ريشة في مهب الريح

منذ 2013-06-22

فما أرق هذا القلب وأسرع تقلبه.. تؤثر فيه العواطف وتعصف به الأهواء. فحيناً تعصف عليه شبهة فيتحير زمناً، ويشرف على هلكة. وحيناً تواجهه شهوة عابرة فتذهب عقله وحنكته ورزانته ودينه...


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
  
أما بعد:


فما أرق هذا القلب وأسرع تقلبه.. تؤثر فيه العواطف وتعصف به الأهواء. فحيناً تعصف عليه شبهة فيتحير زمناً، ويشرف على هلكة. وحيناً تواجهه شهوة عابرة فتذهب عقله وحنكته ورزانته ودينه.
  
وحيناً تواجهه فتنة ضراء في سبيل دينه؛ كالقتل والسَّجن والتهجير والتعذيب وذهاب المال؛ فيبيع دينه بعرض من الدنيا قليل.
  
فلأجل هذه العواصف الهوج التي تحيط بالقلب من كل مكان، وبسبب ضعف القلب ورقته: قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في (المسند) من حديث أبي موسى رضي الله عنه: «إن هذا القلب كريشة بفلاة من الأرض يقيمها الريح ظهراً لبطن».
  
وإذا تأملت في أحوالنا المعاصرة رأيت صاحب الثبات على دين الله شمعة مضيئة في طريق مظلم لا يتغير مع تغير الناس، ولا يتبدل بتبدل الأحوال؛ بل كل حياته بذل وتضحية.
  
فتراه فتى متحمساً، فشاباً متوقداً، فكهلاً متحفزاً، فشيخاً يسارع في الخيرات ويسابق في أبواب البر والمعروف، في كل مراحل عمره وأحوال حياته عطاء لا يقف ومعين لا ينضب.
  
ترى صاحب الثبات إذا كان في ديار المسلمين حريصاً على الخير والدعوة متفانياً في نفع الناس وبذل المعروف؛ فإذا احتاجته الأمة لسكنى ديار الكفار رأيته أشد حرصاً وثباتاً وتوقداً وحماساً؛ فلم يؤثر فيه تغير البيئة.
  
وترى رجلاً آخر من أهل الثبات فقيراً معدماً يرحم أمثاله من المساكين، ويبذل من وقته وجهده الكثير لهم، فلما اغتنى رأيته أكثر شفقة وبراً وإحساناً؛ فلم يطغه الغنى.
  
وتراه مغموراً ذا نفس مطمئنة يوقر الكبير، ويحترم النظير، ويتواضع للصغير؛ فلما صار مشهوراً يشار إليه بالأصابع زاد تواضعاً واطمئناناً؛ فلم يبهره بريق الجاه والمنصب.
  
وتراها فتاة صالحة قانتة حريصة على كل معروف؛ فتضطر للزواج من رجل مقصر فلا يثنيها ذلك عن صلاحها واستقامتها؛ بل لعلك ترى زوجها قد صلحت حاله واستقام أمره؛ فلله درها من صابرة مصابرة.
  
وتراه شاباً في بيئة فاسدة ثبت على استقامته واختار دينه على شهوات هذه البيئة؛ فأخذ يكافحها بقلبه، وبما أوتي من قوة؛ حتى ثبته الله وهداه وهدى به.
  
وتراه رجلاً أسلم حديثاً فلقي العنت من مقاطعة قومه له؛ فأخذ بأسباب الثبات حتى ثبته الله.
  
وترى من أهل الثبات قافلة من المحتسبين سواء كانوا في هيئة الأمر بالمعروف أو خارجها؛ بذلوا أنفسهم، أخذوا من أموالهم ومن راحتهم وراحة بيوتهم، واضطروا لغشيان أماكن الفتن؛ فبقوا ثابتين، نسأل الله لهم المزيد من ذلك.
  
وتراها كوكبة من الشباب طلقوا الدنيا ثلاثاً لم يسمعوا بموقع يجاهد لله فيه إلا انطلقوا إليه؛ كالذي أثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر خير الناس فقال: «رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه يبتغي القتل والموت مظانه» (رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه).
  
مكمن الخطر:

  
إذا كان المرء لا يرى أهمية لطرح هذه الموضوع ولا الحاجة لسماعه في موعظة أو قراءته في مقال أو كتاب؛ فهنا تصل حالة القلب إلى أسوأ أوضاعها؛ كالحال التي وصف النبي صلى الله عليه وسلم فيها القلب المظلم بعد ذكره للقلب المشرق الأبيض بقوله: «والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً -أي مقلوباً- لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه». وإذا بلغ هذه المرحلة لم ير أنه محتاج للهداية ولا أنه مفتقر إلى رحمة أرحم الراحمين؛ فهنا يوكل إلى نفسه في الثبات على الدين أو الإمساك بريشة في فلاة تقلبها الريح ظهراً لبطن.

 

إذا لم يكن عون من الله للفتى *** فأول ما يجني عليه اجتهادُه


فكم شكونا من تقلب قلوبنا، وكم خفنا عليها من الزيغ والانحراف، فهل حاولنا محاولة جادة في تقصي أسباب انحرافها؟
  
معوقات الثبات في النفس:


إن هناك منظومة من سلوك النفس السيئة إذا أصابت القلب اختل ثباته؛ فمن هذه المسالك:
  
العجب والغرور:  

  
فما علاقة العجب والغرور بثبات القلب؟
  
العجب يغري صاحبه بالاسترخاء عن مراقبة أعدائه.. فهو سبب من أسباب الغفلة وضعف الحذر.
  
هل تأملت في حال الاسترخاء التي خلفها الإعجاب بالنفس في غزوة حنين؟ إن حال العجب هذه كانت سبباً للهزيمة في أول المعركة.
  
قال الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: من الآية 25].
  
فإذا كان المرء معجباً بنفسه رأيته يقول: إنه لا يتأثر بشبهة، ولا تغلبه شهوة، ولا تغيره مصيبة؛ فإذا كانت هذه هي حاله فهو أبعد عن أسباب ثبات القلب، وكلما كان يوطن نفسه أنه عرضة للخطر في أي وقت كلما كان أبعد عن الانحراف والزيغ، وهذا ما يسمى بالتناسب العكسي؛ كما يقولون.

وللعجب مظاهر فلتكن هذه المظاهر نذير خير لقلوبنا:

فمن هذه المظاهر، عدم المحاسبة: والمحاسبة والمراجعة -حتى في قواميس أهل الدنيا- سبب من أسباب نجاح المرء في كل عمل، والله عز وجل عظَّم شأن النفس اللوامة حين أقسم بها في كتابه، وهي التي تلوم نفسها على كل عمل ما أرادت به.
  
ومن المظاهر: رفض النصيحة، وكراهية الناصحين.
  
ومنها: عدم الاستعانة بالصديق الصالح، وترك المشاورة.
  
ومنها: التساهل في غشيان أماكن وبلدان الفتن دون اتخاذ أسباب الثبات، ومن أعظم أسباب الثبات في تلك البلدان: رفيق الخير؛ فقد ثبت في سنن الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: «.. عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، من سرته حسنته وساءته سيئته فذلكم المؤمن..» الحديث.
  
ولخطر العجب على القلب ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في المهلكات حين قال: «وثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه».
  
وكانت سيرة الأنبياء وهدي السلف الصالح ملأى بالخوف من الزيغ والفتنة والإزراء على النفس: قال الله تعالى في ذكر حاجة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الثبات: {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا . وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً} [الإسراء:73-74]، وقال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ} [النساء: من الآية 113].
  
وفي (الصحيحين) قال صلى الله عليه وسلم: «لن ينجي أحد منكم عمله» !! قالوا: "ولا أنت يا رسول الله"؟ قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته».
  
وهذا إبراهيم صلى الله عليه وسلم، من أولي العزم، وأول المسلمين يقول فيما ذكره الله على لسانه خائفاً من الزيغ: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: من الآية 35].
  
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من دعاء التثبيت؛ كما سيأتي في آخر المقال.
  
الأوهام والوساوس:

  
الأوهام عائق من عوائق ثبات القلب، وهذه الأوهام قد تكون في الخوف من البطش والتنكيل، وقد تكون في الخوف من الخطأ والفشل.
  
إن توهم الضرر في النفس أو الأهل أو المال سبب من أسباب تغير طرائق التفكير. فالخوف قد يمنع كلمة الحق أن تقال، وهنا مزلة قدم وانحراف قلب؛ فلا يزال يقنع نفسه تحت ضغط الواقع بأن هذا حق وأن هذا باطل؛ رغم مخالفة حكمه للحقيقة.
  
وأخطر ما يكون الانحراف حين تبدل آيات الله خوفاً من مخلوق أو رجاءً لعبد ضعيف.
  
كما أن الوساوس قد تقطع المرء عن الانتفاع من إخوانه، والخوف قد يمنع إقامة المشاريع الخيرة التي تحفظ للمسلم دينه.
  
وعلاج الأوهام والوساوس يكون بأشياء، منها:


1. الاعتصام بالله وحده؛ ذكراً، ودعاء، وصلاة، وإخباتاً، وصلة؛ فالأنس به طارد لكل وهم ووسوسة.   
2. أن يتحلى المرء بشيء من الواقعية؛ فيُعرض عن المبالغة وتهويل الأمور.
3. أن يدرس التاريخ القديم؛ ففي معرفة السنن التاريخية ما تقاس عليه الأحوال.
4. أن يقارن بين الوقائع المتماثلة في زمنه؛ فالمقدمات المتماثلة تؤدي إلى نتائج متماثلة؛ فإذا توهمت الضرر من شيء فانظر إلى مثيله، وسوف تخرج بنتيجة صحيحة.
5. أن يعلم أن عواقب الشجاعة والإقدام أكثر فائدة من عواقب التردد والإحجام.
6. أن يستشير ذوي الحكمة والواقعية والشجاعة في آن.
7. أن يعلم أن الذي يعمل لا بدّ أن يخطئ، وأن الخطأ ليس نهاية العالم، ولا نهاية الشخص نفسه؛ بل يجعل من هذه الأخطاء مدرسة لصقل النفس وإعدادها.
8. أن يستخير ربه، ثم يقدم معرضاً عن أوهامه ووساوسه.
  
ومن معوقات الثبات في النفس: اليأس، وقلة الصبر.
  
فقد ييأس بعض الناس من هداية قلبه؛ فيكون هذا سبباً للزيغ والانحراف، وقد ييأس من هداية الناس فيفضي ذلك إلى ترك العمل الاحتسابي والجهاد والدعوة إلى الله تعالى، وهذه هاوية أخرى.
  
ولا ثمرة من اليأس إلا الهم والغم وقلة العمل.
  
والفأل الحسن: راحة للنفس واستشراف للمستقبل المشرق.
  
قال الله تعالى: {وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّـهِ إنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّـهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: من الآية 87].
  
وقال الشاعر:

إذا اشتملت على اليأس القلوب *** وضاق لما به الصدر الرحيب
وأوطأت المكاره واطمأنت *** وأرست في أماكنها الخطوب


ولم تر لانكشاف الضر وجهاً *** ولا أغنى بحيلته الأريب


أتاك على قنوط منك غوث *** يمن به اللطيف المستجيب
وكل الحادثات إذا تناهت *** فموصول بها الفرج القريب


وقال آخر:

ولرب نازلة يضيق بها الفتى *** ذرعاً وعند الله منها المخرج
كملت فلما استحكمت حلقاتها ***  فرجت وكان يظنها لا تفرج



والبديل لليأس هو الصبر فهو خلق حميد يحمل على مواصلة السير نحو تحقيق المقاصد، ومن قل صبره لم يصل إلى مراده، وما من طريق إلا وسالكه يحتاج إلى الصبر.
  
والإمامة في الدين ثمرة من ثمرات استقرار القلب وثباته، ولا ينال ذلك إلا بالصبر، قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواوَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].
  
وثبت في الترمذي عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنياً مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فإن من ورائكم أياماً الصبرُ فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم».
  
ضعف الهمة:


فضعيف الهمة يعنى بتوافه الأمور ويترك معاليها، وتراه ينشغل بالمحقرات، ويدع أسباب هدايته وتوفيقه.
  
فمرة ينشغل بجمع المال على حساب أسباب هداية قلبه.. ومرة بالنُزه التي لا يخلو منها أسبوع؛ في الوقت الذي يبخل على نفسه بدرس علم أو حلقة ذكر أو حجة أو عمرة تزكي نفسه وتكفر من خطاياه.. ومرة ينشغل بالتحف والنوادر التي ربما سافر لأجلها، ويبذل فيها المال الكثير، ويترك الكتيب النافع والشريط المفيد.
  
ومن كانت هذه حاله؛ تصرمت أمامه السنون، وتقضت في ناظريه الأعوام وهو بعيد عن أسباب هدايته؛ وما عاقه إلا ضعف الهمة وتدني المقصد، قال الشاعر:

 

ولم أر في عيوب الناس عيباً *** كنقص القادرين على التمام


قال غيره:
 

وإذا كانت النفوس كباراً *** تعبت في مرادها الأجسام

 

ويقول الآخر:
 

ومن يتهيب صعود الجبال *** يعش أبد الدهر بين الحفر


التعلق بالآخرين:

الغلو في التعلق بالآخرين سبب من أسباب الزيغ والانحراف، سواء كان المتعلق به عالماً أو داعية أو وجيهاً أو صديقاً؛ فتجد أن هذا المتعلق لا يتصور هذا المحبوب في طريق لا يكون هو فيها.
  
فمن مظاهر هذا الغلو: التقليد في كل شيء حتى في الأفعال العادية؛ كطريقة الكلام، والقراءة، والأكل، والمشي.
  
ومن هذه المظاهر: ذوبان شخصيته في شخصية محبوبه؛ فلا ترى له قولاً يخالف رأي ذلك المحبوب.
  
ومنها: تغير القناعات السابقة بسبب موقف محبوبه.
  
ومنها: أنه يرى عيوب الناس ولا يرى عيب محبوبه.
  
والله تعالى يعظنا في ذلك فيقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ . إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ . وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:165-167].
  
وهذا هو الإمعة الذي روي فيه الخبر: «لا يكن أحدكم إمعة» قال في (تحفة الأحوذي) عن الإمعة:   
"هو الذي يتابع كل ناعق، ويقول لكل أحد أنا معك؛ لأنه لا رأي له يرجع إليه. ومعناه: المقلد الذي يجعل دينه تابعاً لدين غيره بلا رؤية ولا تحصيل برهان.. وفيه إشعار بالنهي عن التقليد المجرد حتى في الأخلاق فضلاً عن الاعتقادات والعبادات".
  
وقال بعض السلف: "لا يقلدن أحدكم دينه رجلًا، إن آمن آمن، وإن كفر كفر".
  
ثم تأمل حين يُسألُ أحد هؤلاء المتعلقين في ظلمة القبر عن دينه فلا حجة له إلا أن يقول: «.. هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعها الإنسان لصعق..». تلك عاقبة التعلق المذموم.
  
طريقنا إلى الثبات:
  
1. معرفة حقيقة القلب:


من عرف حقيقة القلب وسرعة تأثره وشدة تقلبه رأف به أن يمر به في طرق وعرة ومسالك شائكة. فقد ثبت في مسند أحمد عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا القلب كريشة بفلاة من الأرض يقيمها الريح ظهراً لبطن»، وقال صلى الله عليه وسلم: «القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء».
  
2. تحقيق الإنابة لله والافتقار إليه:


وَأَقْسَمُوا بِاللَّـهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا ۚ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّـهِ ۖ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ . وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ . وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّـهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام:109-111].
  
وإذا استغنى عبد عن رحمة الله وفضله وتوفيقه ولم ييسر له أسباباً تعينه على طاعته؛ فلا ملجأ من الله إلا إليه، ولا طريق إلى طاعته إلا بالافتقار إليه، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَـٰكِن كَرِهَ اللَّـهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46].
  
ومن ثمار توحيد الربوبية أن يعلم أن القلب بيد الرحمن يرسل إليه الهداية إن شاء منةً ورحمة، ويحجبها إن شاء عدلاً وإنصافاً، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّـهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24].
  
3. الحذر من صغائر الذنوب والاستغفار مما كان:

  
فالذنوب تعمي البصيرة وتغطي على القلب؛ فتجعل الحق باطلاً والباطل حقاً، فتؤثر على ثبات القلب واستقراره، قال الله تعالى في أثر الذنوب حتى على الصفوة من الناس في غزوة أحد: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا..} [آل عمران : من الآية 155]، وقال الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّـهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا...} [النساء: من الآية 88].
  
4. العبادة:

  
فالعبادة تزكي النفس وتهذب القلب؛ فهي كفارة للذنوب ومبعدة عن مواقع الزلل والزيغ، قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45]. وقال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ...} [العنكبوت: من الآية 45].
  
5. أن يخلص قصده لله:


فبالإخلاص تهون المتاعب في طريق الدعوة، وتصغر المشاق في طريق هداية القلب، ومن كان له هدف صحيح وغاية عظيمة واصل ليله بنهاره حتى يصل مبتغاه، قال صلى الله عليه وسلم: «من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة».
  
وعكس حالة الإخلاص: إرادة شيء من الدنيا؛ فقد تكون دعوته أو جهاده أو حسبته أو تعلمه أو تعليمه لأجل تحصيل شيء من الدنيا، فإذا لم يحصل له مراده جزع وسقط في أول الطريق؛ فالوقود فاسد والمركبة تالفة.
  
قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّـهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّـهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّـهِ..} [العنكبوت: من الآية 10]، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّـهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]، وقال تعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَّاتَّبَعُوكَ وَلَـٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ..} [التوبة: من الآية 42]، وقال تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:58].
  
وقال صلى الله عليه وسلم فيما صح في سنن ابن ماجة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من جعل الهموم هماً واحداً همُّ المعاد؛ كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك».
  
6. الحذر عند المنعطفات:  

  
يواجه المرء في حياته تحولات وأحداث قد تؤثر في عمل قلبه وتغير مسار حياته؛ فإذا عرفها ومقدار خطورتها وآثارها على قلبه كان حذراً غاية الحذر عند مواجهتها.
  
فمن ذلك الزواج: والزواج وإن كان من أسباب استقرار القلب وعفة النفس وبناء الأسرة المسلمة؛ إلا أنه قد يكون سلاحاً عكسياً، وذلك في أحوال، منها:
حين يتزوج الشاب بامرأة غير صالحة، أو تتزوج الصالحة برجل غير صالح، وقد يقع مع هذا الزواج علاقة محبة؛ فتلاحظ أن أحد الزوجين قد يُشَكِّلُ عقلية الآخر وطريقة تفكيره؛ والمطلوب هنا أن على كل من الراغبين في الزواج أن يختار شريك حياته وفق مقاييس الصلاح؛ لا مقاييس الصورة والمادة.
  
ومن ذلك، الوظيفة أو المنصب: فكم من متواضع ركب أسباب التكبر بسبب وظيفته، وكم من عفيف صار نهماً إلى المال بأي طريق جاء، وكم من ورع في أدنى الشبهات فلما ولي ولاية صار لا يتورع عن واضح المحرمات.. بل أصبح يزين الباطل لرؤسائه، ويستحل محارم الله بأدنى الحيل.
  
ومن ذلك، الصديق الجديد: وقد مضت إشارة مختصرة عن أثره.
  
ومن ذلك، حصول المال: فإن حصوله للمرء لاسيما إذا كان فجأة مجلبة لتغير أحواله.

ومن ذلك، السفر إلى بلدان الفتن: أو غشيان أماكنها.
  
ولا يعني ذلك أن على المرء أن يبتعد عن مظان هذه الفتن مطلقاً، والمراد إنما هو الحذر عند مواجهتها، وفي بعض الأحوال قد يكون دخوله فيها واجباً أو مستحباً.
  
7. الصديق الصالح:  


الصديق الصالح من أكبر المعينات على استقرار القلب؛ فقد مثَّله النبي صلى الله عليه وسلم بحامل المسك، والمؤمن مرآة أخيه، وكل قرين يقتدي بقرينه؛ فاختياره صالحاً سبب من أسباب الثبات. قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: من الآية 28].
  
8. قصر الأمل:  

  
هل ترى أن من يتوقع الموت مساءً أو صباحاً أنه يغتر بالدنيا أو تصرفه ملهياتها عن طريقه؟ وهل ترى أن من يظن أنه يموت في كل لحظة أنه يهمل أسباب سعادته الأبدية؟ فلو رأى الناس طالباً يدخل امتحانه بعد ساعات ثم يرونه مهملاً متكاسلاً لم يعتبروه عاقلاً حازماً جاداً.
  
إن تذكر الموت وتوقع فجأته في كل وقت تجعل المرء دائم الاستعداد لمعاده، حريصاً على ثبات قلبه واستمرار عطائه.
  
والمرء كلما كان في زمن تكثر فيه الفتن والمغريات والملهيات كلما كان أحوج لمثل هذا الحديث؛ فما هذه الدنيا إلا حفنة من السنين لو بلغ المرء فيها سبعين سنة ثم نظر إلى ما خلَّفه من السنين لم يرَ أنه مكث فيها إلا ساعة من نهار.. فعلام إذاً هذا التهافت في النار، ولماذا التسارع في معصية الجبَّار؟
  
قال ابن القيم في (الفوائد [1/198]):"..فإذا فكر في الآخرة وشرفها ودوامها، وفي الدنيا وخستها وفنائها أثمر له ذلك الرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا، وكلما فكر في قصر الأمل وضيق الوقت أورثه ذلك الجد والاجتهاد وبذل الوسع في اغتنام الوقت، وهذه الأفكار تعلي همته، وتحييها بعد موتها وسفولها، وتجعله في واد والناس في واد..".

9. أن يعلم أن العبرة بالخواتيم:


إذا علمنا أن من أسباب اضطراب القلب وعدم ثباته هو العجب بالنفس والاتكال على العمل؛ فإن ما يطرد خاطر العجب هذا هو أن يعلم أن الأعمال بالخواتيم وليس بواقع الحال ذلك؛ فإذا كان كذلك لم يغتر بظاهر صلاح حاله، وظل مستيقظاً حذراً.
  
صح في مسند أحمد عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا عليكم أن لا تعجبوا بأحد حتى تنظروا بم يختم له، فإن العامل يعمل زماناً من عمره أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات عليه دخل الجنة ثم يتحول فيعمل عملاً سيئاً، وإن العبد ليعمل البرهة من دهره بعمل سيئ لو مات عليه دخل النار ثم يتحول فيعمل عملاً صالحاً، وإذا أراد الله بعبد خيراً استعمله قبل موته»، قالوا: "يا رسول الله، وكيف يستعمله"؟ قال: «يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه».
  
10. الاعتبار بقصص الثابتين:  

  
قال الله تعالى: {وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: من الآية 120]. ففي قصص الأنبياء والصحابة والصالحين وعلماء الأمة وصالحيها ما يزيد المرء بمعرفته ثباتاً واستقراراً.
  
11. الدعاء:


الدعاء كما أنه في أساسه توجه إلى السميع البصير ليحقق لنا المأمولات فإنه نوع من الالتزام والعهد على النفس للبقاء على الدين والثبات على الهدى؛ فمن كان حريصاً على هذه الدعوات يلهج بها في كل وقت كانت تذكيراً له لاتخاذ أسباب الثبات والحذر من أسباب الزيغ والانحراف؛ والدعاء أيضاً تذكير بمحاسبة النفس عن كل مؤثر على مسيرة القلب.

 

سليمان بن عبد الله الماجد

قاضي بالمحكمة العامة بالرياض

  • 5
  • 0
  • 9,426

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً