عقدا السلم والاستصناع ودورهما في المصرف الإسلامي

منذ 2013-05-08

نشرت هذه المقالة في وقائع ندوة رقم:[38] ندوة قضايا معاصرة في النقود والبنوك والمساهمة في الشركات؛ التي عقدت في مقر البنك الإسلامي للتنمية في جدة، بالتعاون بين المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب ومجمع الفقه الإسلامي بجدة في الفترة 18-22/10/1413هـ ، 10-14/4/1993م


الواقع:
نشأت المصارف الإسلامية بهدف تحرير المجتمع الإسلامي من لعنة الربا، ومن تعرضه لحرب الله ورسوله، وبهدف التخلص من آثار الربا الاقتصادية على العالم الإسلامي، ومن هذه الآثار: حرمان العالم الإسلامي من الانتفاع بفوائضه المالية، وتمكينه من استخدام المال في وظيفته الطبيعية بحيث:

أ- يكون قياماً للناس يحقق النمو الاقتصادي، ويواجه حاجات الإنتاج.
ب- ولا يبقى دولة بين الأغنياء.
ج- ويحقق العدل في المعاملة: {لاتَظلمون ولاتُظلمون} [البقرة: من الآية 279] .

وواضح أن اعتماد المصارف الربوية نظام الفائدة حتّم انسياب الفوائض المالية للعالم الإسلامي إلى الأسواق المالية في العالم المتقدم؛ حيث إن اعتماد المصرف نظام الفائدة يحتم عليه البحث عن الاستثمار الأيسر تعاملاً، والأكثر مرونةً، والأقوى ائتماناً، وهذا يتوفر في الغالب في الأسواق المشار إليها، بالرغم من أن هذه الأسواق هي الأقل حاجة للمال، وبالرغم من الشكوى المتكررة للاقتصاديين من عدم استخدام هذه الأسواق للمال في وظيفته الطبيعية، حيث لا تزيد نسبة المستخدم منه في التجارة الحقيقية عنه (٣٪)، وتستأثر المصافقة (Speculation) بالنسبة الغالبة. ولكن هل حققت المصارف الإسلامية هذه الأهداف؟!

مع الأسف الشديد فإن واقع المصارف الإسلامية لا يقدم مبررات كافية للإجابة عن هذا السؤال بنعم!!

ولو نظرنا إلى المصارف الإسلامية التي تعتمد في تعبئة مواردها على السيولة المالية في منطقة الخليج، لما كان من السهل القول بأن هذه المصارف غير طريق انسياب الفوائض المالية في العالم الإسلامي إلى الأسواق المالية الغربية، والسبب واضح وهو أن هذه المصارف تعتمد أيضاً على التمويل على أساس سعر الفائدة، وإن كان ذلك مغطى بأشكال من التصرفات الشرعية كالبيع.

وظاهر من مراجعة أشكال الاستثمار في هذه المصارف أن عقداً مثل العقد التلفيقي العصري المسمى “المرابحة للآمر بالشراء” يحظى بحظ الأسد في التعامل.

ومادام هذا السلوك من المصارف الإسلامية يحقق الآثار السلبية الاقتصادية نفسها، التي يحققها سلوك المصارف الربوية، فإن للإنسان أن يشك في أن المصارف الإسلامية حققت الهدف بتخليص المجتمع الإسلامي من لعنة الربا.

لا شك أن المخارج الشرعية جزء من الشرع، وقد علم الله نبي من أنبيائه صورتين لهذه المخارج ذكرهما القرآن الكريم. ولكن هل سلوك المصارف الإسلامية المشار إليه يقع في دائرة المخرج الشرعي، أم يتجاوز ذلك إلى دائرة الحيلة الممنوعة؟!

إن الفرق بين المخرج الشرعي والحيلة مثل الخيط الدقيق، ولكنه واضح بحيث يدركه الشخص العادي، إذ الاعتبار في ذلك بالغاية. فإذا كانت نتيجة السلوك الوصول إلى محرم أو إلى تحقيق آثاره، فإن السلوك في هذه الحالة يقع في دائرة الحيلة الممنوعة وليس في دائرة المخرج الشرعي.
وقد وصف الله في القرآن الكريم إحدى هذه الحيل بأنها ظلم للنفس، واتخاذ لآيات الله هزواً: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّـهِ هُزُوًا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّـهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: من الآية 231]، وأخبر عن مآل الذين استعملوا إحدى الحيل بأنهم مسخوا قردةً خاسئين: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:65]. فمن يوم حرم العمل على اليهود يوم السبت، وهم يرتكبون في كل سبت مخالفات كثيرة، ولكن الذين استحقوا بأن يمسخوا قردةً خاسئين هم الذين ارتكبوا المخالفة في صورة تصور شرعي مباح.

وعقد التحليل في الزواج لا يختلف في صورته، وفي الآثار الفقهية المترتبة عليه عن أي عقد زواج مشروع، ولكن المحلل والمحَلل له ملعونان على لسان النبي صلى الله عليه وسلم.

ولكن ما الذي ألجأ المصارف الإسلامية إلى هذا السلوك؟!
للإجابة عن هذا السؤال يقدم الكاتب الافتراض التالي: "لقد تم التركيز من قبل المنظِرين للمصارف الإسلامية منذ البداية على أن المشاركة هي البديل للفائدة الربوية".

وقد واجهت المصارف الإسلامية في محاولتها استخدام هذه الأداة بالصعوبات الواقعية والعوائق الجدية، التي تحول دون استخدام هذه الأداة بكفاءة، وليس المجال متسعاً للحديث عن هذه العوائق والصعوبات وهي متعددة، ولكن يمكن الإشارة إلى أن من أبرز هذه العوائق: أن عقد المشاركة عقد أمانة يعتمد على الثقة من الممول في شخص متلقي التمويل، والعالم الإسلامي على ماهو عليه من التخلف الأخلاقي!!

ولذا تضاءل ظهور عقد المشاركة في التعامل حتى أصبح مجرد ظهور رمزي، على سبيل المثال: فقد أصدر أحد المصارف بياناته المالية ومن بينها البيان المعنون: "تمويلات إسلامية" ويقع تحت هذا العنوان ثلاثة بنود: المشاركة، المرابحة، القرض الحسن، وظهر في عام 1989م بند المشاركة بنسبة حوالي (0.5٪) من بند المرابحة، أما في عام 1990م فظهر بنسبة حوالي (0.0075٪).

إن بنك التنمية الإسلامي وهو الأكثر تأهيلاً، لاستخدام عقد المشاركة باعتباره بنكاً للتنمية، وليس بنكاً تجارياً، بدأ منذ نشأته في التركيز على استخدام عقد المشاركة، ولكن هذا العقد لا يحظى في الوقت الحاضر بأكثر من (3٪) من عمليات البنك.

إن المصارف الإسلامية مع الأسف الشديد - بعد أن ظهر لها عجزها عن استخدام المشاركة كبديل للتمويل بالفائدة - لم تعمل بجدية على اختبار البدائل الأخرى من العقود الشرعية، وصرف اهتمامها إلى إيجاد مخارج باستخدام أنواع من التصرفات تحقق لها ما توفره أداة الفائدة في البنوك الربوية، من قلة التكلفة، وآلية التعامل - بما تحققه من قلة الجهد والمرونة، والحصول على عائد محدد معروف ومضمون نسبياً -.

فاتجهت إلى التمويل على أساس سعر الفائدة، ولكن في ظل غطاء من عملية البيع أو الشراء، وقد أدى هذا السلوك بالإضافة إلى تعويق الوصول إلى الأهداف المشار إليها في أول الحديث، إلى عجزها عن منافسة البنوك الربوية، إذ من الطبيعي أن يكون وصولها إلى سعر الفائدة كعائد على الاستثمار بطريق غير مباشر أو طبيعي، لا يمكنها من كفاءة الأداء التي بها تستطيع اللحاق بالبنوك الربوية، ولذلك يوجه مبرر كافٍ للاعتقاد بأن المصارف الإسلامية سوف تبقى -مالم تغير سلوكها- عاجزة عن منافسة البنوك الربوية، مما يبرر التخوف بجدية على مستقبل المصارف الإسلامية.

تغيير الواقع:
إن المصارف الإسلامية لا يمكن أن تحقق أهدافها إلا إذا غيرت الواقع المصور فيما سبق، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بما يأتي:

1- الإيمان الصادق الذي يظهر أثره على العمل بموعود الله الذي لا يتخلف: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب} [‏الطلاق‏:‏ 2- 3]‏]‏، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:4].
2- التحرر من روح العمل في البنوك الربوية، ومن طريقة التفكير السائدة فيها، وذلك بقبول التخلي عن آلية العمل، وعن الإصرار دائماً على الحصول على عائد محدد معروف سلفاً عند إجراء المعاملة. وذلك يوجب التخلي - كهدف واضح - عن الالتفاف على التمويل بالفائدة عن طريق الحيل والمخارج، والاقتناع بالصورة الشكلية للمعاملة دون اعتبار لجوهرها.
3- العمل بجدية لاختبار وتجربة البدائل الشرعية المتاحة، التي لم تطبق أو طبقت على نطاق ضيق، والعمل على تطوير البدائل الشرعية التي جرى تطبيقها، ومحاولة التغلب على عوائقها وسلبياتها، وفي هذا الصدد يبدو عقد السلم وعقد الاستصناع بديلين واعدين في التمويل الشرعي، وهذان العقدان ظلا طوال القرون الماضية، وعلى مساحة العالم الإسلامي يقومان بدور كبير في تمويل حاجات الإنتاج سواء الزراعي أو الصناعي، كما أنهما في الوقت الحاضر يعملان في مجال واسع في التجارة العالمية باسم: (Pre-producing Purchase) ويعتقد الكاتب أن العوامل التي ساهمت في تعويق تطبيق هذين العقدين بشكل جدي تتلخص في الآتي:

1- اكتشاف المصارف الإسلامية لطرق ممكن -في نظرها- من الالتفاف على تحريم التمويل بالفائدة، كالمعاملة المخترعة حديثاً باسم “المرابحة للآمر بالشراء” حيث أمكن للمنظرين التلفيق بين مذهبين مختلفين، وصياغة صورة جديدة للتعامل تمكنت المصارف الإسلامية بموجبها من التمويل بفائدة تعويضية، ولكنها لاتزال الفائدة البسيطة.
2- التأثر بروح المذهبين الحنفي والشافعي التي أنتجت وضع قيود عديدة على استخدام هذين العقدين، وهذه القيود تواجه المنظرين والعاملين في حماسهم لاستخدام هذين العقدين.
3- المبالغة في الطواعية لمقتضيات الصناعة الفقهية، حيث إن الفكرة السائدة في بعض المذاهب بأن هذين العقدين جاءا على خلاف القياس من شأنها أن تؤثر في إفساح المجال لتطبيق العقدين؛ إذ إن ما جاء على خلاف القياس لا يقاس عليه ولا يتوسع في تفسيره.

وفي رأي الكاتب أنه لكي يقوم هذان العقدان بدورهما لا مناص من مراعاة ما يأتي:

أ- أن مبادئ الصياغة والصناعة الفقهية مع إنزالها المنزلة اللائقة بها، والاعتراف بخطرها، وأهميتها، ودورها في تطوير الفقه الإسلامي، لا ينبغي أن ينظر إليها على أنها خارجة عن مجال الاجتهاد، والمراجعة في ظل نصوص الوحي وروح الشريعة.

ولم يرد في النصوص -على ما يظهر للكاتب - ما يقضي بأن عقد السلم ورد على خلاف القياس، فلا مانع من اعتباره أصلاً في ذاته يمكن أن يقاس عليه.

ب- الإفادة من الإمكانيات التي يتيحها المذهب الحنبلي مكملاً باجتهادات ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وهي: تحرر عقد السلم من كثير من القيود، وتتيح له مجالاً واسعاً للتعامل، ولاسيما في نطاق تمويل مشاريع الإنتاج.

ج- أن يتم تطبيق عقد السلم وعقد الاستصناع بصورة تدريجية؛ حيث يستخدمان في تمويل إنتاج السلع النقدية Cash Crops، وفي التعامل مع المنتجين في البلاد، التي توفر سهولة التعامل، وتوفر ضماناته، كاليابان، وتايوان، وماليزيا.

فإذا تعودت المصارف على تطبيق هذا العقد وعركته تجاربها أمكن نقله بسهولة للتعامل مع البلدان الإسلامية الأقل تقدماً.
لكي نقدر مدى كفاءة المعاملة في صورة عقدي السلم والاستصناع لابد أن تكون أمام أنظارنا الصورة التالية:

1- بالعقدين يتم استخدام المال في وظيفته الطبيعية بتوجيهه لعملية النمو الاقتصادي، وذلك باستخدامه مباشرة لمواجهة حاجات الانتاج.
2- على خلاف عقد المشاركة وهو من عقود الأمانة فهذان العقدان يمكن الحصول فيهما على ضمانات الوفاء، فينكسر بذلك عائق مهم ظل يواجه عقد المشاركة.
3- يتفوق هذان العقدان على عقد الأمانة، سواء في صورة القرض بالفائدة، كما تستعمله البنوك الربوية، أم في صورة المرابحة للآمر بالشراء، أو بيع العينة، أو بيع الوفاء، كما تستعمل في المصارف الإسلامية، وذلك بتجنب مشاكل التضخم السريع.
4- يتيح هذان العقدان للمصرف الحصول على عائد يزيد على ثمن الزمن، إذ يقبل متلقي التمويل أن يدفع مقابلاً لضمان التسويق سلفاً قبل الانتاج، ومقابلاً للتأمين عن تغير الأسعار، وبذلك يتاح للمصرف الإسلامي فرصة الحصول على عائد من استخدام أمواله، يزيد عن العائد الذي يحصل عليه البنك الربوي، فتتهيأ للمصرف الإسلامي إمكانية منافسة البنك الربوي.

تعليق: (كتب هذا التعليق بعد عشرين سنة من تاريخ كتابة المقالة)

إن التقدم التكنولوجي وإمكانيات الحاسبات الآلية (Computers) والبرمجة الإلكترونية الرقمية (Digital programming) جعلت في الإمكان التغلب على الصعوبات التي تواجه المشاركة، ولا سيما شركة المضاربة، وهي الصيغة التي ركز عليها المنظرون الأولون للإقتصاد الإسلامي والتي يعتمد فيها الممول اعتمادا كليا على أمانة متلقي التمويل.

ولكن المشاركة تظهر في صيغ عديدة أخرى، ومنها: المشاركة المتناقصة التي أثبتت التجربة إمكاناتها الواسعة بالتمويل مع إلغاء الاعتماد على أمانة متلقي التمويل، لأن هذه الصيغة من صيغ العقود توفر للممول الضمان الأكمل ودرجة عالية من اليقين، وواضح أن الضمان ودرجة اليقين هما أهم عنصرين يهتم بهما الممول، فضلا عن تحقيق العدل الكامل في هذه الصيغة من صيغ المشاركة بين الطرفين الممول ومتلقي التمويل، وتوافق المصالح بما يضمن تقليل فرص النزاع في العقود.

ولكن في تطبيق هذه الصيغة من قبل المصرف الإسلامي ينبغي التحذير من تلويث هذه الصيغة من صيغ العقود بشبهة الربا؛ وذلك مثل تحديد ثمن لشراء الأصول من قبل أحد الطرفين في العقد.

وينبغي أخيرا الإشارة إلى أهمية هذه الصيغ من صيغ العقود في تمويل الأوقاف، وليت القضاة انتبهوا إلى الإمكانيات المتاحة في هذه الصيغة من صيغ العقود من تحقيق للعدل وضمان لمصلحة الوقف.

وبالله التوفيق.
 

المصدر: مدونة الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين

صالح بن عبد الرحمن الحصين

الرئيس العام لشئون المسجد الحرام والمسجد النبوي (سابقا)، عضو هيئة كبار العلماء، وعضو المجلس الرئاسي لمركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني بالمملكة العربية السعودية.

  • 1
  • 0
  • 10,383

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً