إعجاب المرء بنفسه

منذ 2013-10-25

لا يشك مسلم أن الله ولي كل نعمة، ولكن ربما تراءت له نفسه، بسبب كثرة ما يسمع من مديح وإطراء، أو لشدة انغماسه في الحياة المادية، أو لكثرة ما يرى من ترادف النعم، مع بُعده عمن يذكِّره بالله؛ فتصدأ الروح وتجف؛ فتحتاج إلى من يُزكِّيها ويَسقيها.

 

إن للنفس البشرية طرائق تميل بها مع الهوى، ومسارب تنفُذ من خلالها نحو الهلاك، وإن اللبيب الموفَّق مَن زمَّ نفسه بزمام التقوى، وجاهدها بلزوم الإيمان، ومراقبة الرحمن؛ فبذلك يفوز ويُهدى، ويسلم وينجح، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].

ألا وإن من أدواء النفس الخفية، والتي يحتاج صاحبها يقظة على الدوام؛ حتى يسلم منه: داء (العُجب بالنفس) فقد يمنُّ الله على بعض عباده بنعمة من النعم؛ من علم، أو مال، أو جاه، أو موهبة حسنة.

فيحسب غير الموفق من أولئك أنه ابن بَجْدتها، وأبو عُذْرتها، وأنه ابن جَلَاها، وطلّاع ثناياها؛ فربما صعَّر خده للناس، ونأى بجانبه عنهم، واستنكف عن قَبول الحق، وهذه مَهلكة ومَزلَّة قَدَم، وما يؤذي فيها المرء إلا نفسه، والمرء إذا لم يلحظْ نفسه، فإنها تقوده إلى العطَب.

وإن علاج ذلك الداء يسيرٌعلى من يسره الله عليه؛ وذلك متمثِّلٌفي أمور:

أولاً: أن يعلم العبد أن هذه النعمة إنما هي محض توفيق الله، وأنه ليس لنفسه في ذلك الفضل شيءٌ، وأنه لا حول له ولا قوة إلا بالله، وأنه لولا الله لكان هملاً مضاعًا، ساقطًا مزدرى، ولكن الله هو الذي أنعم وتفضل، ووهب وامتن، كما قال الله تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء:83]، وقال: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ} [النور:21]، وقد قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الخلق: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً} [الإسراء:74]، وقال: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113]، وقال: {إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} [الإسراء من الآية:87]، وقال على لسان نبيه شعيب عليه السلام: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88].

ولذا كان من الدعاء النبوي الذي ينبغي للمسلم أن يقوله طرَفَي النهار: «يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث؛ أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرْفَة عين» (أخرجه النسائي في الكبرى: [10405]).

وورد في حديث آخر: «فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر، وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك» (أخرجه أحمد: [3916]).

وورد في حديث آخر: «وأشهد أنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضيعة وعورة وذنب وخطيئة، وإني لا أثق إلا برحمتك» (أخرجه أحمد: [21666]).

وكان مكحول و مالك لا يفتيان حتى يقولا: "لا حول ولا قوة إلا بالله" (سير أعلام النبلاء: [5/161]، و[8/66]).

قال الرازي: "والذي جربته من أول عمري إلى آخره؛ أن الإنسان كلما عوَّل في أمر من الأمور على غير الله صار ذلك سببًا إلى البلاء والمحنة والشدة والرزية، وإذا عوَّل العبد على الله ولم يرجع إلى أحد من الخلق حصل ذلك المطلوب على أحسن الوجوه؛ فهذه التجربة قد استمرت لي من أول عُمُري إلى هذا الوقت الذي بلغت فيه إلى السابع والخمسين؛ فعند هذا استقر قلبي على أنه لا مصلحة للإنسان في التعويل على شيء سوى فضل الله تعالى وإحسانه.


ومن كان له ذوق في مقام العبودية وشرب من مشرب التوحيد عرف أن الأمر كما ذكرناه" (تفسير الرازي: [18/145]).

ولا يشك مسلم أن الله ولي كل نعمة، ولكن ربما تراءت له نفسه، بسبب كثرة ما يسمع من مديح وإطراء، أو لشدة انغماسه في الحياة المادية، أو لكثرة ما يرى من ترادف النعم، مع بُعده عمن يذكِّره بالله؛ فتصدأ الروح وتجف؛ فتحتاج إلى من يُزكِّيها ويَسقيها.

ثانيًا: أن يعلم أن بقاء هذه النعمة منوط بشكرها، وشكرُها يتحقق بمسكنة العبد وفاقته إلى ربه؛ فكلما زادت النعمة على العبد كلما تحتَّم عليه أن يزيد افتقاره للخالق، وتواضعه للخلق؛ فمهما بلغ العبد من الصلاح والديانة، فإنه لا ينبغي له أن يدَّعي الكمال، بل يذل لربه، ويعترف بتقصيره وظُلْمه لنفسه، فإذا رأيت الرجل كلما ارتفع كلما زاد افتقاره والتجاؤه لربه، وانكساره له، فاعلم أنه قد تفيأ ظلال التوفيق، وأخذ منه بسبب متين، وآوى فيه إلى ركن شديد.

وقد حذق ابن القيم كعادته فصور هذا المشهد، فقال: "وأما ضبط السرور، فلا يقدر عليه إلا الأقوياء؛ أرباب العزائم، الذين لا تستفزهم السراء؛ فتغلب شكرهم، ولا تضعفهم الضراء؛ فتغلب صبرهم.

والنفس قرينة الشيطان ومصاحِبته، وتشبهه في صفاته، ومواهبُ الرب تبارك وتعالى تنزل على القلب والروح؛ فالنفس تسترق السمع، فإذا نزلت على القلب تلك المواهب، وثَبَتْ لتأخذ قسطها منها، وتصيِّره من عدَّتها وحواصلها؛ فالمسترسل معها، الجاهل بها يدَعُها تستوفي ذلك، فبينا هو في موهبة القلب والروح وعدة وقوة له؛ إذ صار ذلك كله من حاصل النفس وآلتها وعُددها؛ فصالت به وطغت؛ لأنها رأت غناها به، والإنسان يطغى أن رآه استغنى بالمال؛ فكيف بما هو أعظم خطرًا وأجلُّ قدْرًا من المال بما لا نسبة بينهما؛ من عِلْم أو حال أو معرفة أو كشف؟ فإذا صار ذلك من حاصلها انحرف العبد به ولا بد إلى طَرَف مذموم؛ من جرأة، أو شطح، أو إدلال.

ونحو ذلك؛ فوالله كم ههنا من قتيل، وسليب، وجريح يقول: من أين أُتيت؟ ومن أين دُهيت؟ ومن أين أُصبت؟ وأقل ما يعاقب به من الحرمان بذلك: أن يُغلَق عنه باب المزيد؛ ولهذا كان العارفون، وأرباب البصائر: إذا نالوا شيئًا من ذلك انحرفوا إلى طرَف الذل، والانكسار، ومطالعة عيوب النفس، واستدعَوا حارس الخوف، وحافظوا على الرباط، بملازمة الثغر بين القلب وبين النفس، ونظروا إلى أقرب الخلق من الله، وأكرمهم عليه، وأدناهم منه وسيلة، وأعظمهم عنده جاهًا، وقد دخل مكة يوم الفتح، وذقنه تمس قربوس سرجه[1]؛ انخفاضًا وانكسارًا وتواضعًا لربه تعالى في مثل تلك الحال التي عادة النفوس البشرية فيها أن يملِكها سرورها، وفرحها بالنصر والظفر والتأييد، ويرفعها إلى عَنَان السماء؛ فالرجل: من صان فتْحَه، ونصيبه من الله، وواره عن استراق نفسه، وبخل عليها به، والعاجز: من جاد لها به، فيا له من جُوْد ما أقبحه! وسماحة ما أسفه صاحبها! والله المستعان" (بتصرُّف من مدارج السالكين: [2/ 394-395]).

ومن تأمَّل حال الكُمَّل من الخلق، يلحظ أنهم قد أخذوا من هذه المعاني بحظ وافر؛ فهذا آدم وزوجه عليهما السلام يقولان: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، وقال نوح عليه السلام: {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الخَاسِرِينَ} [هود من الآية:47]، وقال إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82]، وقال موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص من الآية:16]، وقال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص من الآية:24]، وقال يونس عليه السلام: {لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء من الآية:87].

وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: علمني دعاءً أدعو به في صلاتي، فقال: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت؛ فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم»" (أخرجه البخاري: [834]، ومسلم: [2075]).

قال ابن القيم: "فلا شيء أنفع للصادق من التحقق بالمسكنة والفاقة والذل، وأنه لا شيء، وأنه ممن لم يَصحَّ له بعدُ الإسلام حتى يدَّعي الشرف فيه، ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من ذلك أمرًا لم أشاهده من غيره، وكان يقول كثيرًا: ما لي شيء، ولا مني شيء، ولا فيَّ شيء، وكان كثيرًا ما يتمثل بهذا البيت:



 


أنا المكدي وابن المكدي *** وهكذا كان أبي وجدِّي


وكان إذا أُثني عليه في وجهه يقول: والله إني إلى الآن أجدد إسلامي كل وقت، وما أسلمت بعد إسلامًا جيدًا، وبعث إليَّ في آخر عُمُره قاعدة في التفسير بخطه، وعلى ظهرها أبيات بخطه من نظْمِه:


 


أنا الفقير إلى رب البريات *** أنا المسيكين في مجموع حالاتي
أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي *** والخير إن يأتنا من عنده ياتي[2]


وقد ضرب الإمام أحمد في هذا المعنى بسهم وافر؛ فمن ذلك:

- قال يحيى ابن معين: "ما رأيت مثل أحمد؛ صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيءٍ مما كان فيه من الخير" (سيَر أعلام النبلاء: [11/214]).

- وقال المَرُّوذي: "قلت لأبي عبدالله: إن بعض المحدِّثين قال لي: أبو عبدالله لم يزهد في الدراهم وحدها، قد زهد في الناس! فقال: ومن أنا حتى أزهد في الناس؟ الناس يريدون أن يزهدوا فيَّ" (الورع للمروذي؛ ص: [494]).

- وقال أيضًا: "سمعت أبا عبدالله أحمد بن حنبل رضي الله عنه وذكر أخلاق الورعين، فقال: أسأل الله أن لا يمقتنا، أين نحن من هؤلاء؟" (الورع؛ ص: [6]).

- وقال أيضًا: "قلت لأبي عبدالله: ما أكثر الداعين لك! فتغرغرت عيناه، وقال: أخاف أن يكون هذا استدراجًا" (الورع؛ ص: [152]).

وقال محمد بن موسى: "رأيت أبا عبد الله؛ يعني الإمام أحمد وقد قال له خراساني: الحمد لله الذي رأيتك، قال: اقعد، أي شيء ذا؟ من أنا؟ وعن رجل قال: رأيت أثر الغم في وجه أبي عبد الله، وقد أثنى عليه شخص، وقيل له: جزاك الله عن الإسلام خيرًا! قال: بل جزى الله الإسلام عني خيرًا! من أنا وما أنا؟" (السيَر: [11/211]).

وقال إسماعيل بن إسحاق الثقفي: "قلت لأبي عبدالله أوَّلَ ما رأيته: ائذن لي أُقبِّل رأسك، فقال: لم أبلغ أنا ذلك" (المناقب؛ ص: [367]).

وكان ابن القيم يقول:



 


بُنَيُّ أبي بكرٍ كثيرٌ ذُنُوبُهُ *** فَلَيْسَ عَلَى مَنْ نَالَ مِنْ عِرْضِهِ إِثْمُ
بُنَيُّ أبي بكر جَهُولٌ بِنَفْسِهِ *** جَهُولٌ بِأَمْرِ الله، أَنَّى له العِلْمُ

بُنَيُّ أبي بكر غدا مُتَصَدِّرَاً *** يُعَلِّمُ عِلْمَاً وَهُو لَيْسَ ُلهُ عِلْمُ
بُنَيُّ أبي بكر غَدَا مُتَمَنِّيَاً *** وِصَالَ الْمَعَالِي وَالذُّنُوبُ له هَمُّ[3]


وقد حدثني فضيلة شيخنا العالم العابد عبد العزيز العقل متَّعه الله بالصحة والعافية أنه لمَّا كان مدرسًا في جامعة الإمام محمد بن سعود (فرع القصيم) شرح لطلابه حديث: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" (أخرجه أبو داود: [4291]).

قال الشيخ: فوقع في نفسي سؤالٌ، هو: مَنْ مجدد هذا العصر؟ واستبهم عليَّ تعيين المجَدِّد، وانصرفت من الكلية، وأنا أُعْمِل رأيي في هذا السؤال، فلم أجزم فيه بشيء، فنمت بعد الظهر، فرأيت في المنام سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز جالسًا متربعًا مستقبل القبلة، فأقبلت عليه؛ فعانقته وقبَّلته وإذا بي أسمع صوتًا لا أرى صاحبه يقول: هذا مجدِّد هذا العصر، قال الشيخ عبد العزيز العقل: فاستيقظت من النوم مسرورًا! وبعد أيام ذهبت إلى الرياض، وزرت الشيخ ابن باز، وبشرته بالرؤيا التي رأيت، فتشاغل عنها ولم يحفل بها.

ثالثًا: أن يعلم العبد أنه متى أُعجب بنفسه فثَمَّ الخذلان، وضياع الشأن، وهذه حوادث تنْبئ بهذا:

الأولى: ذكرها الماوردي (أحد علماء الشافعية) عن نفسه، فقال: "ومما أنذرك به من حالي؛ أنني صنفت في البيوع كتابًا جمعت فيه ما استطعت من كُتُب الناس، وأجهدت فيه نفسي، وكددت فيه خاطري، حتى إذا تهذب واستكمل، وكدت أُعجب به، وتصورت أنني أشد الناس اضطلاعًا بعلمه، حضرني وأنا في مجلسي أعرابيان؛ فسألاني عن بيعٍ عقداه في البادية، على شروط تضمنت أربع مسائل، لم أعرف لواحدة منها جوابًا، فأطرقت مُنْكرًا، وبحالي مُفَكِّرًا، فقالا: ما عندك فيما سألناك جواب، وأنت زعيم هذه الجماعة ؟فقلت: لا.

فقالا: واهًا لك! وانصرفا، ثم أتيا من يتقدّمه في العلم كثير من أصحابي، فسألاه، فأجابهما مسرعًا بما أقنعهما، وانصرفا عنه راضيين بجوابه، حامدَين لعلمه، فبقيت مرتبكًا، وبحالهما وحالي معتبرًا، فكان ذلك زاجر نصيحة، ونذير عظة؛ تَذلَّلَ بهما قيادُ النفس، وانخفض لهما جناحُ العجب، توفيقًا مُنِحتُه، ورشدًا أُوتيتُه..." (أدب الدنيا والدين: ص: [81])؛ إلى آخر ما قال رحمه الله!

الثانية: ذكرها الجاحظ، فقال: "كان لنا بالبَصرة قاضٍ يقال له: عبدُ الله ابنُ سوَّار، لم يَرَ النَّاسُ حاكمًا قطُّ، ولا زِمِّيتًا [4]، ولا رَكينًا [5]، ولا وقورًا حليمًا؛ ضَبطَ من نفسه، وملَك من حركته مثلَ الذي ضبَط وملَك، كان يصلِّي الغداةَ، فيأْتي مجلسَه، فيحتبي ولا يتَّكئ، فلا يزالُ منتصبًا، ولا يتحرَّك له عضوٌ، ولا يلتفت، ولا يحلُّ حَبْوَته، ولا يحوِّل رِجلاً عن رِجل، ولا يَعتمد على أحد شِقَّيه، حَتَّى كأنّه بناءٌ مبنيٌّ، أو صخرةٌ منصوبة؛ فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى صلاة الظهر، ثم يعودُ إلى مجلسهِ؛ فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى العصر، ثمَّ يرجع لمجلسه؛ فلا يزال كذلك حتى يقوم لصلاة المغرب، ثمَّ رُبما عاد إلى محَلِّه، بل كثيرًا ما كان يكون ذلك، إذا بقي عليه من قراءة العهود والشُّروط والوثائق، ثمَّ يُصلِّي العشاء الأخيرة وينصَرف.

فالحق يقال: لَمْ يَقمْ في طول تلك المدَّةِ والوِلايةِ مَرَّةً واحدةً إلى الوضوء، ولا احتاجَ إليه ولا شرِبَ ماءً ولا غيرَه من الشراب، كذلك كان شأْنُه في طِوال الأيام، وفي قِصارها، وفي صيفها، وفي شتائها، وكان مع ذلك لا يحرِّك يدَه، ولا يُشيرُ برأسِه، وليس إلاَّ أن يتكلم، ثمَّ يوجز، ويَبلُغ بالكلامِ اليسيرِ المعانيَ الكثيرة، فبينا هو كذلك ذاتَ يوم، وأصحابه حواليه، وفي السِّماطين بينَ يديه، إذْ سقَطَ على أنفِه ذُبَابٌ، فأطال المكث، ثمَّ تحوَّل إلى مُوقِ عينه، فرام الصَّبر في سقوطه عَلَى الموق، وعلى عضِّه، ونفاذِ خرطومه، كما رَام من الصبر على سقوطه على أنفه من غير أن يحرِّك أرنبَته، أو يغض وجهَهُ، أو يذبَّ بإصبعه.

فلمَّا طال ذلك عليهِ من الذبَاب، وشغَله وأوجعَه وأحرَقهُ وقصدَ إلى مكان لا يحتمل التغافُلَ، أطبَق جفنَهُ الأعْلى عَلَى جفنِه الأسفلِ، فلم ينهض فدعاه ذلك إلى أن وَالى بينَ الإطباقِ والفتْح، فتنحَّى ريثما سكنَ جفنُهُ، ثمَّ عاد إلى موقِه بأشدَّ من مرَّته الأولى، فَغَمَسَ خرطومهُ في مكان كان قد أوهاهُ قبلَ ذلك؛ فكان احتماله له أضعف، وعجزُه عن الصَّبر في الثانية أقوى، فحرَّك أجفانَهُ، وزاد في شدَّة الحركة، وفي فتح العين، وفي تتابُع الفتْح والإطباق؛ فتنحَّى عنهُ بقدْرِ ما سكَنَتْ حركَتهُ، ثمَّ عاد إلى موضِعِه، فما زالَ يلحُّ عليه حتى استفرغَ صبْرَه، وبَلغَ مجهُوده؛ فلم يجدْ بُدًّا من أن يذبَّ عن عينيهِ بيده، ففعل وعيون القوم إليه ترمُقه، وكأنَّهم لا يَرَوْنَه، فتنَحَّى عنه بقدْر ما رَدَّ يدَه، وسكَنتْ حركته.

ثمَّ عاد إلى موضعه، ثمَّ ألجأه إلى أن ذبَّ عن وجْهه بطَرَف كمه، ثم ألجَأه إلى أنْ تابَعَ بين ذلك، وعلم أنَّ فِعلَه كلَّه بعين مَنْ حَضَره من أُمنائه وجلسائه، فلمَّا نظروا إليه قال: أشهد أنَّ الذّباب ألجُّ من الخنفساء، وأزهى من الغراب، وأستَغفر الله ! فما أكثر مَن أعجبَتْه نفسُه، فأراد الله عز وجل أن يعرِّفه من ضعْفِه ما كان عنهُ مستورًا !وقد علمت أنِّي عند الناس مِنْ أزْمَتِ الناس، فقد غلَبَني وفَضَحَني أضعفُ خلْقِه، ثمَّ تلا قولَهُ تعالى: {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73] (الحيوان: [3/343]).

الثالثة: قال عبيد بن شريك: "كان أبو معمر القطيعي من شدة إدلاله بالسُّنة يقول: لو تكلمت بغلتي لقالت: إنها سُنِّية. قال: فأُخذ في المحنة؛ فأجاب، فلما خرج، قال: كفرنا وخرجنا!" (تهذيب الكمال: [3/20]).

أسأل الله في ختام هذا المقال أن يُصلح لنا شأننا كلَّه، ولا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، كما أسأله أن يجنبنا منكرات الأخلاق والأهواء والأسواء والأدواء، وأن يقينا شر أنفسنا والشيطان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

[1] (أخرج الحاكم: [4/352] عن أنس رضي الله عنه أن النبي دخل مكة و ذقنه على رحله متخشعًا، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه).
[2] (مدارج السالكين: [1/524]، والقصيدة أطول من هذا؛ وقد تركتها اختصارًا).
[3] (الوافي بالوفيات: [2/272]، والقصيدة أطول من هذا؛ وقد تركتها اختصارًا).
[4] (قال في لسان العرب [2/35]: الزَّمِيتُ والزِّمِّيتُ الحليم الساكن القليل الكلام كالصِّمِّيتِ).
[5] (قال في لسان العرب [13/185]: ورجل رَكِين وَقُورٌ رَزِينٌ بَيّنُ الرَّكانة، ويقال للرجل إذا كان ساكنًا وقورًا: إنه لرَكِينٌ).

 


صالح بن فريح البهلال
 

المصدر: مجلة البيان
  • 3
  • 0
  • 51,701

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً