التربية لماذا؟

منذ 2013-10-06

نتكلم كثيرًا عن التربية والمربين والعلاقة التربوية بين الفتاة المراهقة وأبويها ومعلميها، ولكننا في أحيان كثيرة وأثناء انشغالنا بالتفاصيل اليومية نغفل عن الأركان الرئيسية في قضية التربية...


نتكلم كثيرًا عن التربية والمربين والعلاقة التربوية بين الفتاة المراهقة وأبويها ومعلميها، ولكننا في أحيان كثيرة وأثناء انشغالنا بالتفاصيل اليومية نغفل عن الأركان الرئيسية في قضية التربية، والتي تجاوب على الأسئلة المحورية في هذا الموضوع مثل:

ما معنى التربية ومفهومها؟


لماذ نربي؟

كيف نربي؟

ما عوائق التربية؟

ما الفارق بين تربية الآباء والأمهات وتربية المدرسة وغيرها من المؤسسات التربوية؟

هل التربية هي فقط التربية الإسلامية بمفهومها المعتاد من التعويد على العبادة وترك المعاصي والنصح والإرشاد في القيم الإسلامية؟

ما مواصفات المربي الفعال وما مواصفات المتربي الفعال؟

هل كل أحد يصلح للتربية سواء كان مربيًا أو متربيًا؟ أم هناك فروق؟

ما وسائل التربية الفعالة؟

هذه الأسئلة وغيرها الكثير سنجيب عليها بإذن الله في سلستنا القادمة عن التربية ومفهومها ووسائلها فنضع أيدينا على الداء ودوائه بإذن الله تعالى.

ولنبدأ أولًا بمفهوم التربية:

التربية لغة:
تأتي التربية في اللغة بمعنى: "إنشاءُ الشيءِ حالًا فحالًا إلى حَدِّ التمام"، و"ربُّ الولدِ (ربًّا): وليُّه وتَعَهُّدُهُ بما يُغذِّيه ويُنمِّيه ويُؤدِّبه…".

التربية اصطلاحًا:
ولن نتكلم كثيرًا عن اختلافات العلماء في تعريفات التربية، ولكننا سنذكر مباشرة التعريف المختار للتربية وفق ما نريده بإذن الله.

إن التربية التي نتحدّث عنها أبعد من أن تكون نظريات فلسفية، أو مفاهيم سلوكية مجردة. إنها تعني الصياغة المتكاملة للفرد والمجتمع على وفق شرع الله سبحانه وتعالى، أن نصوغ الفرد بدءًا بصلته بالله سبحانه وتعالى، وأخلاقه، وسلوكه، ومهاراته، وقدراته العلمية والاجتماعية، وتعامله مع الناس، فهي تعني باختصار إعادة بناء الفرد، وإعادة بناء المجتمع بناءً مستقيمًا وفق شرع الله سبحانه وتعالى.

الإنسان يتربى شاء أم أبى:

الإنسان أيًا كان لا بد أن يتعرض للتربية، والتربية ليست بالضرورة تربية إيجابية، فقد تكون تربية سلبية، وقد تكون تربية على مفاهيم خاطئة، وقد تكون تربية منحرفة، لكن الناس كل الناس لا بد أن يتعرضوا للتربية، إما تربية ذات منهج وخطاً واضحة، أيًا كان هذا المنهج صالحاً أو فاسداً، أو كانت خلاف ذلك، وقد تكون أمورًا ارتجالية غير مقصودة، ولكنها تربي الإنسان شاء أم أبى.

المجتمع أيضاً يربي:

وكذلك فإن الموروثات الاجتماعية من آداب وتقاليد يرثها الناس ويتوارثها المجتمع، تربي الفرد وتؤثر فيه فتصبح جزءًا مستقرًا في كيانه، فأنت ترى مثلًا مجتمعًا ألف الكرم والسخاء والجود، فترى مثل هذه الجوانب تظهر على كل فرد يخرج من هذا المجتمع، وترى مجتمعًا تربى على الشجاعة والإرادة فترى أفراده كذلك. وبالعكس، ترى مجتمعًا تربى على الجبن والخوف والبخل وبذاءة اللسان، فترى أيضًا هذه الموروثات تصبغ هذا المجتمع بصبغة معينة من خلالها يتربى الفرد، ويتأثر من خلال هذه الموروثات التي يرثها من مجتمعه.

أهمية الدور:

إن إعداد الفتاة المسلمة أبعد من مجرد تخريج فرد ملتزم بالإسلام بحد ذاته، إننا حينما نعد الفتاة فإننا نعد الصف الأول على مستوى الأمة الذي يطلب منه أن يساهم في إنقاذ الأمة، وأن يساهم في إعادة صياغة مجتمعات المسلمين، وأن يساهم في إعادة بناء مجتمعات الأمة، وهو هدف ضخم وبعيد لا يمكن أبدًا أن يقوم إلا من خلال تربية، وإعداد متكامل، لا يمكن أن يقوم به مجرد فتاة تحمل عواطف جياشة، وحماسة ثائرة.

ومن ثم فإن الفتاة المسلمة التي يمارس عليها دور تربوي محدد لصياغتها وإعدادها تختلف اختلافاً جذرياً عن تلك الفتاة التي تقرأ كتاب الله وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وتلتزم بشعائر الإسلام دون تربية حقيقية على تلك المعاني ومحاولات جادة ومضنية لغرسها في النفوس لتشعها بعد ذلك في أجوائها الاجتماعية بين أصدقائها وأقاربها فعلا قبل أن يكون قولاً.

تصورتاك عن الحياة:

التربية مهمة في اكتساب التصورات التي يجب على الفتاة المسلمة أن تحملها؛ مفهوم لا إله إلا الله، وأهمية التوحيد وأنواعه، والولاء والبراء، ومفهوم العبادة، والتغيير لا الترقيع، وتميز المسلم، والالتزام بالسنة، والاستعلاء والاعتزاز بهذا الدين، والعلم الشرعي وكيفية التفقه فيه، وجنسية المسلم وعقيدته، ومنهج التفقه، وتعظيم النصوص، وعدم التعصب، والعمل لهذا الدين، والتقديم والتضحية، وعالمية المنهج، والموقف من الخلاف، والأخوة الإسلامية، والجدية في الالتزام، والتلقي للتنفيذ، ومفهوم القضاء والقدر، ومفهوم الدنيا والآخرة، ومفهوم الحضارة وعمارة الأرض.

هذه طائفة من المفاهيم الكثيرة، جزءٌ منها مما يجب على الفتاة أن تحملها، كيف تحملها إذا لم يكن قد تربت؟ وكيف تتشرّب هذه التصورات إذا لم يكن لها طريقٌ تسلكه وتتربى من خلاله؟

واجهي الشبهات:

إن التربية مهمةً لمواجهة الشبهات، كثيرٌ من المسلمين تخطر في بالهم شبهات، ويلقي الشيطان في أنفسهم نزغاتٍ فيها شيء من الزيغ، فإذا لم تكن هناك تربية تربي الفتاة لتنقذها من الشبهات هلكت.


فمنهم من تأتيها شبهات في وجود الله، وشبهات في صحة القرآن، أو صحة النبوة والرسالة والوحي، أو حتى مما يلقي إليهن شياطين الإنس من بعض الشبهات في بعض الأحكام الشرعية؛ كالرق، وتعدد الزوجات، ونحو ذلك، وشبهات تعرض حتى لبعض الدعاة إلى الله، فقد يقول بعضهم: أنا أقع في منكرات فلا يجوز أن أدعو، كيف آمر بالمعروف ولا أفعله؟ وكيف أنهى عن المنكر وأقع فيه؟ إذًا: الحل ألا آمر ولا أنهى، فيقع في الخطأ العظيم بسبب هذه الشبهة.

فكيف يكون الطريق لاقتلاع جذور هذه الشبهات؟ وكيف يكون الطريق للرد عليها من النفس على النفس؟ لا يكون ذلك إلا بتربية تنمي العقل وتزكيه وتقتلع منه جذور الشبهات وتزرع مكانها بذور الإيمان والتقوى.

المعاني الكبيرة تحتاج لتربية:

هناك معانٍ كبيرة يحتاج إليها الإنسان في حياته العادية، فضلًا عن مسلمة، فضلًا عمن يراد منها أن تساهم في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وتساهم في قيادة الأمة. فمثلا الصبر: يسهل أن تتحدث عن الصبر في خطبة، في درس، في كتاب، في مقالة، في أي مكان يمكن أن تتحدث عن الصبر، ولكن الصبر معنىً عميق يجب أن تتربى عليه النفوس، الصبر الذي نريد يحتاج إلى مجاهدة، ويحتاج إلى جهد وتربية، وليست قضية تقف عند مجرد طرح معان معرفية، يقول الله عز وجل: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3].
فالصبر إذًا معنىً يحتاج إلى أن يتواصى على تحقيقه والوصول إليه.

وكذلك التأني والروية، وعدم الاستعجال، الكرم، الشجاعة، المبادرة، الثقة بالنفس، أدب الحوار، معانٍ كثيرة يمكن أن نطرحها طرحًا نظريًا مجردًا، ونتحدث عن هذه المعاني، ونتذكر الصور من التاريخ من القديم والحديث، ولكن لا تتصور أن هذا وحده كافٍ بأن تغرس هذه المعاني عند النفوس أبدًا، إن هذه المعاني بحاجة إلى تربية من الفرد نفسه، ومن الأستاذ، ومن الأب، ومن الجميع أن يتربى الفرد على الصبر، ويتربى على الكرم، ويتربى على الشجاعة، ويتربى على المبادرة والثقة في النفس.

توجيه المشاعر:

وتكمن أهمية أخرى للتربية وهي توجيه المشاعر والأحاسيس إلى طريقها الصحيح، فإن في النفس الإنسانية "خطوط متقابلة، فمن عجائب التكوين البشري تلك الخطوط الدقيقة المتقابلة المتوازية، كل اثنين منها متجاوران في النفس، وهما في الوقت ذاته مختلفان في الاتجاه: الخوف والرجاء.. الحب والكره.. الاتجاه إلى الواقع والاتجاه إلى الخيال.. الطاقة الحسية، والطاقة المعنوية.. الإيمان بما تدركه الحواس والإيمان بما لا تدركه الحواس... حب "الالتزام" والميل للتطوع.. الفردية والجماعية.. السلبية والإيجابية.. إلخ، كلها خطوط متوازية ومتقابلة".

"وهي ـباختلافها ذلك وتقابلها- تؤدي مهمتها في ربط الكائن البشري بالحياة، كأنما هي أوتاد متفرقة متقابلة تشد الكيان كله، وتربطه من كل جانب يصلح للارتباط! وفي الوقت ذاته توسع أفقه وتعدد جوانبه وتفسح مجال حياته، فلا ينحصر في نطاق واحد ولا مستوى واحد. وبذلك يتحقق للإنسان كيان فريد في كل ما نعرف من مخلوقات الله. كيان يرجع في النهاية إلى النشأة الأولى العجيبة المعجزة: قبضة الطين ونفخة الروح".

ودور التربية هي توجيه تلك المشاعر والمزج بين تلك الخطوط في تناسق بديع وفريد لتكون الفتاة المسلمة قادرة على إدارة مشاعرها بصورة صحيحة فتحب بطريقة صحيحة وتكره بطريقة صحيحة، تفرح وتحزن بطريقة صحيحة وهكذا تعيش في توزان نفسي ومشاعري يجلب لها السعادة.

المصادر:
- (دراسات في النفس الإنسانية، د. محمد قطب).
- (حاجتنا إلى التربية، محمد الدويش).
- (حاجتنا إلى التربية الإسلامية، محمد صالح المنجد).
- (التربية الجادة ضرورة، محمد الدويش).



أم عبد الرحمن محمد يوسف
 

المصدر: مفكرة الإسلام
  • 2
  • 1
  • 5,118

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً