الوداع الأخير

منذ 2013-10-04

يومان وتُقْبِل لحظات الفراق المحرقة، تلك اللَّحظات التي تتكرَّر بآلامها ودموعها كلَّما قَدِمتُ من الخارج لزيارة أمِّي في "مخيَّم الشاطئ" بغزَّة.


يومان وتُقْبِل لحظات الفراق المحرقة، تلك اللَّحظات التي تتكرَّر بآلامها ودموعها كلَّما قَدِمتُ من الخارج لزيارة أمِّي في "مخيَّم الشاطئ" بغزَّة.

قد بكت أمي كثيرًا عندما استقبلَتْنا أنا وزوجي وأولادي، كان جسمُها النَّحيل يهتزُّ من البكاء وهي تُلْقِي بنفسها على كلٍّ منَّا، تحضنه وتشمُّه، وتكرِّر ذلك مرَّات عديدةً، حتَّى خِفتُ عليها أن تلفظ أنفاسها من شدة الفرح.

كانت تحاول أن تحمل حقائبنا بيديها المرتعشتين إلى داخل مَنْزلنا القديم المكوَّن من غرفتين من اللَّبِن، المسقَّف -بالإسبست- ولكن الأولاد لم يدَعوها تفعل ذلك.

أخذَتْ تَسأل وتسأل، وتنظر إلى الأولاد واحدًا واحدًا، وتُطيل النَّظر.

- من هذا؟ أهذا أحمد؟ يا حبيبِي يا أحمد! لقد كبِرتَ والله، وأصبحتَ رجلاً!

- ومن هذه؟ أهذه فاطمة؟ ما شاء الله، ما شاء الله، لقد أصبحتِ عروسًا يا فاطمة!

وتتوجَّه بكلامها إليَّ:

- كم شهرًا ستبقون عندي يا ولدي؟

فأجيبها مشفقًا:

- شهرًا واحدًا إن شاء الله يا أمي.

- لا لا، شهرٌ واحدٌ لا يكفيني، أريد أن أشبع منكم، إنَّني كما ترى أعيش وحيدةً مع هذه الجدران بعد أن سجَنوا أخاك، وبعد أن سافرَتْ أختُك مع زوجها.

- أريدكم أن تبقوا عندي ثلاثة أشهر، أريد أن تبقوا معي العمر كلَّه، إنَّني أعدُّ الأيامَ والساعات لهذا اليوم يا ولدي، ولا أريدُكم أن تفارقوني بسرعةٍ هكذا.

ويتوافد الجيران للسَّلام علينا، وتسيل دموعٌ كثيرة تُبلِّل الخدود، ويُوَزَّع شراب التُّوت على الصِّغار والكبار.

كان مدخل المخيَّم على حاله منذ أن رأيتُه آخِرَ مرَّة قبل سنوات، الباعة المتجوِّلون يدفعون أمامهم عرباتِهم بأحمالها من الخُضَر والفاكهة، والعجائز يَجْلِسن في حلقات على (المصاطب) أما الأبواب وعلى الأعتاب، يقتُلن الوقت بالحديث، ويقطفن أوراق الملوخيَّة، الأزِقَّة الضيِّقة تتخلَّلها قنوات المياه القذرة التي يخوض فيها البطُّ والدَّجاج، الأطفال يرقبون القادمين بدهشة حينًا، وبحزنٍ دفين يلوح في أعينهم وعلى وجوههم أحيانًا، البحر القريب بِزُرقته الأبديَّة الداكنة وأمواجِه الساهرة التي تتكسَّر على صخور الشاطئ برتابة ولا مبالاة، كلُّ شيء على حاله، لم يتغيَّر، والناس يأكلون وينامون، ويتناسلون ويموتون، ولا شيءَ جديدًا غير الليل والنهار، وغير آمال خجولة متخفِّية في القلوب بأن تتغيَّر الأحوال، والأحوال لا تتغير إلا من سيِّئ إلى أسوأ!

ويميل عليَّ عجوز من الجيران ويسأل:

- ألم تسمع شيئًا عن ولدي جابر؟

- ويستطرد؛ يقولون: إنَّه سافر إلى أستراليا، لقد انقطعتْ عنا أخباره منذ عامين.

ويُشيح العجوز بوجهه إلى الجهة الأخرى، وتتساقط دموعٌ غزيرة من عينيه، وتَدْخل زوجُه، فتراه يبكي، فلا تزيد على أن تقول:

- لقد أصابه الضَّغط من كثرة تفكيره في الولد، وأنا أقول له: ارحم نفسك، ارحم نفسك، فلا يسمع، فمَن لي إذا جرى له شيء لا سمح الله؟

وأفهم من إشارةٍ للمرأة أنَّها تُريدني أن أطمئنه ولو كذبًا، فأجد نفسي أقول له دون تفكيرٍ:

- لقد سَمِعْنا أنه سيحضر في العام القادم لزيارتكم إن شاء الله.

وفجأةً -كمن أُضيئت في قلبه ألف شمعة- يتَّجه العجوز إليَّ، ويُقبِّلُني مرات.

- أحقًّا ما تقول يا ولدي؟ وهل ستُكتَب لي رؤيته قبل أن أموت؟

فأجيبه بمزيد من الثقة:

- نعم يا عم، أبا جابر، ستراه قريبًا إن شاء الله.

وكمن لا يريد أن يُصدِّق، عاد يقول وفي صوته رنَّة أسًى يائسة:

- مصير الحي يتلاقى!

ويدخل جيران، ويخرج آخرون، وبعد السَّلام يكون السؤال عن الولد الذي سافر ولم يعُد، أو عن الولد الذي وعد بأن يزور في الصيف، وجاء الصيفُ، وتبعه الخريف، والشتاء، والربيع، ولم يحضر، والشيوخ الذين يعيشون على أمل رؤية الأبناء الغائبين، وغالبًا ما يموتون قبل أن تتحقق الأحلام.

ونسمع صوتًا خشنًا لسيارات وآليات، فأتساءل، فيقول العمُّ أبو جابر:

- لعلَّه (طوق) جديد، ومَنْع تجوُّل، يظهر أن الشباب قاموا (بعمليَّة) جديدة، لقد اعتَدْنا على مثل هذا الطوق، فقد يستمرُّ يومًا، وقد يمتد أيامًا عديدة.

فأسأله:

- وكيف تعيشون أنتم في هذه الأيام؟ هل يسمح لكم بالخروج لشراء حوائجكم؟

- قد يسمحون، وقد لا يسمحون، ونحن في مثل هذه الأحوال نتقاسم الرغيف، وشربة الماء، وكما ترى؛ فحياتنا بسيطة، ومطالبنا قليلةٌ مَحدودة.

ويستمرُّ العم أبو جابر موجِّهًا كلامه إليَّ:

- أتعرف يا صالح، إنَّ يوم قدوم أيِّ مغترب للمخيَّم هو يوم عيدٍ للجميع، كلُّ إنسان يرى أنَّ الذي حضر هو ولده، أو قريبه؛ فهو يستأنس به، ويفرح.

وتغرب الشمس في أفق البحر على مدى البصر، كَكُرة من النُّحاس الملتهب بعد أن خلَّفت وراءها مزيجًا من الشَّفق الأحمر، وظلمة الليل القادمة من الشرق.

وتَسْكن الحركة رُويدًا رويدًا في أرجاء المخيَّم، وأمِّي لا تزال في ذهول، وكأنَّها لا تصدِّق أنَّ ولدها وأبناءه جميعًا أمام ناظريها، تستطيع أن تلمسهم وتُقبِّلهم في عالَم الواقع، لا في عالم الخيال! وأنَّ قسوة الانتظار قد رحلَت، ولو إلى حين، وتقول:

- لقد نِمتُ في المستشفى بضعة أيام في الشَّهر الماضي، ولكني أشعر الآن وكأنَّ شبابي قد عاد إليَّ، لم أعُد أشكو من شيء.

وشعرتُ في قرارة نفسي بأنَّ أشواقها ولهفتها للِقائنا هي التي تجعلها تتماسك وتُعطي جسدها المريض دفقاتٍ من الحياة.

وانتهى (الطوق) -لِحُسن الحظِّ- مع ظهيرة اليوم التَّالي، فأُتيحت لي فرصةٌ ثمينة لزيارة الأقارب والأصدقاء في المدُن والقُرى المُجاورة، كانت تلك أيامًا رجعَتْ بي إلى مطلع الشَّباب، وأحيَتْ في قلبي ذكرياتٍ غاليةً، حجبَتْها السِّنون الطويلة وراء ستارةٍ كثيفة من مشاغل الحياة وهمومها، ولكنَّها ما إنْ وجدَت منفذًا حتَّى عادت للحياة من جديد كالنَّار الكامنة تحت غلالة رقيقة من الرَّماد، تبعثها وتُذَكِّيها هبات النسيم.

ويتبَرَّع العمُّ "أبو جابر" بأن يأخذني في رحلةٍ إلى داخل الأرض المحتلَّة؛ لأرى قريتنا القديمة التي ترقد على بعد ثلاثين ميلاً بين بساتين البرتقال وكروم العنب وأشجار الكينا البَرية، التي تناطح السَّحاب.

وقُمنا مبكِّرين في أحد الأيام حيث توجَّهنا في سيارة عامَّة مع جموع العمال الذين يكدحون في الأرض المحتلَّة؛ لكسب الرِّزق، وأشار العمُّ أبو جابر للسائق بالتوقُّف عند طرف القرية.

كانت الجرَّافات الصِّهيونيَّة قد أزالتْ كلَّ أثر للبيوت، ولم يبقَ سوى جزءٍ من جدار المسجد المبنِيِّ من الحجارة السُّود الضخمة، وجزءٍ من منارته التي كانت القرية تُباهي بها القرى المُجاورة بجمالها وارتفاعها، وإطلالها على البحر؛ حيث يراه النَّاظر من فوقها وكأنه يقبِّل قدَميها.

وكانت أشجار الجميز العتيقة قد تقصَّفَت رؤوسُها ويبسَتْ، ونما تحتَ بعضها فروعٌ جديدة، وكأنَّها تُذكِّرنا باستمرار الحياة، ومحاولة البدء دائمًا من جديد.

قال العم "أبو جابر":

- أتدري يا صالح، إنَّ بستان اللوز هذا الذي أمامك غُرِس فوق المقبرة بعد أن أُزِيلَت بالجرافات، وحرثَتْ أرضَها الحراثات.

وكأنني أفقت من حُلم، فسألتُه:

- حقًّا، أين المقبرة؟ وأين سورها المهيب؟

إنها تحت هذا البستان.

وتقفز إلى ذاكرتي صورة باهتةٌ لأبي رحمه الله بقامته المديدة وهو يحمل في كتفه بندقيَّة الصيد ذات الفوهتين التي كان يعتزُّ بها، ويتعهَّدها بالتلميع بعد كلِّ رحلة صيد في الأحراج المُجاورة، أو على ضفاف نهر (سكرير) القريب، ووقف العمُّ "أبو جابر"، ووقفتُ؛ هنا يرقد الآباء والأجداد، هنا تمتد الجذور ضاربةً في عمق التاريخ، ودعَوْنا لأموات المسلمين الذين بُعثِرَ رُفاتُهم تحت أشجار اللوز.

كان العم "أبو جابر" يَسير أمامي، وكنَّا صامتَيْن، يجترُّ كلٌّ منا ذكرياتِه، وفجأةً يقطع عليَّ العم "أبو جابر" شريط الذكريات، فيقول:

- إنِّي أتذكَّر الآن يا صالح، تلك الرحلة التي خرَجْنا فيها أنا وأبوك للصيد على ضفاف النهر، كان يريد أن يبيع بندقيَّة الصيد، ويشتري بدلاً منها بندقية (أم خمس)، ولكن القدَر لم يُمْهِله بعدها، فقد توفاه الله قبل تحقيق حُلمه، وعزفَتْ نفسي عن الصيد، ولم أخرج إليه منذ ذلك اليوم إلى أن هاجَرْنا.

- ومن خلف إحدى الأشجار، لاح لنا فتًى في نحو السابعة عشرة، يلبس (برنيطة) سوداء، وأشار إلينا أن ابتعدوا، فلم نتحرَّك، فأخرج من جنبه مسدسًا، ولوح به نحونا مهدِّدًا، فسحبني العم "أبو جابر" من يدي، واتجهنا إلى مكانٍ آخر من هذا الفراغ الموحش الذي كان -يومًا- قريتَنا.

- كانت كروم العنب قد جفَّت بعد ثلاثين عامًا طويلة من الإهمال، ونَمتْ مكانها نباتاتٌ برِّية، تشبه تلك التي كانت تنمو في الأحراج، كان قلبي يتقطَّع مع كلِّ ذكرى، وكانت عيناي تدمعان مع كلِّ منظر جديد، ولاحظ ذلك العمُّ "أبو جابر"، فقال متأسفًا:

- ليتني لم آت بك إلى هنا.

- لِمَ يا عم أبا جابر؟

- لقد فتحتُ في قلبك جروحًا بائتة، ومواجع نائمة.

- إنَّها ليست مواجع يا عم أبا جابر، لا بدَّ من أن أرى هذه المناظر؛ حتَّى لا أنساها، وسوف أُحْضِر الأولاد غدًا إن شاء الله لِيَرَوْها؛ لتبقى الشعلة متَّقِدة وسط الظلام.

ونعود أدراجَنا إلى الطريق العامِّ، ونستوقف سيارةً، عائدَيْن إلى مخيَّم الشاطئ بغزة، والآن بقي يومان على موعد السَّفر، يومان فقط، وقلب أمي يدقُّ في صدرها، وعيناها زائغتان غائرتان في محجريهما، وهي ذاهلة لا تكاد تصدِّق أنَّ أيام السعادة قد انقضَت، لا تكاد تصدِّقُ أنَّ ولدَها "صالحًا" وزوجه وأبناءه سيُفارقونها قريبًا، وتحاول أن تَتماسك، وتحاول أن تتصبَّر، ولكن وجهها يزداد مع كلِّ ساعة اصفرارًا وشحوبًا، وتغور عيناها أكثر فأكثر.

ويرتجف قلبي حزنًا عليها وعلى حالها؛ كيف ستَبقى وحيدة؟ كيف يمكن لعجوزٍ كهذه أن تُواصل الحياة وحيدةً في دار تصفرُّ فيها الريح، لا أنيس ولا جليس مع مرضها وعجزها؟ وفي صبيحة اليوم الذي يسبق سفرَنا، راحت أمي في غيبوبةٍ بعد أن بكَت طويلاً، وردَّدت عبارةً واحدة مرات ومرات: لا تتركوني وحيدة، لا تتركوني وحيدة.

ونقَلْناها إلى المستشفى وهي بين الحياة والموت، ولم يمهلها القدَرُ إلاَّ ساعات، فصعدَتْ روحُها إلى بارئها قبل أن ترى الولد والأحفاد وهم يُفارقونها!

لقد رحمها أرحمُ الراحمين من عذاب اللَّحظة المحرِقة؛ لحظة الوداع الأخير.


محمد محمود جادالله
 

  • 0
  • 0
  • 1,965

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً