مكاسب الصهاينة من استئناف المفاوضات

منذ 2013-10-07

لأول وهلةٍ يبدو أنه من المفارقة أن يتصدى تحديداً "نفتالي بنت"، وزير الاقتصاد ورئيس حزب "البيت اليهودي" المشارك في الائتلاف الصهيوني الحاكم؛ للدفاع عن استئناف المفاوضات مع السلطة الفلسطينية؛ فهذا الحزب ليس فقط أكثر الأحزاب تطرفاً في حكومة نتنياهو اليمينية، بل هو أكثر الأحزاب تمثيلاً للمستوطنين اليهود في الضفة الغربية.


لأول وهلةٍ يبدو أنه من المفارقة أن يتصدى تحديداً "نفتالي بنت"، وزير الاقتصاد ورئيس حزب "البيت اليهودي" المشارك في الائتلاف الصهيوني الحاكم؛ للدفاع عن استئناف المفاوضات مع السلطة الفلسطينية؛ فهذا الحزب ليس فقط أكثر الأحزاب تطرفاً في حكومة نتنياهو اليمينية، بل هو أكثر الأحزاب تمثيلاً للمستوطنين اليهود في الضفة الغربية.

لكن عندما نستمع لـ "بنت" هذا يزول العجب وتبدو الأمور طبيعية، حيث يتبيَّن أن ممثلي المستوطنين، وعلى رأسهم "بنت"، يرون في استئناف المفاوضات تحسيناً لبيئة الاستيطان السياسية والأمنية والاقتصادية، وهم ينطلقون من افتراض مفاده أن هذه الخطوة تُمثِّل أهم العوامل التي تضمن تعاظم المشروع الاستيطاني وتُشعّب سرطان التهويد في القدس المحتلة. فما الذي يجعل اللوبي المؤيد للمستوطنين في الحكومة والكنيست يبدي هذا الحماس لاستئناف المفاوضات؟

1- لا خلاف داخل إسرائيل على أن موافقة السلطة الفلسطينية على استئناف المفاوضات -في ظل تواصل الاستيطان والتهويد- يُعد أهم تنازل سياسي فلسطيني، على اعتبار أنه يُمثِّل قبولاً واقعياً بحق إسرائيل في مواصلة الاستيطان في أرجاء الضفة الغربية والقدس.

2- تمكَّن اللوبي الداعم للاستيطان اليهودي في الضفة الغربية والقدس، والذي يضم وزراء ونواباً من جميع الأحزاب المشاركة في الائتلاف الحاكم؛ من تمرير قرار في الحكومة بالغ الخطورة يقضي بأن يتم تكثيف البناء والتطوير فيما يُعرَف بـ "المستوطنات النائية"، وهي تلك المستوطنات التي توجد في أطراف الضفة الغربية وبعيدة عن التجمعات الاستيطانية الكبرى.

ومن الواضح أن تركيز البناء والتطوير في هذه المستوطنات يعني عملياً حسم مصير الأرض الفلسطينية قبل بَدء المفاوضات، على اعتبار أن هذه المستوطنات تنتشر في جميع مناطق الضفة الغربية، وهذا ما يعني أن توسيعها سيؤدي عملياً إلى تكريس ما يعرف بـ "خارطة جلد النمر"، أي أن تبدو التجمعات السكانية الفلسطينية في الضفة الغربية كمعازل في بحر من المستوطنات اليهودية. ومن أجل طمأنة المستوطنين، وبشكلٍ يشي بحقيقة النوايا الصهيونية؛ فإن نتنياهو تعهّد بأن تكون جميع الوحدات السكنية التي يتم بناؤها في المستوطنات النائية "مكيَّفة"، حتى تكون جاذبة لمزيد من اليهود للإقامة فيها.

ومن أجل تعزيز البيئة الجاذبة لمزيد من المستوطنين اليهود؛ فقد وافقت حكومة نتنياهو على ضم المستوطنات النائية إلى ما يُعرف بـ "مناطق الأفضلة الوطنية"، وهي تضم البلدات التي تُقدِّم لها الحكومة خدماتٍ إضافيةٍ وتسهيلاتٍ على صعيد السكن والضرائب والبنى التحتية وفرص العمل ومرافق الترفيه، وغيرها من الإغراءات.

3- وافقت الحكومة الإسرائيلية على تسريع وتيرة العمل فيما يعرف بمشروع "E1"، وهو مشروع يقوم على ربط مستوطنة "معاليه أدوميم"، أكبر المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، والتي تقع شمال شرق مدينة القدس؛ بالمدينة المقدسة. وتكمن خطورة هذا المشروع في أن إنجازه يعني إسدال الستار على أي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية متصلة الإقليم في الضفة الغربية؛ لأن الشارع الرئيس الذي يربط شمال الضفة الغربية بجنوبها يمرّ في المنطقة الفاصلة بين القدس و"معاليه أدوميم"... من هنا، ففي حال تم ملء الفراغ بين القدس وهذه المستوطنة، فإنه سيتم عملياً فصل شمال الضفة الغربية عن جنوبها.

4- يضمن استئناف المفاوضات بين إسرائيل والسلطة توفير البيئة التي تضمن تواصل التعاون الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية في ظروف مثالية، وهذا يُحسّن بحد ذاته بيئة الاستيطان الأمنية في الضفة الغربية، مع العلم أن هذا يُمثِّل عامل جذب مهماً للأزواج اليهودية الشابة التي تعيش داخل المدن اليهودية داخل الكيان الصهيوني للإقبال على الإقامة في المستوطنات.


وبالفعل؛ فقد أسهم تحسّن البيئة الأمنية في المستوطنات اليهودية بفعل جهود الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية؛ في مواجهة حركات المقاومة، إلى جانب جملة الإغراءات الاقتصادية، فقد توجه كثير من اليهود للإقامة في المستوطنات.

5- تستطيع إسرائيل أن تتنفس الصعداء بعد استئناف المفاوضات؛ لأن هذه الخطوة تضمن عدم توجه السلطة الفلسطينية للمؤسسات الدولية، وتحديداً محكمة الجنايات الدولية، لبحث مشكلة الاستيطان، مع العلم أن المحكمة اعتبرت الاستيطان في الماضي جريمة حرب.


فمَِّما لا شك فيه؛ أن استئناف المفاوضات سيُجنّب عباس خيار التوجه للأمم المتحدة للحصول على عضوية كاملة لفلسطين في المنظمة الدولية، ويُقلص من حدة الضغوط الداخلية التي تمارَس عليه للتوجه للمؤسسات القضائية الدولية لمقاضاة إسرائيل بسبب مواصلة عمليات الاستيطان والتهويد، وهي الضغوط التي تمارَس من قبل النخبة الفلسطينية، وضمنها قيادات نافذة في حركة فتح ومنظمة التحرير.

ومن الواضح أن عباس يخشى أن تؤدي استجابته لهذه الضغوط إلى مواجهةٍ مفتوحة مع كل من إسرائيل والولايات المتحدة، وهي المواجهة التي لا يبدو أنه مستعد لخوضها؛ حيث يخشى أن تنتهي هذه المواجهة بتقويض السلطة الفلسطينية وتعزيز مكانة خصومه السياسيين.

ما الذي دفع عباس للتراجع عن خطوطه الحمراء؟


مما لا شك فيه أن تراجع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس عن الشروط التي وضعها لاستئناف المفاوضات، والتي تجسَّدت في وقف البناء في مشاريع الاستيطان والتهويد؛ وموافقة إسرائيل المسبقة على الانسحاب حتى حدود العام 1967م؛ قد فاجأ حتى أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح التي يقودها وأعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير التي يقف على رأسها، لدرجة أن مواقف هؤلاء من قبول عباس للضغوط الأمريكية تراوحت بين انتقاد هذه الخطوة أو اختيار الصمت.

لا يمكن فهم تراجع عباس عن خطوطه الحمراء دون الأخذ بعين الاعتبار حجم الضغوط التي مارستها الإدارة الأمريكية عليه للتراجع عن شروطه لاستئناف المفاوضات؛ ففي خلال الجلسات المغلقة التي عقدها عباس مع وزير الخارجية الأمريكية جون كيري، هدَّده الأخير بقطع العلاقات مع السلطة، علاوةً على تهديده بوقف المساعدات المقدمة للسلطة؛ في حال ظل يُصرّ على شروطه المسبقة.


في الوقت ذاته؛ وكما زعم عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح"، عباس زكي؛ فقد مارست دول عربية ضغوطاً كبيرة على عباس للموافقة على العودة للمفاوضات دون الإصرار على الشروط المسبقة، عبر التلويح بسلاح المقاطعة السياسية والعقوبات الاقتصادية، علاوة على تقديم وعود بتقليص مظاهر الأزمة الاقتصادية التي تعانيها السلطة في حال وافقت على التعاطي إيجابياً مع الجهود الأمريكية.

وإن كانت السلطة الفلسطينية قد تراجعت عن شروطها المسبقة لاستئناف المفاوضات، فإن الصهاينة يطرحون شرطاً تعجيزياً يتمثَّل في مطالبة الفلسطينيين بالاعتراف بيهودية إسرائيل قبل بحث قضايا الحل الدائم، مع العلم أن الاعتراف الفلسطيني بيهودية إسرائيل يعني عملياً تنازل الفلسطينيين المسبق -وقبل أن تبدأ المفاوضات- عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين.

علاوةً على ذلك؛ فقد وظّفت النخبة اليمينية الحاكمة في تل أبيب التراجع الفلسطيني في محاولة جني أرباح على الصعيد الداخلي الإسرائيلي، عبر اعتبار أن هذا التراجع يُعد مؤشراً على صِدقية الخطاب السياسي لليمين الإسرائيلي؛ فقد عدَّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن تراجع عباس عن شروطه "ثمرة من ثمار التصميم والعناد" الذي أبدته حكومته، مع تأكيده أنه لا ينوي التراجع عن هذا النهج في المستقبل. ومن الواضح أن السلوك الفلسطيني الرسمي بات يُمثِّل مصدراً من مصادر تعزيز قوة اليمين الإسرائيلي.

إلى جانب ذلك؛ لا يمكن إغفال دور وتأثير التحولات التي شهدها العالم العربي في دفع عباس للإقدام على استئناف المفاوضات، حيث إنه بات يرى أن الانقلاب على مرسي وعودة مصر إلى نفس السياسات التي ينتهجها نظام مبارك، إنما تُمثِّل استعادة ما كان يعرف بـ"محور الاعتدال العربي"، وهو ما يسمح له باستئناف المفاوضات مع إسرائيل في ظل أكبر دعم عربي، فضلاً عن أنه يرى أن التحولات التي شهدها العالم العربي تضعف خصمه اللدود حركة حماس وتقلص من قدرتها على فرملة خطواته، على اعتبار أن عزل مرسي وإخراج جماعة الإخوان المسلمين من الحكم سيؤثر سلباً في مكانة حركة حماس وقدرتها على العمل.

لكن المشكلة التي يواجهها عباس وبغض النظر عن العوامل التي دفعته للإقدام على هذه الخطوة التي تنسف عملياً كل تعهداته السابقة؛ تتمثّل في أن استئناف المفاوضات جاء في وقت خلو جعبة السلطة الفلسطينية من متطلبات الدعم الداخلي التي يفترض أن تضمن تقليص قدرة إسرائيل والإدارة الأمريكية على ممارسة الضغوط والدفع نحو مزيد من التآكل في الموقف الفلسطيني، ففي ظل حالة الانقسام الداخلي وتضاؤل فرص التوصّل لمصالحة وطنية مع حركة حماس، فإن هذا سيُضعف من موقفه خلال المفاوضات.

ومما يزيد الأمور تعقيداً؛ أن استئناف المفاوضات جاء في ظل إقدام عباس على خطواتٍ تجعل من فرص التوصّل لمصالحة وطنية ضرباً من المستحيل في ظل هذه الظروف؛ فعباس يتجه إلى إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية في الضفة الغربية وحدها ودون التنسيق مع حركة حماس.


وفي حال نفّذ عباس توجهه هذا؛ فإن ذلك يعني إسدال الستار على أي إمكانية لتحقيق المصالحة الوطنية واستعادة الصف الفلسطيني وحدته؛ وهذا ما سيسمح للإسرائيليين بهامش مناورة كبير لابتزاز مزيد من التنازلات من عباس، فمنذ الآن يجاهر المتحدثون الرسميون الإسرائيليون بأنه رغم استئناف المفاوضات فإنه لا يمكن إبرام أي اتفاق نهائي مع السلطة الفلسطينية في حال ظل عباس يُمثِّل نصف الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.

وقد عبّر عن هذا الموقف بشكلٍ جلي؛ رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست ووزير الخارجية السابق أفيغدور ليبرمان؛ فإسرائيل التي مارست أكبر الضغوط في الماضي من أجل إفشال تطبيق اتفاقيات المصالحة بين حركتي فتح وحماس، هي ذاتها التي تجد في تواصل الانقسام الفلسطيني الداخلي مسوغاً لعدم التعاطي بجدية مع المكانة التمثيلية لرئيس السلطة الفلسطينية.

في الوقت ذاته؛ فإن خطوة عباس لا تستند إلى أي سندٍ شعبي فلسطيني؛ لأن مؤسسات السلطة لا تملك حالياً أي شرعية انتخابية، علاوةً على أن تراجع عباس عن التزامه أمام الشعب الفلسطيني بعدم العودة للمفاوضات في ظل الاستيطان والتهويد ودون تحديد غاية المفاوضات النهائية؛ يهز الثقة بقيادته، وهذا بالضبط ما يُنبّه إليه عدد من قادة حركة "فتح" الذين حذّر بعضهم عباس علناً من التداعيات الخطيرة لافتقاد الجمهور الفلسطيني الثقة بقيادته، كما فعل عضو المجلس الثوري للحركة نبيل عمرو.

إن ما زاد الأمور تعقيداً أن استئناف المفاوضات جاء في ذروة الهجمات التي ينفّذها المستوطنون ضد المواطنين الفلسطينيين العُزّل في أرجاء الضفة الغربية، دون رد فعل جديّ من قبل الحكومة الإسرائيلية.



صالح النعامي
 

المصدر: مجلة البيان العدد: [315]، ذو القعدة 1434هـ، سبتمبر – أكتوبر 2013م.
  • 0
  • 0
  • 4,802

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً