فاكهة المجالس

منذ 2013-07-03

إن الغيبة كما تبين آنفاً أمرها خطير والاحتراز منها صعب جدًّا إلا لمن وفقه الله وأعانه على ذلك، وجاهد نفسه في الاحتراز منها. لذا فينبغي على المسلم أن يجاهد نفسه على تجنبها والابتعاد عنها، وليحاول أيضاً أن يعفو ويصفح عن كل من اغتابه وتكلم فيه، فإن في ذلك أجراً عظيماً.

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
فعادات سيئة وأخلاق ذميمة انتشرت بين قطاع عريض من الناس، ولعلَّ من أخطرها عادة أصبحت أساسية في كل مجلس لا يستغني عنها أصحابها إلا من رحم الله رغم أنها عادة ذميمة وعمل لئيم، وجريمة أخلاقية منكرة، لا يحسنها إلا الضعفاء والجبناء، ولا يستطيعها إلا الأراذل والتافهون، ولا ينتشر هذا العمل إلا حين يغيب الإيمان، وهي اعتداء صارخ على الأعراض، وظلم فادح وإيذاء ترفضه العقول، وتمجه الطباع وتأباه النفوس الكريمة، وهي كبيرة من كبائر الذنوب، ولقد جاء وصفها في كتاب الله تعالى بأبشع الصفات، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12]. ولعظم أمرها فقد جاء الوعيد الشديد في حق مرتكبها، قال صلى الله عليه وسلم: «لما عُرج بي إلى السماء مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقلت: مَنْ هؤلاء يا جبريل؟! قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» (فتح الباري: 10/485).

ولعلك أخي القارئ عرفت ما هي هذه العادة الذميمة والعمل اللئيم، إنها الغيبة التي قال عنها ابن حجر الهيثمي: "إن فيها أعظم العذاب وأشد النكال، وقد صح فيها أنها أربى الربا، وأنها لو مزجت في ماء البحر لأنتنته وغيَّرت ريحه، وأن أهلها يأكلون الجيف في النار، وأن لهم رائحة منتنة فيها، وأنهم يعذبون في قبورهم. وبعض هذه كافية في كون الغيبة من الكبائر". والغيبة بضاعة كاسدة وسلعة رخيصة لا يسعى لها ولا يحافظ عليها إلا ضعاف الإيمان، وهي في الوقت نفسه تجارة خاسرة للمغتاب حيث إنه يخسر كثيراً من حسناته، ويكسب كثيراً من الذنوب والسيئات. وبعض الناس مع الأسف الشديد لا تراه دائماً إلا منتقداً، وينسى صفات الآخرين الحسنة، ويركز على أخطائهم وعيوبهم فقط، فهو مثل الذباب يترك موضع البرء والسلامة ويقع على الجرح والأذى، وهذا من رداءة النفوس وفساد المزاج.

والغيبة هي كما بيَّنها رسول الله بقوله: «أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هي ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» (مسلم: 2589، وأحمد وأبو داود والترمذي). وهي حرام لقوله: «كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه» (مسلم: 2564). والغيبة تكون في القول، والإشارة والإيماء والغمز واللمز، والكتابة والحركة، وكل ما يفهم المقصود فهو داخل في الغيبة، تقول عائشة رضي الله عنها: «دخلت علينا امرأة فلما ولَّت أومأت بيدي أنها قصيرة، فقال رسول الله: اغتبتِها» (تخريج الإحياء: 3/179).

بواعث الغيبة: يقول ابن تيمية رحمه الله في بواعث الغيبة..
1- إن الإنسان قد يغتاب موافقة لجلسائه وأصحابه مع علمه أن المغتاب بريء مما يقولون أو فيه بعض ما يقولون، لكن يرى أنه لو أنكر عليهم لقطع المجلس واستثقله أهل المجلس.
2- ومنهم من يخرج الغيبة في قالب ديانة وصلاح ويقول: ليس لي عادة أن أذكر أحداً إلا بخير، ولا أحب الغيبة والكذب، وإنما أخبركم بأحواله، والله إنه مسكين، ورجل جيد، ولكن فيه كذا وكذا، وربما يقول: دعونا منه، الله يغفر لنا وله، وقصده من ذلك استنقاصه.
3- ومنهم من يخرج الغيبة في قالب سخرية ولعب ليضحك غيره بمحاكاته واستصغاره المستهزأ به.
4- ومنهم من يخرج الغيبة في قالب تعجب فيقول: تعجبت من فلان كيف لا يفعل كيت وكيت، ومن فلان كيف فعل كيت وكيت.
5- ومنهم من يخرج الغيبة في قالب الاغتمام، فيقول: مسكين فلان غمَّني ما جرى له وما تم له، فيظن من يسمعه أنه يغتم له ويتأسف، وقلبه منطوٍ على التشفي به.
6- ومنه من يظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منكر وقصده غير ما أظهر.

خطورة الغيبة:
إن هذا الأمر على خطورته في الدنيا والآخرة لم يأبه به كثير من الناس، وتهاونوا في أمره تهاوناً عظيماً، بل اعتبروه فاكهة مجالسهم، فإنك لا تكاد تجلس في مجلس إلا وهذا الوباء موجود فيه، وسبب انتشاره هو عدم إدراك خطورته، فانظر يا رعاك الله إلى هذه النصوص الكريمة ليتبين لك شناعة الغيبة وخطورتها:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «قلت: يا رسول الله، حسبك من صفية كذا وكذا. -قال بعضُ الرُّوَاةِ : تعني قصيرةً- فقال: لقد قلت كلمةً لو مُزجت بماء البحر لمزجته» (رياض الصالحين: 1533). وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أنهم ذكروا عند رسول الله رجلاً، فقالوا: لا يأكل حتى يطعم، ولا يرحل حتى يُرحل له، فقال النبي: اغتبتموه فقالوا: يا رسول الله، حدثنا بما فيه، قال: حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه» (السلسلة الصحيحة: 6/357).

وروى أبو هريرة «أن رجلاً اعترف بالزنا أمام رسول الله أربع مرات، فأقام عليه الحد، فسمع الرسول رجلين من الأنصار يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه، فلم يدع نفسه حتى رُجم رجم الكلب، قال: فسكت رسول الله، ثم سار ساعة فمرَّ بجيفة حمار شائل برجله -أي قد انتفخ بطنه- فقال عليه الصلاة والسلام: أين فلان وفلان؟ فقالا: ها نحن يا رسول الله، فقال لهما: كُلا من جيفة هذا الحمار فقالا: يا رسول الله، غفر الله لك، مَنْ يأكل من هذا؟! فقال رسول الله: فما نلتما من أخيكما آنفاً أشد من أكل هذه الجيفة، فوا الذي نفسي بيده، إنه الآن في أنهار الجنة ينغمس فيها» (رواه أحمد وصححه الألباني).

وروى أنس قال: «كانت العرب يخدم بعضها بعضاً في الأسفار، وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما رجل يخدمهما، فاستيقظا مرة ولم يهيئ لهما طعاماً، فقال أحدهما لصاحبه: إن هذا ليوائم نوم بيتكم فأيقظاه، فقالا: ائت رسول الله فقل: إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام وهما يستأدمانك، فذهب وأخبر الرسول، فقال الرسول: قد ائتدما، فجاء الغلام وأخبرهما، ففزعا وجاءا إلى رسول الله فقالا: يا رسول الله، بعثنا إليك نستأدمك فقلت: قد ائتدمتما، بأي شيء ائتدمنا، قال عليه الصلاة والسلام: بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين أنيابكما، قالا: استغفر لنا يا رسول الله، قال: هو فليستغفر لكما» (السلسلة الصحيحة: 6/211). فانظر أخي الكريم ما هي الكلمة التي قالاها، كلمة واحدة، قالا: إن هذا ليوائم نوم بيتكم، أي إن هذا النوم يشبه نوم البيت لا نوم السفر، عاتبوه بكثرة النوم فقط فعاتبهما رسول الله.

إن كثيراً من الناس يهولون أمر الربا ويستعظمون أمره وهو كذلك، ويتساهلون بما هو أعظم منه وهي الغيبة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم» (صحيح الجامع: 2531، وحسنه الألباني). أخي الكريم: إن الغيبة هي أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه ذلك، سواء ذكرته بنقص في دينه أو في بدنه أو في نسبه أو في خلقه أو في فعله أو في قوله، حتى في ثوبه ونحو ذلك.

فأما البدن: فكذكر العمش والحول والقصر والسواد، وجميع ما تعلم أنه يكرهه من الصفات إلا أن يكون معروفاً بصفة من هذه الصفات ولا يميز إلا بها وهو لا يكرهها، فلا بأس بذلك.
وأما النسب: فكقولك: أبوه هندي، أو فاسق أو زبال أو أي شيء تعرف أنه يكرهه، أو انتقاصه في حسبه ونسبه.
وأما الخُلُق: فكقولك: هو سيئ الخلق، بخيل متكبر، شديد الغضب، متهور، متسرع وما شابه ذلك.
وأما في أفعاله المتعلقة بالدين: فكقولك: هو كذاب، أو خائن، أو شارب خمر، أو ظالم، أو متهاون بالصلاة، أو لا يحسن الركوع والسجود، أو ليس بارًّا بوالديه، أو لا يحفظ لسانه من الكذب والشتم والسب ونحو ذلك.
وأما فعله المتعلق بالدنيا: فكقولك: إنه قليل الأدب، متهاون بالناس ولا يحترمهم، ولا يرى لأحد على نفسه حقًّا، أو يرى لنفسه الحق على الناس، أو إنه كثير الكلام، وكثير النوم في غير وقت النوم.
وأما في ثوبه: فكقولك: إن ثوبه طويل، أو وسخ الثياب، أو رديء الملابس. وقس على ذلك باقي الأمور الأخرى.

إن بعض الناس قد يغتاب شخصاً فإذا قيل له: "اتق الله ولا تتكلم في أعراض المسلمين"، أجاب بقوله: "أنا مستعد أن أقول ذلك أمامه، أو أن فلاناً لا يغضب مما أقول". فما يدريك يا أخي أنه لا يغضب، فلعله يجامل عندك ولكن في قرارة نفسه يتألم كثيراً من ذلك القول ويكرهه.
أخي الحبيب: إن حديثك تنساه بمجرد إطلاق الكلمة وانتهاء المجلس، ولكنه محص عليك، وأنت موقوف يوم القيامة حتى يقتص منك، فيؤخذ لمن اغتبتهم من حسناتك، فإن فنيت حسناتك، أُخذ من سيئاتهم فحطَّت عليك! وما أشدها من مصيبة أن تفجع في ذلك اليوم العظيم بمثل هذا وأنت أحوج ما تكون للحسنة الواحدة، وكما أنك أيضاً لا تقبل أن يكون عرضك حديث المجالس فكذلك الناس لا يقبلون ذلك لأنفسهم، فطهر لسانك وطهر مجلسك من الغيبة، ولا تسمح لأي شخص أن يغتاب أحداً عندك في مجلسك، ولو تكلم أحد فأسكته وبيّن له حرمة ذلك، ودافع عن أعراض إخوانك المسلمين إذا اغتابهم أحد عندك، فإن في ذلك أجرًا عظيماً كما قال عليه الصلاة والسلام: «من ردَّ عن عرض أخيه المسلم كان حقّاً على الله عز وجل أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة» (رواه أحمد والترمذي). واعلم أخي الكريم أن المغتاب لو لم يجد أذناً صاغية لما اغتاب واسترسل في الحديث، فأنت باستماعك الحديث وعدم إنكارك عليه تكون مشجعاً على المعصية، وإذا لم تنكر عليه ولم تترك المجلس إذا لم يرتدع وينتهي عن الغيبة فإنك تكون شريكاً في الإثم.

وأخيراً: فإن الغيبة كما تبين آنفاً أمرها خطير والاحتراز منها صعب جدًّا إلا لمن وفقه الله وأعانه على ذلك، وجاهد نفسه في الاحتراز منها. لذا فينبغي على المسلم أن يجاهد نفسه على تجنبها والابتعاد عنها، وليحاول أيضاً أن يعفو ويصفح عن كل من اغتابه وتكلم فيه، فإن في ذلك أجراً عظيماً، قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ َلا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى:40]. ولعل ذلك أيضاً يكون سبباً في أن يسخر الله له قلبَ كل من اغتابه هو فيعفو عنه ويسامحه جزاء ما فعل هو مع غيره، ولن يخسر الإنسان شيئاً إذا عفى وسامح، بل إنه سيتضاعف له الأجر بهذا العفو، ولقد عرف الصحابة رضوان الله عليهم ذلك فسارعوا إلى اغتنام مثل هذه الأجور فعفوا وسامحوا وصفت قلوبهم، ومن ذلك ما روي عن رسول الله  أنه حث يوماً على الصدقة، فقام علبة بن زيد، فقال: "ما عندي إلا عرضي فإني أشهدك يا رسول الله أني تصدقت بعرضي على من ظلمني، ثم جلس، فقال رسول الله بعد ذلك: أين عُلبة بن زيد؟ قالها مرتين أو ثلاثاً. فقام علبة، فقال له رسول الله: «أنت المتصدق بعرضك قد قبل الله منك»" (مجمع الزوائد: 3/117).

ويقول ابن القيم في مدارج السالكين: "والجود عشر مراتب، ثم ذكرها فقال: والسابعة الجود بالعرض، كجود أبي ضمضم من الصحابة، كان إذا أصبح قال: اللهم لا مال لي أتصدق به على الناس، وقد تصدقت عليهم بعرضي، فمن شتمني أو قذفني فهو في حل! فقال النبي: «من يستطيع منكم أن يكون كأبي ضمضم»". فلنحرص كل الحرص على أن نكون كأبي ضمضم ونتأسى به ونحذوا حذوه فنعفوا ونسامح كل من ظلمنا أو اغتابنا، لعل الله أن يعفو عنا ويسامحنا، وليكن ذلك من هذه اللحظة قبل أن تضعف النفس ويثقل عليها الأمر فيما بعد.

وفق الله الجميع لما يحب ويرضى، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


دار الوطن

 

  • 2
  • 0
  • 5,437

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً