بين المدنية الغربية والمفهوم الإسلامي للدولة

منذ 2013-08-09

الحديث عن الغرب ومدنيته حديث قديم، وليس حديث الساعة فحسب، فمذ حطت رحال بونابرت على شواطئ الثغر السكندري، والجدل دائر بين دعاة المدنية الغربية بكل تفاصيلها وتوابعها، وبين المتصدين لها من علماء الأمة ومصلحيها سيما أهل مصر؛ فبقدر ما كان لبعض ساكنيها من مخازي بسببها ابتليت الأمة الإسلامية بالعديد من الأفكار والمذاهب الهدَّامة، بقدر ما وُجد بين أهلها من العلماء والمفكرين من تصدى لهذه الدعاوى وسخَّر لها من وقته وعلمه وعمله لأجل مواجهتها.


الحديث عن الغرب ومدنيته حديث قديم، وليس حديث الساعة فحسب، فمذ حطت رحال بونابرت على شواطئ الثغر السكندري، والجدل دائر بين دعاة المدنية الغربية بكل تفاصيلها وتوابعها، وبين المتصدين لها من علماء الأمة ومصلحيها سيما أهل مصر؛ فبقدر ما كان لبعض ساكنيها من مخازي بسببها ابتليت الأمة الإسلامية بالعديد من الأفكار والمذاهب الهدَّامة، بقدر ما وُجد بين أهلها من العلماء والمفكرين من تصدى لهذه الدعاوى وسخَّر لها من وقته وعلمه وعمله لأجل مواجهتها.

وقد كان المنفلوطي أحد الذين تحدثوا عن هذه المدنية فقال في مقدمة مقال له تحت عنوان (المدنية الغربية) ضمن أعماله الكاملة: "لا يستطيع المصري وهو ذلك الضعيف المستسلم أن يكون من المدنية الغربية إن داناها إلا كالغربال من دقيق الخبز، يمسك خشاره، ويفلت لبابه" (1). فالمنفلوطي يرى صعوبة بل استحالة نجاة (المصري) من زيف المدنية الغربية وبهرجها، لكنه أنهى مقاله بقوله: "لا مانع من أن يُعَرِّب لنا المعرِّبون المفيد النافع من مؤلفات علماء الغرب، والجيد الممتع من أدب كُتَّابهم، وشعرائهم على أن ننظر فيه نظر الباحث المنتقد لا الضعيف المستسلم؛ فلا نأخذ كل قضية مسلمة، ولا نطرب لكل معنى أدبي طرباً متهوراً" (2). ويضيف: "ولا مانع من أن ينقل إلينا الناقلون شيئاً من عادات الغربيين، ومصطلحاتهم في مدنيتهم على أن ننظر إليه نظر من يريد التبسط في العلم والتجربة والاختبار، لا على أن نقلدها، ونتقلدها، وننتحلها قاعدتنا في استحسان ما نستحسن من شؤوننا، واستهجان ما نستهجن من عاداتنا"(3).

فما المقصود بالمدنية الغربية؟ وما هي تطبيقاتها في الواقع؟ وما حدود التعاطي معها؟ وهل المدنية الغربية كالمدنية التي ينادي بها دعاتها في الشرق؟ وما هي آثار هذه المدنية على الواقع العربي والإسلامي؟ حول هذه الأسئلة وغيرها سيكون نقاشنا في هذا المقال دون الدخول في تفصيلات وتفريعات يعجز مقال قصير كهذا عن بسطها، وإنما سنكتفي بإعطاء صورة عامة عن هذا؛ ماهية هذا المصطلح وطرق التعامل مع هذه الماهية في محيطنا العربي والإسلامي.

الدولة (المدنية): المصطلح والمفهوم:
قلما يتوافد علينا مصطلح غربي ويظل بنفس مدلولاته ورسمه وتطبيقاته، فكثيرة هي المصطلحات ذات الأصول الغربية التي تحوَّرت وتبدلت بسبب تغيير البيئة والظروف المعيشية الجديدة التي تحيط بهذا المصطلح، فالعلمانية الغربية ليست كعلمانية الشرق، وليبرالية الغرب تختلف في كثير من جوانبها التطبيقية عن الليبرالية التي يُبشِّر بها منظروها في الشرق، والحال نفسه نراه في الشيوعية، والحداثة، ومفهوم (المدنية) التي يدور حولها النقاش في هذا المقال. أما عن مفهوم المدنية الغربية، فـ[يعود أصل الكلمة الأوربية (Civilization) إلى الجذر اللاتيني (Civites) بمعنى مدينة، و(Civis) بمعنى ساكن المدينة، أو (Civilis) بمعنى مدني أو ما يتعلق بساكن المدينة، وهو ما يعرف به المواطن الروماني المتعالي على البربري، ولم يشتق منها (Civilization) حتى القرن الثامن عشر، وربما كان أول كاتب استخدمها في كتاب منشور هو المركيز دي ميرابو، فهي ترد في كتابه (صديق الرجال أو مقال في السكان) الذي نشر في 1757م] (4).

وبعيدا عن الخوض في تفصيلات لا يحتملها المقال يلخِّص لنا نصر عارف صاحب كتاب (الحضارة- الثقافة- المدنية)، خلاصة فهمه لمصطلح المدنية الغربية بعد عرضه لأصول هذا المصطلح وجذوره بقوله: "وبعيدا عن الخوض في هذه التفصيلات التي لا تؤثر كثيراً على جوهر المفهوم يمكن القول إن (Civilization) تعني في جوهرها خلاصة تطور نمط الحياة الأوروبي بكل أبعاده الشخصية والاجتماعية والسلوكية والاعتقادية والاقتصادية والسياسية والمعمارية... إلخ. أي هي صورة الإنسان الأوروبي والمجتمع الأوروبي في الواقع المعاش" (5).

وعليه فالمدنية الحديثة في الغرب لها تفسيرات كثيرة وتشعبات تختلف باختلاف المفسرين لهذا المصطلح والبيئة التي يخضع لها، فهو كغالب المصطلحات الغربية، مصطلح مطاطي هلامي، لا تكاد تظفر له بتعريف موحد ورؤية واحدة. وعليه فمن الملاحظ في هذا اللفظ وفي غيره من المصطلحات الوافدة على الواقع الإسلامي، أنه من قبيل الألفاظ المجملة، التي تحتمل أكثر من معنى، ولهذا فللسياق العربي أهمية كبيرة للحكم على هذا المصطلح، وهذا السياق يرتبط بشكل كبير بتطبيقات هذا المصطلح، وقبل ذلك يرتبط بما كُتب عنه من تنظيرات عربية.

وإذا نظرنا إلى الواقع العربي وتعاطيه مع مصطلح (التمدن)، و(المدنية) سنجد اختلافا كبيرا بين الرؤى المفسرة له، ففي حين يراه البعض دعوة إلى السمو الأخلاقي، والكمال الروحي، والنفس الحضاري كما نرى ذلك عند محمد عبده وعدد من تلامذته؛ يراه آخرون بمثابة التقليد الحرفي لكل ملمح غربي، ومظهر تغريبي، وعلى هذا الأساس رأينا قاسم أمين في كتابه (المرأة الجديدة) يناصر هذا المنحى ويدعو إليه، فيقول في كتابه: "هذا هو الداء الذي يلزم أن نبادر إلى علاجه، وليس له دواء إلا أننا نربي أولادنا على أن يتعرفوا علي شؤون المدنية، ويقفوا علي أصولها وفروعها وآثارها، وإذا أتى ذلك الحين، ونرجو أن لا يكون بعيدا، انجلت الحقيقة أمام أعيننا ساطعة كسطوع الشمس، وعرفنا قيمة التمدن، وتيقنا أنه من المستحيل أن يتم إصلاح ما في أحوالنا إذا لم يكن مؤسسًا علي العلوم العصرية الحديثة، وأن أحوال الإنسان مهما اختلفت وسواء كانت مادية أو أدبية خاضعة لسلطة العلم، لهذا نري أن الأمم المتمدنة علي اختلافها في الجنس واللغة والوطن والدين متشابهة تشابها عظيما في شكل حكوماتها، وإدارات محاكمها، ونظام عائلتها وطرق تربيتها، ولغاتها وكتابتها ومبانيها وطرقها بل في كثير من العادات البسيطة كالملبس والتحية والأكل" (6).

فالتمدن عند قاسم أمين ومن سار خلفه، لم يكن يعني سوى التماهي مع الآخر (الغرب) وترسُّم خطاه وتقليده في كل كبيرة وصغيره، أو بمعنى آخر هو دعوة صريحة إلى سلخ الإنسان (المسلم) عن هويته واستبدالها بهوية غربية تتطابق مع هوية الرجل الأوربي آنذاك، والقالب الغربي العلماني الذي استقر عليه الحال في أوروبا، وهي هوية مادية بحته، مصادمة للدين وللغيب ولكل ما هو مقدس.

(المدنية): إشكاليات المصطلح في الواقع العربي الإسلامي:
بانتقال مصطلح المدنية إلى الواقع العربي تعددت التفاسير المطروحة له، وذهب كل فريق يُدجِّن له من الكلمات ما يوائم تصوارته وآماله، بحيث يتم قبوله في الواقع العربي والإسلامي، فذهب البعض إلى تفسير المدنية على أنها مقابل للبداوة، وذهب البعض الآخر إلى جعلها مقابلاً للحكم العسكري، وعند فريق ثالث جاءت المدنية عنده لتقابل ما يعرف بـ(الثيوقراطية)، أو (الدولة الدينية) التي يحكم فيها الشعب باسم الإله، فـ(الثيوقراطية) مصطلح صكه الرجل الأوروبي للدلالة على تسلط رجال الكنيسة على أفراد الشعب، وتسلط بابا الكنيسة الذي يحكم ويشرع باسم الله، ولهذا ثارت فرنسا، ولهذا جاء شعار ثورتها: (اشنقوا آخر نبيل بأمعاء آخر قسيس).

ولا إشكال في هذه الرؤى فلا تعارض بينها وبين المفهوم الإسلامي للدولة بالنظر إلى العموميات، فالإسلام لا يعارض الرقي الحضاري والتقدم بمختلف أشكاله طالما انضبط بضابط من الشرع، كما أنه لا يدعو لدولة يتسلط فيها الحاكم على الشعب بأي شكل كان سواء بالعسكرة التي ينتهجها الفاشيون من الساسة والحكام، أو باسم الحق الإلهي، أو ما يعرف بنظرية (الطبيعة الإلهية للحاكم)، كما فعلت الكنيسة في أوروبا والغرب عموما، وتفعل إيران حاليا تحت راية (ولاية الفقيه). فلا (ثيوقراطية) في الإسلام، وإنما اتباع لصحيح الدين، وطاعة للحاكم في المعروف، فكل من الحاكم والمحكوم خاضع داخل النظام الإسلامي لسلطان الدين المستمد من الوحي (القرآن والسنة).

أما الطرح الأخير والخطير لمفهوم الدولة المدنية فأقرب الطروحات له هو الطرح العلماني، الذي ينادي بفصل الدين لا أقول عن الدولة فحسب، بل يرى فصل الدين عن واقع الحياة بصفة عامة، وملاحقته والقضاء عليه، حيث يرى هذا الطرح كما يرى رعاة العلمانية أن المدنية منهج حياة، وفلسفة عامة وشاملة لكل جزئية من جزئيات الواقع المادي والروحي الذي يحياه الإنسان، وهذا الطرح هو الطرح الأكثر قبولا لدي قطاع كبير من مثقفي العرب من العلمانيين والليبراليين وأصحاب التوجهات الفكرية المناوئة للتيارات الإسلامية العاملة في حقلي الدعوة والسياسة. والطرح الأخير لم تظهر فجاجته، ويظهر تبجحه إلا في الفترة الأخيرة قبيل ثورات الربيع العربي، حيث وجد سدنة العلمانية ورعاة المدنية تجاوباً من قبل النخب الحاكمة، ودعما غربيًا، وواقعًا مهترءًا، وفوق هذا كله وجدوا تمزقًا وتفرقًا داخل الصف الإسلامي؛ مما دفعهم إلى المضي قدمًا نحو غاياتهم، مكشرين عن وجههم القبيح، فبعد أن داهنوا عموم المسلمين لسنوات بوصفهم المدنية مقابلًا للتمدن والرقي الحضاري، بعيدا عن حكم العسكر، وتسلط الحاكم، رأيناهم يضعون أيديهم في يد العسكر معلنين عن قيام إمبراطوريتهم الرافضة للدين والعرف ولكل ما هو مقدس من على ظهور الدبابات وفوهات المدافع، وليس أدل على هذه الطوية وذلك الصنيع مما يحدث في مصر هذه الأيام، حيث اصطف رافعو راية المدنية العلمانية إلى جانب العسكر للتخلص مما يسمونه بتيارات الإسلام السياسي وإنهاء وجودهم على حد أحلامهم.

خاتمة:
بعيدا عن التصورات السابقة لمفهوم الدولة نقول: إن الدولة في الإسلام من حيث كونها تعبر عن (كيان بشري يعيش داخل إطار حدودي وفق قوانين وتشريعات تضبط العلاقات بين هذا الكيان)، فلا فرق بينها -أعني الدولة الإسلامية- وبين مثيلاتها خارج الإطار الإسلامي، وإنما الفارق الرئيس والجوهري، أن قوانين وتشريعات هذه الدولة منضوية تحت لواء الشرع، فلا يجوز بأي حال من الأحوال أن تحيد الدولة أو يحيد أفراد الدولة أو يحيد رأس الدولة عما حدده الإسلام من أحكام وتشريعات وضوابط، وإلا حُكم على هذه الدولة بالمروق عن صحيح الدين.

فـ[المُسْتَنَد القانوني للحُكم في الدولة الإسلامية هو الإسلام، فالقوانين التي تحكُم في الدولة الإسلامية هي مِن عند الله، وإطاعتها على ذلك واجبٌ لا بُدَّ منه، والإنسان تطمئن نفسه إلى طاعة ربه وخالقه، بقدر ما تنفر مِن طاعة قوانين بشر مثله] (7)، و[وظيفة الدولة القيام على الدعوة الإسلامية، وإقامة الشريعة الإسلامية، وقيادة الأُمَّة وفق هذه الشريعة] (8).
ـــــــــــ
الهوامش:
(1) مقال: (المدنية الغربية)، لمصطفى لطفي المنفلوطي، ضمن أعماله الكاملة.
(2) المرجع السابق.
(3) المرجع السابق.
(4) الحضارة، الثقافة، المدنية، دراسة لسيرة المصطلح ودلالة المفهوم، نصر محمد عارف: (ص:33).
(5) المرجع السابق، نفس الصفحة.
(6) المرأة الجديدة، قاسم أمين: (ص:185).
(7) نحو ثقافة إسلامية أصيلة، أ.د. عمر سليمان الأشقر: (ص347).
(8) المرجع السابق: (ص349).         
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

رمضان الغنام

كاتب إسلامي مصري التحصيل العلمي: "باحث بالدكتوراه"، تخصص الدراسات الإسلامية، جامعة طنطا.

  • 11
  • 0
  • 8,847

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً