التجديد في الإسلام (2)

منذ 2013-03-29

تحدثت في المقال السابق عن حديث المجدّد، وتناولته من حيث الثبوت، ثم من حيث المعاني المستخرجة منه، وعرض أقوال العلماء فيه باستفاضة، وقبل أن أدلف إلى الترجيح بين الآراء قدمت لذلك بحديثين كبُشْرَتَيْن لهذه الأمة، مر أولهما في آخر المقال السابق، وهو حديث: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله». وفي هذا الجزء من البحث أتابع دراسة لحديث المجدد، وللتجديد بشكل عام.


تحدثت في المقال السابق عن حديث المجدّد، وتناولته من حيث الثبوت، ثم من حيث المعاني المستخرجة منه، وعرض أقوال العلماء فيه باستفاضة، وقبل أن أدلف إلى الترجيح بين الآراء قدمت لذلك بحديثين كبُشْرَتَيْن لهذه الأمة، مر أولهما في آخر المقال السابق، وهو حديث: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله». وفي هذا الجزء من البحث أتابع دراسة لحديث المجدد، وللتجديد بشكل عام.

وقال الإمام الترمذي: "سمعت محمد بن إسماعيل يقول: سمعت علي بن المديني يقول: هم أهل الحديث" (ذكره الترمذي في موضعين من سننه، الأول في 4/485 كتاب الفتن، والثاني في 4/504 نفس الكتاب). وروى الحاكم عن الإمام أحمد أنه قال: "إن لم تكن هذه الطائفة المنصورة أصحاب الحديث فلا أدري من هم؟". قال الحافظ في الفتح: "بسندٍ صحيح" (فتح الباري: ج 13 ص 295). وقال الإمام النووى في شرحه لهذا الحديث: "ويحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين: منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدثون، ومنهم زهّاد، وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض" (انظر: شرح النووي على مسلم في كتاب الإمارة ج 13 ص 66).

وثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاثٍ وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: مَنْ كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي»  (أبو داوود: 34- كتاب السنة، 1- باب شرح السنة، رقم 4596، 4597 ج 5ص 4، الترمذي: 41- كتاب الإيمان، 18- باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، رقم 2640، 2641 ج 5 ص 25-26، ابن ماجة: 36- كتاب الفتن، 17- باب افتراق الأمم، رقم 3991 - 3993 ج 2 ص 1321، أحمد: ج 2 ص332، ج 4 ص 102، ج 3 ص 120، ص 145).

وهذا الحديث وإن كان فيه بيان تفرق الأمة الواحدة إلى شيع شتى، إلا أن فيه بيان حفظ الله لدينه بإقامة فرقة ناجية تلتزم بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في اعتقادها وسلوكها، وهذه الفرقة الناجية هي الطائفة المنصورة، والله أعلم، ولا أظن حديث المجدّد بمعزل عن مفهوم هذين الحديثين، فحين تستحكم الأهواء، وتعبث بهذه الأمة الآراء، فتفترقُ إلى هذه الفرق الكثيرة، تكون الفرقة الناجية المنصورة هي القائمة بأمر الله في خِضَم هذه النزاعات والاضطرابات، الملتزمة بمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع أمورها، ولا شك أن كل طائفة متحزبةٍ على شيءٍ من الدين سوف تدَّعي كما يدَّعي غيرها أنها هي المقصودة في الأحاديث النبوية.
 

وكلٌ يدعي وصلاً بليلى *** وليلى لا تُقِرُّ لهم بوصل


وليس من حقّ أحدٍ أن يتحكم فيدخل من شاء ضمن هذه الطائفة، وينفي من شاء وفق رغبته وهواه، بل يكون ذلك وفق ميزانٍ عدلٍ مقسط، وهو عرض حال المدَّعي على الصفات النظرية والعملية التي وصف السلف الصالح بها هذه الفئة، وهي:

1- موافقة اعتقاداتها لما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، في أبواب العقيدة كلها: من أسماء الله وصفاته، والإيمان، والقدر، إلى غير ذلك من أصول الاعتقاد، وأسعد الناس بذلك هم الذين يؤمنون بالنصوص إيماناً صادقاً دون أن يسلطوا عليها سهام التحريف والتأويل والإنكار والتضعيف.

2- اعتمادها في التفقه والاستنباط على الوحي المنزل، أو على ما أحال عليه الوحي المنزل من الأدلة كالإجماع الثابت، أو القياس الصحيح أو المصلحة الراجحة التي لا تعارض نصاً من النصوص.

3- ومن الخصائص المهمة لأهل السنة أهل الحديث كما يعبر البخاري وابن المديني وأحمد رحمهم الله: الحرص على العمل بالشرع والتزام الأوامر والنواهي.

ولقد تسرب إلى أذهان كثير من الناس أن كلمة (أهل السنة) تعني المذهب الاعتقادي فحسب، وذلك خطأ بيّن.
إن المعرفة الصحيحة بالله التي يحرص عليها أهل السنة ليست هي المعرفة الذهنية الباردة، بل هي المعرفة القلبية الحية التي ينتج عنها الخوف والرجاء والمراقبة والامتثال، ولذا كان الأئمة السابقون حين يذكرون أهل السنة يعتبرون من خصائصهم المحافظة على المفروضات والسنن والمستحبات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلة الرحم وحب المساكين والإحسان إلى الجيران.

قال الإمام المحدث الشيخ أبو عثمان الصابوني (ت 449 هـ) في رسالة (عقيدة السلف وأصحاب الحديث): ".. ويرون المسارعة إلى أداء الصلوات وإقامتها في أوائل الأوقات أفضل من تأخيرها إلى آخر الأوقات ويوجبون قراءة الفاتحة خلف الإمام ويأمرون بإتمام الركوع والسجود حتماً واجباً، ويعدون إتمام الركوع والسجود بالطمأنينة فيهما، والارتفاع من الركوع والانتصاب منه، والطمأنينة فيه، وكذلك الارتفاع من السجود والجلوس بين السجدتين مطمئنين فيه من أركان الصلاة التي لا تصح إلا بها، ويتواصون بقيام الليل للصلاة بعد المنام وبصلة الأرحام، وإفشاء السلام، وإطعام الطعام والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام، والاهتمام بأمور المسلمين، والتعفف في المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمصرف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والبدار إلى فعل الخيرات أجمع ويتحابون في الدين ويتباغضون فيه... إلخ" (ضمن الرسائل المنيرية ج 1 ص 131).

وقد يكون لهذه الطائفة رؤوس يمتازون بالموقف الصلب الثابت، والعلم الواسع، والعمل الدءوب في بلدٍ واحدٍ، أو في بلدان متعدِّدة، فرداً أو أفراداً وهؤلاء من التجديد أوفى نصيب، ولكن يصحُّ أن يقال: إن لغيرهم من المجاهدين في هذا السبيل من التجديد بحسبهم، وهذا ما تلتقي عنده آراء عددٍ من الأئمة المحققين، وسيأتي في سياق العرض التاريخي لحركة التجديد في الإسلام ما يكشف عن هذا، وأنه إن جاز أن يكون المجدّد في القرن الأول فرداً؛ فإن احتمال ذلك أقل فيما بعد لأسباب منها: كثرة الشر والفساد، واتساع مجالات الانحراف وطرقه وأسبابه، واتساع رقعة الأمة وانتشارها، وتناقص الخيرية في هذه الأمة حتى لم يعد يوجد الأفراد المستجمعون لصفات المجدّد بحذافيرها، بل هي مفرقة في عددٍ من فضلاء الأمة ونجبائها.

يقول الإمام الحافظ ابن حجر رحمه الله بعد سياق الخلاف في المجدّد: أفرد أم جماعة؟: "ولكنّ الذي يتعين فيمن تأخر المحملُ على أكثر من الواحد؛ لأن في الحديث إشارة إلى أن المجدّد المذكور يكون تجديده عاماً في جميع أهل ذلك العصر، وهذا ممكنٌ في حقّ عمر بن عبد العزيز جداً، ثم في حق الشافعي، أما من جاء بعد ذلك، فلا يعدم من يشاركه في ذلك".

وقال: "لا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحدٌ فقط؛ بل يكون الأمر فيه كما ذكر في الطائفة، وهو متجهٌ؛ فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوعٍ من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد، إلا أن يدَّعي ذلك في عمر بن عبد العزيز فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير، وتقدمه فيها؛ ومن ثم أطلق أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه، وأما من جاء بعده فالشافعي وإن كان متصفاً بالصفات الجميلة إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد، والحكم بالعدل، فلعل هذا كل من كان متصفاً بشيءٍ من ذلك عند رأس المائة هو المراد؛ سواء تعدَّد أم لا" (الفتح ج 13 ص 295).

معنى التجديد:
والتجديد يعني جعل الشيء جديداً، فتجديد الدين يعني إعادة نضارته ورونقه وبهائه، وإحياء ما اندرس من سننه ومعالمه، ونشره بين الناس. وهذا اللفظ (التجديد) يؤكد أن التجديد الموعود لا بد أن يكون على حين فترة من العلماء، واضمحلال لشأن أهل الحق وحملة السنة، فيبعث الله هؤلاء المجدّدين ليعيدوا للناس الثقة بدينهم، ويعلموهم ما جهلوا من شأنه، وهكذا يبدو جلياً أن التجديد لا يعني بحال من الأحوال إضافة شيء جديدٍ إلى الدين، كما أنه لا يعني بحالٍ من الأحوال اقتطاع شيء منه ونبذه. فهذا وذاك ليسا في الحقيقة تجديداً، وإنما هو مسخٌ وتجريد.

ولذا يمكننا القول: ليس من التجديد مثلًا الطريق الذى سلكه الفيلسوف الهندي (محمد إقبال)، والنتائج التي توصل إليها في محاضراته: (تجديد الفكر الديني في الإسلام) ليست إلا تفسيراً كلياً للدين بمجموع مكوناته: الألوهية- النبوة- البعث- الجزاء... إلخ. هذا التفسير أو التصور الذي يلتقي في معظمه مع مذهب الفلاسفة الاتحاديين الذين يرون الخلق مظهراً يتجلى فيه الخالق ليس تجديداً للعقيدة (أو كما سمّاها: الفكر الإسلامي)، ولكنه تجريد له من حقيقته الإلهية، وإضفاء للفكرة الصوفية الفلسفية عليه.

والاتجاه العقلاني عامة الذي يحاول تفسير النصوص الشرعية وفق مقتضيات الفلسفة البشرية، ويلوي عنق النص لياً ليتفق معها ليس تجديداً للدين؛ لأن تجديد الدين يعني تثبيت معالمه وعقائده وأحكامه ليظهر تميزها واختلافها عما سواها من الأديان المحرفة المنسوخة أو من الآراء والفلسفات القاصرة، وليس يعني إذابة تميزه وخلخلة بنائه لينسجم مع هذه أو تلك. وأيضًا ليس من التجديد المنهج الإسلامي الذى اختطه بعض الدعاة استجابة للضغوط الواقعية والمتغيرات الاجتماعية والدولية -كما زعموا- واقتنعوا بموجبه بضرورة استبعاد بعض القضايا الشرعية والعقدية المسلَّمة لدى الأمة وعلمائها منذ عصر الصحابة حتى اليوم.

فالتجديد المقصود المنشود ليس تغييراً في حقائق الدين الثابتة القطعية لتلائم أوضاع الناس وأهوائهم، ولكنه تغيير للمفهومات المترسبة في أذهان الناس عن الدين، ورسم للصورة الصحيحة الواضحة، ثم هو بعد ذلك تعديل لأوضاع الناس وسلوكهم حسبما يقتضيه هذا الدين. إن أي حركة تستهدف تغيير معالم الدين تكون في حقيقتها هدماً له وقضاء عليه، وإن بدا أنها تدعو إليه، أو تحقق له بعض المكاسب الآنية.

مجالات التجديد:
وحين نلحظ بجوار ذلك الكلمة الأخرى: «من يجدد لها دينها» نجدها تفتح أمام الدعاة آفاقا جديدة في طبيعة التجديد ونوعه. إن هذا التجديد (للأمة) لا ينحصر في مجال واحد فحسب، بل يمتد امتداداً آخر ليشمل تجديد الدين كله، فيشمل:

أولاً: التجديد في مجال العقيدة:
وهيهات أن يكون التجديد يعني إضافة شيء آخر إلى العقيدة الربانية، كلا بل التجديد هو تخليص العقيدة من هذه الإضافات البشرية لتصبح نقية صافية ليس فيها أثر لصنع البشر وآرائهم وفلسفاتهم. ولتفهم بالبساطة والوضوح التي فهمها سلف هذه الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان. فأول خطوة في مجال التجديد العقدي هو تنقية العقيدة الإسلامية من آثار علم الكلام ومن جميع ما علق بها، ومن التجديد في مجال العقيدة ربط آثارها الواقعية بها، فلا يكفي أن يؤمن المرء بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله على مقتضى ما يدين به أهل السنة إيماناً عقلانياً جافاً، بل لا بد من العمل على إحياء الآثار القلبية النابعة من صدق الإيمان.

ثانياً: التجديد في مجال النظر والاستدلال:
وذلك بإحياء الحركة العلمية التي تهدف إلى دراسة القضايا الشرعية كلها دراسة مبنية على الدليل الشرعي الصحيح بعيداً عن عصبية المذاهب. فلسنا نعتقد أن الحق محصور في مذهب بعينه لا يخرج عنه بحال، ولذا فالبحث عن الحق هو ضالة المسلم المنشودة، أنى وجده سَعِد به وقبله غير ناظر إلى هذه الحواجز المذهبية، ولضمان سير منهج التفقه والاستنباط سيراً سليماً بعيداً عن الانحراف أو الفوضى التشريعية فلا بد من صياغة المنهج السليم للتفقه من خلال استقراء طريقة السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين.


ثالثًا: التجديد في السلوك الفردي ?الاجتماعي:
وذلك بالعمل على صياغة حياة المسلمين بتفصيلاتها صياغة إسلامية شرعية، والإفادة من المعاني الوجدانية التلبية التي يفترض أنها بدأت تستيقظ في النفوس، بربط الأحكام التفصيلية بها. ومما نلحظه في واقع أهل الوعظ والتعليم اليوم أن كثيراً منهم يُعنى بذكر الله واليوم الآخر والجنة والنار وعذاب القبر والموت وسكراته. وهذا وإن كان مطلوبًا إلا أنهم لا يربطون المعاني التي أثاروها بقضايا سلوكية واقعية يجب أن تعالج. وأهل الفقه تُعنى ببيان الحلال والحرام وسائر الأحكام، يفوتهم ربط هذه الأحكام بأصولها الإيمانية التي تدعو إلى العمل بها وامتثالها.

رابعًا: فضح المناهج والاتجاهات والأوضاع والمبادئ والسبل المخالفة للإسلام:
وذلك ليحيى من حي عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة. ولقد كان من مهمة الأنبياء والمرسلين عليهم صلوات الله وسلامه كشف طريق الضلال لئلا يلتبس بطريق الحق. فكان النبي يقول كما ورد على لسانه في القرآن: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَطِيعُونِ . ولا تُطِيعُوا أَمْرَ المُسْرِفِينَ . الَذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ ولا يُصْلِحُونَ} [الشعراء: 150-152].

واستبانة سبيل المجرمين هي من مقاصد القرآن: {وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ ولِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55]. فمن مهمات الدعوة الإسلامية على مدى الزمن أن تزيل أي التباس أو غموض قد يصيب الناس، فيلبسون المنافق ثوب المؤمن الصادق، أو يلبسون المبتدع الضال ثوب المتبع المهتدي.

وللحديث صلة إن شاء الله.
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

ياسر منير

( باحث بالدكتوراه )"مقارنة أديان " - جامعة القاهرة

  • 7
  • 6
  • 8,541

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً