من الله ووعيد وتهديد لمن تعدَّى حدوده وتجاوز أمره، ومعناه: احذروا معاصيه وتعدِّي حدوده فيما أمركم به ونهاكم عنه، فتستوجبوا عقابه متى خالفتم وتستحقوا أليم عقابه، ثم وصف عقابه بالشدة فقال: {إنّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ} لمن يعاقبه من خلقه لأنه نار لا يطفأ حرُّها ولا يخمد جمرها ولا يسكن لهيبها -نعوذ بالله منها- اتقوا الله ولا تعصوه، اتق الله ولا تكن عضوًا خبيثا في جسد الأمة، لا تكن عضوا متكاسلًا عالة على غيرك، عِبأً على الناس وعلى الحياة، لا تكن عضوًا مريضًا يعيق باقي الأعضاء، فنحن نحمل جميعا حجر الإصلاح، فمن يضع يده ويوهم الناس أنه يحمل فدوره يُرمَى على أكتاف غيره ويكون ثقلًا ثقيلاً على إخوانه وهذه خيانة، وماذا لو كثر المتظاهرون بالحمل مع المجتمع؟ ماذا لو ظن كل واحد أنه هو وحده صاحب ملعقة العسل؟ فيستبدلها بالماء وفي ظنه أنها لا تضر.. (فلقد أمر ملك من الملوك شعبه بأن يأتي كل واحد بملعقة من العسل في برميل وضعه في وسط المملكة، فقال واحد منهم: لو حملت ملعقة ماء في وسط الكم الكبير من الملاعق من العسل.. وإذا بهذا الشيطان يوسوس لكل المملكة، وفي الصباح يفاجأ الملك بالبرميل كله مملوء بالماء!)
{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32].

إن في الناس قدرات وطاقات، والله قد قسّم هذه القدرات والطاقات بين الناس ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون..
الناس بحكمة الله ورحمته وعدله يختلفون فيما أعطاهم الله من ملكات وطاقات في هممهم وأعمالهم، في عقولهم وجهودهم، منهم من يفتح الله على يديه ويرزقه من حيث لا يحتسب، يوسع عليه في رزقه ويبسط له في ماله، وفئات أخرى قد قُدِر عليها رزقها وقلّت مواردها إما لنقص في قدراتها أو عجز في مدركاتها، وإما لإعاقات في أبدانها، فهناك الصّغار والقصّار، وهناك أصحاب العاهات والإعاقات لا يقدرون على مباشرة حرف ولا يحسنون صنائع، ولله في ذلك تقدير وحكمة لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون..

إن الحق قد ينتصر بجهد الضعفاء قبل جهد الأقوياء، فلا يحقرن الإنسان أيّ جهد يقوم به، فإن مؤمن آل فرعون، وأخت موسى وأمه، وآسية كانوا ضعفاء، ومع ذلك قاموا بأدوار عظام في نصرة الحق.. ومن يُعِيق التعاون على البر والتقوى فجرمه أشد، الأنفة التي تمنع بعض الناس أن ينقاد للحق خلف فلان الضعيف أو الفقير ابن فلان -هو من يكون لنا إماما الذي عائلته كذا وأبوه وأمه كذا- ونسي أن إبراهيم عليه السلام الذي قال الله عز وجل فيه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ} [الممتحنة: 4]. {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130].

يا أخي: أنت تبغي الحق؟! من أي وعاء صدر هذا إن كنت مخلصًا؟ فإن كان منك هذا فراجع إخلاصك، وليكن شعارنا نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه، فكن كصاحب ناقة شردت فضلت الطريق فلا يشغله إلا أن يجد الناقة ولا يهتم علي يديه أو على يد غيره، فكن صاحب الحق والباحث عن الحقيقة فاقبلها من أي وعاء صدرت..
روى: البخاري، ومسلم عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذاً وَأَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: «يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلاَ تَخْتَلِفَا». {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].

روى البخاري، ومسلم: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا، -وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمِ الْعَلاَءَ بْنَ الْحَضْرَمِيَّ- فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتِ الأَنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَوَافَوْا صَلاَةَ الْفَجْرِ مَعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا انْصَرَفَ تَعَرَّضُوا لَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَآهُمْ ثُمَّ قَالَ: «{C}{C}أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيءٍ{C}{C}» قَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «{C}{C}فَأبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ{C}{C}»".

وروى مسلم عن عَرْفَجَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّهُ سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ وَهْي جَمِيعٌ فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِناً مَنْ كَانَ». وزاد النسائي، وصححه الألباني: «فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ يَرْكُضُ»
وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَضَبَةٍ، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلاَ يَتَحَاشَ مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلاَ يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ».

من صور التعاون:
روى البخاري، ومسلم عن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ سُلاَمَي مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، تَعْدِلُ بَيْنَ الاِثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خَطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ»

تقدير الكبار واحترامهم وإكرامهم:
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من لم يرحم الصغير ويحترم الكبير فهو شاذ عن هذا المجتمع، ويُعتبر عضواً فاسداً لا يصلح أن يعيش في هذا المجتمع المتراحم، فقال: عن أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "جَاءَ شَيْخٌ يُرِيدُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَبْطَأَ الْقَوْمُ عَنْهُ أَنْ يُوَسِّعُوا لَهُ، فَقَالَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: «{C}{C}لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا{C}{C}»" (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

مساعدة المحتاج وتنفيس الكرب عنه:
بالدَّين والقرض والسلم والهدية والصدقة والرهن، وما أشبه ذلك من صور المساعدة التي ترفع الهم والغم عن المكروب، وقد حث رسولُ الله على التعاون والتراحم..
روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ».

روى البخاري عن عَبْد اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
هذا هو الحل للخروج من كل أزمة، وهي خطوة في طريق أستاذية العالم، وتكون اتّحاد إسلامي عربي مشترك، أن نتعاون ويقوم كل منا بدوره، فترقى الأمة ونسعد في ظلال العيش الرغد والرحمة الإلهية والبركة الربانية، فنَرْضَى ونُرْضِي العباد ونُسْعِدُهم، ونُرْضِي ربنا فنسعد دنيا وآخرة..

والله أسأل أن يحيي موات هذه الأمة، وأسأله سبحانه أن من أراد بهذه الأمة خيرًا أن يوفقه إلى كل خير وأن يسدد خطاه، وأن يبصره بخطاه، ومن أرادها بكيد أن يجعل كيده في نحره، ويجعل تدبيره تدميره، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ . وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180: 182].

والصلاة والسلام على:
 

من بلغ العلى بكـمـالـه *** كشف الدجى بجماله
عظمت جميع خصالـه *** صـلوا عـليـه وآلــه
 

أبو أنس عبدالوهاب عمارة
 
  • 0
  • 0
  • 4,510

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً