العدو الذي لم نحذره

منذ 2013-11-08

إن من يتأمَّل حديث القرآن الكثير والكثيف عن النفاق والمنافقين، يدرك أنه يتناول خطراً ماحقاً وضرراً مفجعاً استحق أمر التحذير منه والتوجيه إلى مواجهته استغراق صفات النفاق آيات كثيرة، حيث كان الحديث عنهم في القرآن في 17 سورة مدنية من 30 سورة، واستغرق ذلك قرابة 340 آية، حتى قال ابن القيم رحمه الله: "كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم"


بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد:

فإن من يتأمَّل حديث القرآن الكثير والكثيف عن النفاق والمنافقين، يدرك أنه يتناول خطراً ماحقاً وضرراً مفجعاً استحق أمر التحذير منه والتوجيه إلى مواجهته استغراق صفات النفاق آيات كثيرة، حيث كان الحديث عنهم في القرآن في 17 سورة مدنية من 30 سورة، واستغرق ذلك قرابة 340 آية، حتى قال ابن القيم رحمه الله: "كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم" (مدارك السالكين؛ لابن القيم: [1/347]).


أصل النفاق يرجع إلى اختلاف السريرة والعلانية، وقد فصّل القرآن حديثه عن المنافقين لأنهم ازدادوا عن بقية أنواع الكفار بالكذب والمراوغة والخداع، فجاء هذا التفصيل حتى يمكن تجنب الخداع والتضليل الذي طالما ظنوا أنهم به يخادعون الله والذين آمنوا: {وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة من الآية:9].

وقد ركّز القرآن على إظهار صفات المنافقين لئلا يُغترّ بظاهر أمرهم المؤمنون، فيقع بذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم، والاعتقاد بصلاحهم، وهم فجرة وفسدة في نفس الأمر، وهذا من المحذورات الكبّار أن يظن بأهل الفجور خير، أو ينتظر من أهل الفساد إصلاح.

إن عداء المنافقين قد يظهر في صورة عداوة لبعض المسلمين، لكنه في حقيقته عداء لله ولرسوله ولكتابه... إن عداءهم يرجع للإسلام ذاته، قال ابن القيم: "فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه، وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه، وكم من عَلَم له قد طمسوه، وكم ضربوا بمعاول الشّبه في أصول غراسه ليقلعوها، فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شبههم سريّة بعد سريّة، يزعمون أنهم بذلك مصلحون، {أَلا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَّا يَشْعُرُونَ} [البقرة من الآية:12]" (مدارك السالكين ؛لابن القيم: [1/347]).

تنوَّعت صور النفاق عبر التاريخ، فكانت في بعض الأحيان تخرج في شكل فرق منحرفة ونحل ضالة ترتدي ثياب الدين وهي مارقة منه، أو لا تظهر انحرافاً في العقيدة لكن تفضحها مواقفها من الشريعة، أما في عصرنا فإن شأن النفاق عجيب، فقد بلغ من الجرأة والوقاحة أن خلع رداء الدين بكل خسة وبجاحة، وذلك عندما رفع المنافقون في عصرنا شعارات العلمانية الداعية إلى فصل الدين عن الدنيا بالمرة، وكأن الناس بعد هذه الدنيا سيصيرون إلى عدم! لا سؤال ولا حساب، لا ثواب ولا عقاب!

من تعرَّف على العلمانية في بلاد المسلمين -فكراً ومنهجاً- ثم تأمَّل حديث القرآن عن النفاق والمنافقين -سلوكاً وتطبيقاً-؛ يجد تطابقاً عجيباً، وكأن الكتاب المبين يتحدث مباشرة عن أصناف العلمانيين، فالعلمانية في عصرنا -بكل صنوفها وتياراتها الغربية والشرقية- تُمثِّل التحقيق النظري والتطبيق العملي للنفاق بدرجاته كلها، فالعتاة من رموزها ومفكريها، والطغاة من قادتها ومتآمريها؛ يجسّدون النفاق الأكبر بكل ما يحمل من ملامح، ثم هؤلاء ينشطون بكل ما يستطيعون لتكوين كتل عظيمة من أصحاب النفاق الأصغر؛ ليكونوا أنصاراً لهم، وجدراناً من الخشب المسندة التي تقف خلفهم، فأكبر هموم المنافقين العلمانيين أن يكون النفاق الأصغر بكل شُعبه السمةَ الغالبة للشعوب المسلمة، حيث يدأبون لإخراج الناس بنفاقهم من النور إلى الظلمات، كما قال الله تعالى عنهم: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء من الآية:89].

إن مصيبة المسلمين في أكابر المنافقين من العلمانيين وغيرهم، تعظم على كل مصيبة؛ فهم وراء كل بلاء، إما أصالة أو شراكة، ومن تأمّل أحوال الأمة طوال تاريخها يجد آثار الدمار الذي ألحقوه بأمتنا في العقائد والشرائع والأخلاق، وفي الأرض والعِرض، وفي كل شؤون المجتمع والفرد... "بلية المسلم بهم أعظم من بليته بالكفار المجاهرين، ولهذا قال تعالى في حقهم: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون من الآية:4]. ومثل هذا اللفظ يقتضي الحصر، أي لا عدو إلا هم، لكن لم يرد ها هنا لحصر العداوة فيهم وأنه لا عدو للمسلمين سواهم، بل هذا من إثبات الأولية والأحقية لهم في هذا الوصف، وأنه لا يُتوهم بانتسابهم إلى المسلمين ظاهراً وموالاتهم لهم ومخالطتهم إياهم أنهم ليسوا بأعدائهم، بل هم أحق بالعداوة ممن باينهم في الدار، ونصب لهم العداوة وجاهرهم بها؛ فإن ضرر هؤلاء المخالطين لهم المعاشرين لهم وهم في الباطن على خلاف دينهم أشد عليهم من ضرر من جاهرهم بالعداوة وألزم وأدوم؛ لأن الحرب مع أولئك ساعة أو أيام ثم تنقضي ويعقبها النصر والظفر، وهؤلاء معهم في الديار والمنازل صباحاً ومساءً، يدلون العدو على عوراتهم، ويتربصون بهم الدوائر، ولا يمكنهم مناجزتهم، فهم أحق بالعداوة من المباين المجاهر" (طريق الهجرتين: [404]).

رأينا ذلك في عصرنا وسمعنا عنه قبل عصرنا، فمنذ أن افتتح (ابن سلول) طريق النفاق، سارت فيه من بعده أفواج المنافقين عبر التاريخ، وفي عصرنا الراهن لا تخطئ العين ملامح النفاق الظاهر المتظاهر مع الكافرين في القضايا الكبرى التي تخصّ المسلمين؛ رأينا ذلك في تركيا قبل سقوط الخلافة وبعد سقوطها منذ أكثر من 90 عاماً، ورأيناه في فلسطين بعد احتلالها منذ ما يزيد على 65 عاماً، كما لا نزال نرى صوراً من ذلك في أكثر بلدان المسلمين التي سلخها المنافقون لحساب الكافرين عن هويتها الإسلامية وبنيتها الاعتقادية.

وبين حين وآخر نفجع بأحداث يكون للمنافقين الدور الأبرز في إدارة مآسيها، كما حدث ولا يزال يحدث في أفغانستان وفلسطين والعراق والبوسنة وباكستان والشيشان والصومال، وغيرها من البلدان التي يتهيَّأ المنافقون فيها كل مرة لجولة جديدة من قهر الأمة وإذلالها أمام أعدائها بمسوّغات متعددة، لا يقف خلفها شيء من المبادئ والثوابت إلا الثبات أو الوصول إلى مقاعد السيادة وكراسي القيادة لممارسة الإفساد في الأرض، ولذلك يهون عندهم في سبيل الكراسي كل شيء، ويَحِلُّ لأجل الوصول إليها كل شيء، ويُحرَّم دون المساس بها أي شيء!

وفي ظل غياب الشريعة عن الحكم في الغالب الأعم من أوطان الإسلام، وفي ظل ضياع الضوابط التي يُختبر بها من يَصْلُح ومن لا يَصْلُح لقيادة المسلمين؛ خلا الجو لكل طاغية أفَّاك من أهل النفاق لأن يركب شعباً من الشعوب بعد الوثوب إلى سدَّة الحكم، عبر طرق ومسالك وعرة، يعرف المنافقون وحدهم كيف يذلّلونها ويسبرون غورها ويعبرون من فوقها إلى القمة التي لا يسقطهم من فوقها إلا هازم اللذات.

يقوم المنافقون في كل مرة ينجحون فيها في ركوب شعب من الشعوب، بدور عدائي مزدوج يستهدف أمرين لا ثالث لهما: استمداد أسباب البقاء على القمة من ظهير خارجي مقابل إمداد ذلك الظهير بأسباب استبقاء المصالح في الداخل الوطني، وما عدا ذلك كله تفاصيل؛ فكيفية الحكم، ودستور التحاكم، وتمثيل الفئات، والنيابة عن الشعب، والمعارضة باسم الشعب، والخطط الخمسية، والمشاريع التنموية، والصراعات الحزبية، والمعارك الجانبية -خارجية أو داخلية-؛ قصة واحدة، والمحصلة في النهاية واحدة، وهي دعواهم العريضة: {إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَّا يَشْعُرُونَ} [البقرة من الآية:11-12].

خطأ التقدير لخطر التحذير:

عندما حذر القرآن من خطر النفاق في قول الله تعالى عن المنافقين: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}، يبدو أن المسلمين المعاصرين لم يأخذوا هذا التحذير على المحمل الواجب، ولم يُقدّروا الأمر حق قدره، فاستهانوا بخطر النفاق، وقعدوا عن جهاد المنافقين الذين قال الله عنهم وعن أوليائهم من الكفار الظاهرين: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة:73].

لم يجاهد المسلمون هؤلاء في الله حق جهاده، بالحجة واللسان، فضلاً عمن يستوجب منهم السيف والسنان، وقد كان من نتائج سوء التقدير أن ساءت إدارة المعركة معهم، لدرجة أن كثيراً من الإسلاميين أنفسهم استهانوا بخطر المنافقين، حتى وضعوا الثقة بزعمائهم، إلى أن وقعوا فرائس لخداعهم، وقد كشفت الأحداث التي أعقبت الثورات العربية -وبخاصة في مصر- أن المنافقين العلمانيين قد نجحوا في صناعة "قواعد شعبية" من العلمانيين العوام، الذين ربما لا يعرفون معنى العلمانية، لكنهم في أفعالهم وأقوالهم ومواقفهم وأخلاقهم يمثلون تصويراً مطابقاً لأحوال المنافقين وصفاتهم، فالكثير منهم يجمعون أو يستكثرون من شعب النفاق الأصغر حتى عمَّ ذلك فيهم وطمَّ بفعل اتساع تأثير التشكيل العلماني النفاقي والنفعي للمفاهيم والأفكار؛ فصفات الكذب، وخلف الوعد، والرياء، والخيانة، والجبن، وترك الجهاد مع السخرية من المجاهدين، والشح بالعطاء مع التهكم على الأسخياء، والشماتة في المسلمين والفرح بما يحل بأرواحهم وأعراضهم وأموالهم من جوائح ونكبات، مع محبة أعداء الدين وكراهة المتديّنين، والهزء بالشعائر والاستهانة بالشرائع، والفرح بانتصار المفسدين، والمساءة بارتفاع شأن الصالحين؛ كل ذلك صار يمثل ظواهر مرضية عامة في قطاعات لا يستهان بها من الشعوب التي صارت أجزاء غير قليلة منها تخرج للتشاجر أو التظاهر ضد الإسلاميين وضد شعاراتهم ومشروعاتهم!

إن الأمر يحتاج صراحة لإعادة تقويم تقديرنا لخطر النفاق الذي تعبّر العلمانية عنه أوضح تعبير، وذلك في ضوء نصوص الوحي ودروس التاريخ؛ لإعادة الوعي ونشره بالتكييف الشرعي لتلك العلمانية وللمواقف الواجبة تجاهها، ولاستعادة التخطيط الواقعي لمواجهة خطرها الذي دهمنا في عقر ديارنا بما لم يكن في حسباننا، فعقر من شعوبنا فئاماً وأقواماً ما كنا نظن أنهم على هذا القدر من خفة العقول وسفه الأحلام وسوء الأخلاق التي اكتسبوها من منافذ الإعلام والتعليم التي غفلنا كثيراً عن وصفها بما تستحق، والتعامل معها بما يجب.

هل قصَّر الإسلاميون، ومن ثم سائر المسلمين؛ في أخذ الحذر ممن قال الله عنهم: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ

هل بذلوا وسعهم في التعريف بالعلمانية وخطرها وخططها ورموزها ومشاريعها وروافد إمدادها ومنافذ انتشارها وكيفية نفوذها إلى أجيال جديدة من الدهماء والعامة؟

قد نكون قد تفاجأنا بأن العلمانيين لم يعودوا في بلاد المسلمين مقتصرين على بضع عشرات أو حتى مئات من النخب الفاسدة التي ينبغي تطهير كل مجتمع مسلم منها، لكنهم صاروا قطاعات من الشعوب التي أصبحت فعلاً منقسمة إلى (علمانيين) و(إسلاميين)!

هل جاء ذلك مصادفة أو من دون جهد منهم في ذلك التغيير؟

سؤال كبير يحتاج مِنَّا إلى كثير من التفكير!
 

المصدر: مجلة البيان العدد: [317]؛ محرّم 1435هـ، نوفمبر 2013م.
  • 4
  • 0
  • 6,073

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً