ثبات الأخلاق

منذ 2013-06-22

وبهذه القوة وهذا الضبط يستطيع الخلُق أن يحوِّل المادة التي تعارضه إذا هو اشتدَّ وصلُب، ولكنَّه يتحوَّلُ معها إذا هو لانَ أو ضعُفَ، فهو قدَرٌ إلا أنه في طاعتك؛ إذ هو قوَّةُ الفَصْل بين إنسانيَّتِك وحيوانيتك، كما أنَّه قوَّةُ المزج بينهما، كما أنه قوة التعديل فيهما، وقد سُوِّغَ القُدرةَ على هذه الأحوالِ جميعًا، ولولا أنَّه بهذه المثابة لعاشَ الإنسانُ طولَ التاريخ قبل التاريخ؛ إذ لن يكونَ له حينئذ كونٌ تؤرَّخُ فضائلُه، أو رذائلُه بمدح أو ذمٍّ.


الإسلام يقرِّر ثباتَ الخلُق، ويُوجبه، ويُنشئ النفسَ عليه، ويجعله في حِياطة المجتمع وحراسته؛ لأنَّ هنالك حدودًا في الإنسانية تتميز بحدود في الحياة، ولابد من الضبط في هذه وهذه، حتى لا يكونَ وضْعٌ إلا وراءَه تقدير، ولا تقديرٌ إلا معه حكمة، ولا حكمةٌ إلا فيها مصلحة، وحتى لا تعلوَ الحياةُ ولا تنزلَ إلا بمثل ما ترى من كفَّتيْ ميزان شدَّتا في علاقة تجمعهما وتحرِّكهما معًا؛ فهي بذاتها هي التي تنزلُ بالمنازل لتدلَّ عليه، وتَشِيل بالعالي لتبين عنه؛ فالإسلامُ من المدنية هو مدنية هذه المدنية.

إنَّها لن تتغيَّر مادةُ العظمِ واللحمِ والدمِ في الإنسان، فهي ثابتةٌ مقدَّرةٌ عليه، ولن تتبدَّل السُّننُ الإلهيةُ التي تُوجدها وتُفنيها؛ فهي مُصرِّفة لها قاضيةٌ عليها، وبين عمل هذه المادة وعملِ قانونِها فيها تكونُ أسرارُ التكوين، وفي هذه الأسرارِ تجد تاريخَ الإنسانية كلَّه سابحًا في الدَّم، هي الغرائز تعمل في الإنسانية عملَها الإلهي، وهي محدَّدةٌ محكمة على ما يكونُ من تعاديها واختلافِ بينها، وكأنها خُلقتْ بمجموعها لمجموعها، ومن ثَمَّ يكون الخُلق الصحيح في معناه قانونًا إلهيًّا على قوَّةٍ كقوَّةِ الكونِ وضبطٍ كضبطه.

وبهذه القوة وهذا الضبط يستطيع الخلُق أن يحوِّل المادة التي تعارضه إذا هو اشتدَّ وصلُب، ولكنَّه يتحوَّلُ معها إذا هو لانَ أو ضعُفَ، فهو قدَرٌ إلا أنه في طاعتك؛ إذ هو قوَّةُ الفَصْل بين إنسانيَّتِك وحيوانيتك، كما أنَّه قوَّةُ المزج بينهما، كما أنه قوة التعديل فيهما، وقد سُوِّغَ القُدرةَ على هذه الأحوالِ جميعًا، ولولا أنَّه بهذه المثابة لعاشَ الإنسانُ طولَ التاريخ قبل التاريخ؛ إذ لن يكونَ له حينئذ كونٌ تؤرَّخُ فضائلُه، أو رذائلُه بمدح أو ذمٍّ.

فلا عبرة بمظهر الحياة في الفرد؛ إذ الفردُ مقيَّدٌ في ذاتِ نفسه بمجموع هو للمجموع، وليس له وحده؛ فإنَّك ترى الغرائزَ دائبةً في إيجاد هذا الفرد لنوعه بسُنَنٍ من أعمالها، ودائبةً كذلك في إهلاكه في النوع نفسه بسننٍ أخرى، فليس قانونُ الفرد إلا أمرًا عارضًا كما ترى، وبهذا يمكن أن يتحولَ الفردُ على أسباب مختلفة، ثم تبقى الأخلاقُ التي بينه وبين المجموع ثابتةً على صورتها.

فالأخلاق على أنها في الأفراد هي في حقيقتها حكمُ المجتمع على أفراده، فقِوامها بالاعتبار الاجتماعي لا غير.
وحينَ يقعُ الفسادُ في الـمُجْمَع عليه من آداب الناس، ويلْتوي ما كان مستقيمًا، وتشْتَبِه العاليةُ والسافلةُ، وتُطَّرحُ المبالاةُ بالضمير الاجتماعي، ويقومُ وزن الحكم في اجتماعهم على القبيح والمنكر، وتجري العبرة فيما يعتبرونه، بالرذائل والمحرمات، ولا يُعجبُ الناسَ إلا ما يُفسدهم، ويقع ذلك منهم بموقع القانون، ويَحِلُّ في محل العادة فهناك لا مِساكَ للخُلُق السليم على الفرد، ولابد من تحوُّل الفرد في حقيقته؛ إذ كان لا يجيء أبدًا إلا مُتصدِّعًا في كل مظاهره الاجتماعية، فأينما وقع من أعمال الناس جاء مكسورًا أو مثلومًا، وكأنه منتقلٌ من عالم إلى عالم ثانٍ بغير نواميس الأول.

وما شذَّ من هذه القاعدة إلا الأنبياءُ، وأفرادٌ من الحكماء، فأما أولئك فهم قوةُ التحويل في تاريخ الإنسانية، لا يُبعثُ أحدهم إلا ليهيجَ به الهيْجُ في التاريخ، ويتطرَّقُ به الناس إلى سُبُل جديدة كأنما تطردهم إليها العواصفُ والزلازلُ والبراكينُ، لا شريعتُه ومبادئُه وآدابُه..

الأخلاقُ في رأيي هي الطريقةُ لتنظيم الشخصية الفردةِ على مقتضى الواجبات العامة، فالإصلاح فيها إنما يكونُ من عمل هذه الواجبات، أي من ناحية المجتمع والقائمين على حكمه، وعندي أن للشعبِ ظاهرًا وباطنًا، فباطنُه هو الدينُ الذي يحكم الفرد، وظاهره هو القانون الذي يحكمُ الجميع، ولن يصلُحَ للباطن المتصل بالغيب إلا ذلك الحكمُ الدينيُّ المتصلُ بالغيب مثلَه.

ومن هنا تتبيَّن مواضعُ الاختلال في المدنية الأوربية الجديدة، فهي في ظاهر الشعب دون باطنه، والفرد فاسدٌ بها في ذاتِ نفسه إذا هو تحلَّل من الدين، ولكنَّه مع ذلك يبدو صالحًا منتظمًا في ظاهره الاجتماعي بالقوانين وبالآداب العامة التي تفرضها القوانين، فلا يبرحُ هازئًا من الأخلاق ساخرًا بها؛ لأنها غير ثابتة فيه، ثم لا تكون عنده أخلاقًا يعتدُّ بها إلا إذا درَّتْ بها منافعه، وإلا فهي ضارَّة إذا كانت منها مضرَّة، وهي مؤلمة إذا حالت دون اللذات، ولا ينفكُّ هذا الفرد يتحوَّل؛ لأنَّه مطلقٌ في باطنه غيرُ مقيد إلا بأهوائه ونزعاته، وكلمتا الفضيلة والرذيلة معدومتان في لغة الأهواء والنزعات؛ إذ الغايةُ المتاعُ واللذةُ والنجاحُ، وليكن السبب ما هو كائن.

وبهذا فلن تقومَ القوانين في أوربا إذا فَنِيَ المؤمنون بالأديان فيها أو كاثرهم الملحدون، وهم اليومَ يُبصرون بأعينهم ما فعلت عقليةُ الحرب العظمى في طوائفَ منهم قد خَرِبتْ أنفسهم من إيمانهم؛ فتحولوا ذلك التحول الذي أومأنا إليه، فإذا أعصابهم بعد الحرب ما تزال محارِبةً مقاتِلة ترمي في كلِّ شيء بروح الدم والأشلاء والقبور والتَّعفن والبِلى، وانتهت الحربُ بين أمم وأمم، ولكنها بدأت بين أخلاق وأخلاق.

وقديمًا حارب المسلمون، وفتحوا العالم، ودوَّخوا الأمم، فأثبتوا في كلِّ أرضٍ هديَ دينهم، وقوةَ أخلاقهم الثابتة، وكان من وراء أنفسهم في الحرب ما هو من ورائها في السِّلْم، وذلك بثبات باطنهم الذي لا يتحوَّل، ولا تستخفُّه الحياةُ بِنَزَقِها، ولا تتسَفَّهه المدنيَّات؛ فتحمله على الطيش.

ولو كانوا هم أهلَ هذه الحرب الأخيرة بكلِّ ما قذفت به الدنيا، لبقيتْ لهم العقلية المؤمنة القوية؛ لأنَّ كلَّ مسلم فإنما هو وعقليته في سلطان باطنه الثابت القارِّ على حدودٍ بيِّنةٍ محصَّلةٍ مقسومةٍ، تحوطها وتُمسكها أعمال الإيمان التي أحكمها الإسلامُ أشدَّ إحكام بفرضها على النفوس منوَّعةً مكرَّرة: كالصلاة والصوم والزكاة؛ ليمنعَ بها تغيرًا ويُحدِثَ بها تغيرًا آخر، ويجعلَها كالحارسة للإرادة ما تزال تمر بها، وتتعهدها بين الساعة والساعة، إنما الظاهر والباطنُ كالموج والساحل، فإذا جُنَّ الموج فلن يضِيره ما بقي الساحلُ ركينًا هادئًا مشدودًا بأعضاده في طبقات الأرض، أما إذا ماجَ الساحل فذلك أسلوب آخر غير أسلوب البحار والأعاصير، ولا جرمَ ألا يكون إلا خسْفًا بالأرض والماء وما يتصل بهما.

في الكون أصل لا يتغيَّر ولا يتبدَّل، هو قانون ضبط القوة، وتصريفها، وتوجيهها على مقتضى الحكمة، ويقابله في الإنسان قانونٌ مثلُه لابد منه لضبط معاني الإنسان، وتصريفها، وتوجيهها على مقتضى الكمال، وكلُّ فروض الدين الإسلاميّ وواجباته وآدابه، إنْ هي إلا حركة هذا القانون في عمله، فما تلك إلا طرقٌ ثابتةٌ لخَلْق الحسِّ الأدبي، وتثبيته بالتكرار، وإدخاله في ناموسٍ طبيعي بإجرائه في الأنفس مجرى العادة، وجعله بكلِّ ذلك قوةً في باطنها، فتسمَّى الواجباتُ والآدابُ فروضًا دينية، وما هي في الواقع إلا عناصرُ تكوين النفس العالية، وتكون أوامرَ وهي حقائق.

ومن ذلك أُرانا -نحن الشرقيين- نمتاز على الأوربيين بأننا أقربُ منهم إلى قوانين الكون، ففي أنفسنا ضوابط قويةٌ متينة إذا نحن أقررنا مدنيَّتهم فيها -وهي بطبيعتها لا تقبل إلا محاسن هذه المدنية- سبقناهم وتركنا غبارَ أقدامنا في وجوههم، وكنَّا الطبقةَ المصفَّاة التي ينشُدُونها في إنسانيتهم الراهنة ولا يجدونها، ونمتاز عنهم من جهة أخرى بأننا لم نُنشئ هذه المدنية، ولم تنشئنا، فليس حقًّا علينا أن نأخذ سيئاتها في حسناتها، وحماقتها في حكمتها، وتزويرَها في حقيقتها، وأن نُسيغَ منها الحلوةَ والمرَّة، والناضجةَ والفجَّة، وإنما نحن نحصلها، ونقتبسها، ونرتجعُ منها الرَّجعة الحسنة؛ فلا نأخذ إلا الشيء الصالحَ مكان الشيء قد كان دونه عندنا، وندعُ ما سوى ذلك، ثم لا نأخذ ولا ندَعُ إلا على الأصول الضابطةِ المحكمة في أدياننا وآدابنا، ولسنا مثلهم متصلين من حاضر مدنيتهم بمثل ماضيهم.

بيدَ أنَّ العجبَ الذي ما يفرغُ عجبي منه أنَّ الموسومين منَّا بالتجديد لا يحاولون أولَ وهلةٍ وآخرها إلا هدمَ تلك الضوابط التي هي كلُّ ما نمتاز به، والتي هي كذلك كلُّ ما تحتاج إليه أُوربا؛ لضبط مدنيتها، ويسمُّون ذلك تجديدًا، ولَهُـوَ بأن يسمى حماقةً وجهلًا أولى وأحقُّ.

أقول ولا أبالي: إننا ابتلينا في نهضتنا هذه بقوم من المترجمين قد احترفوا النقلَ من لغاتِ أوربا، ولا عقلَ إلا عقلُ ما ينقلونه، فصَنَعتْهم الترجمةُ من حيثُ يدرون أو لا يدرون صنعةَ تقليدٍ محْضٍ ومُتابعةٍ مُستعبَدة، وأصبح عقلهم -بحكم العادة والطبيعة- إذا فكَّر انجذب إلى ذلك الأصل لا يخرج عليه، ولا يتحوَّل عنه، وإذا صحَّ أنَّ أعمالَنا هي التي تعملُنا -كما يقول بعض الحكماء- فهم بذلك خطرٌ أيُّ خطر على الشعب وقوميَّته وذاتيته وخصائصه، ويُوشكُ إذا هو أطاعهم إلى كلِّ ما يدعون إليه أن.. أن يترجموه إلى شعبٍ آخر..

إنَّ أوربا ومدنيتها لا تساوي عندنا شيئًا إلا بمقدار ما تُحقِّق فينا من اتساع الذاتية بعلومها وفنونها؛ فإنما الذاتيةُ وحدَها هي أساسُ قُوَّتنا في النزاع العالمي بكلِّ مظاهره أيَّما كان، ولها وحدَها، وباعتبارٍ منها دون سواها، نأخذ ما نأخذه من مدنية أُوربا، ونُهمل ما نُهمل، ولا يجوز أن نتركَ التثبتَ في هذا، ولا أن نتسامحَ في دقةِ المحاسبةِ عليه.

فالمحافظة على الضوابط الإنسانية القوية التي هي مظاهر الأديان فينا، ثم إدخالُ الواجبات الاجتماعية الحديثة في هذه الضوابط لربطها بالعصر وحضارته، ثم تنسيق مظهر الأُمَّة على مقتضى هذه الواجبات والضوابط، ثم العمل على اتحاد المشاعر، وتمازُجها؛ لتقويم هذا المظهر الشعبيِّ في جملته بتقويم أجزائه هذه هي الأركان الأربعةُ التي لا يقوم على غيرها بناءُ الشرق.

والإلحادُ والنزعاتُ السافلة، وتخانيثُ المدنية الأوربية التي لا عملَ لها إلا أن تُظهِرَ الخطرَ في أجمل أشكاله، ثم الجهل بعلوم القوَّة الحديثة، وبأصول التدبير وحياطة الاجتماع وما جرى هذا المجرى، ثم التدليسُ على الأُمَّة بآراء المقلِّدين والزائفين والمستعمرين لمحْقِ الأخلاق الشعبية القوية وما اتصل بذلك، ثم التخاذلُ والشقاقُ، وتدابُرُ الطوائف، وما كان بسبيلها تلك هي المعاولُ الأربعةُ التي لا يهدمُ غيرُها بناءَ الشرق.
فليكن دائمًا شعارُنا -نحن الشرقيين- هذه الكلمة: أخلاقُنا قبل مدنيَّتِهم.

مصطفى صادق الرافعي (1356هـ - 1937م)
 

Editorial notes: المصدر: وحي القلم- مصطفى صادق الرافعي- راجعه واعتنى به الدكتور درويش الجويدي - المكتبة العصرية- بيروت (2/73). بتصرف
المصدر: اختيار موقع الدرر السنية www.dorar.net
  • 1
  • 0
  • 3,528

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً