قيم لا تموت

منذ 2013-11-22

كثيرة هي القيم والمبادئ التي أرسى دعائمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفوس أصحابه والمسلمين من بعدهم، وقد ترسخت هذه القيم في النفوس والقلوب حتى صارت جزءاً من تكوين المسلم القيمي والأخلاقي، لا يمكن أن تنفك عنه أو أن يتجرد منها رغم محاولات أعداء الإسلام الدؤوبة والمستمرة لفعل ذلك.


كثيرة هي القيم والمبادئ التي أرسى دعائمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفوس أصحابه والمسلمين من بعدهم، وقد ترسخت هذه القيم في النفوس والقلوب حتى صارت جزءاً من تكوين المسلم القيمي والأخلاقي، لا يمكن أن تنفك عنه أو أن يتجرد منها رغم محاولات أعداء الإسلام الدؤوبة والمستمرة لفعل ذلك.

وعادة ما تظهر هذه المبادئ والقيم في فترات الأزمات والمِحن، وذلك من خلال تصرفات وأفعال معتنقيها العفوية أوالقصدية، حيث يمثل وقت الشدة والبأس الغربال الذي لا يبقي في النفس البشرية إلا الأصيل والثابت من منظومة القيم والمبادئ التي تربى عليها الإنسان، تصديقاً لقول الله تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد:17].


وإذا أراد الباحث معرفة مدى تأصُّل القيم والمبادئ في أمةٍ من الأمم أو فردٍ من الأفراد؛ فلينظر إلى تصرفاتهم في أوقات الشدة والكرب، وليراقب مقدار تمسكهم بتلك المبادئ والقيم عبر قصصهم اليومية ومشكلاتهم الحياتية، التي تُعتبَر مقياساً دقيقاً لهذا الأمر.

وفي هذا المقال سنتعرَّض لثبات المبادئ والقيم الإسلامية في قصة واقعية من قصص الأحداث السورية اليومية المأساوية، التي تُعبِّر بشكلٍ أو بآخر عن مدة تغلل القيم الإسلامية في نفوس ذلك الشعب الأصيل.

"ابنتي... ابنتي يا جماعة" كلمات والد سوري مكلوم قالها بعد أن سحبوه من تحت الأنقاض إثر قذيفة سقطتت على بيته في حي جوبر الدمشقي، لكنّ بعضه ما زال عالقاً تحت الركام، فقلبه وروحه ما زالت معلقةً هناك، مع ابنته التي ما زالت عالقة تحت الأرض، في زمن أصبح السوري فيها يرى هناك تحت الأرض والركام أكثر مما يرى على وجه الأرض والحياة.


كانت أصوات المنقذين تقوي عزيمة بعض الفتية والصبية العالقين تحت الركام، تلك العزيمة والإرادة التي قارعت وصارعت قوى البغي والظلم على مدى أكثر من عامين، ومن يستطيع كسر إرادة الإنسان وعزيمته إذا كانت مستمدة من قوة الله تعالى وقدرته، فمغالب الله مغلوب ومعاند الله مهزوم، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف من الآية:21].

بعد الحفر والتنقيب ظهرت بعض أنامل تلك الفتاة السورية المسلمة تتحرّك، إنها ما تزال على قيد الحياة رغم كل هذا التدمير والخراب، الله أكبر، إنّها قدرة الله تعالى التي تجعل أمثال هذه الفتاة حية تحت أكوام من الحجارة والتراب، بينما قد تموت أخرى من زلة قدم أو سكتة دماغية أو جلطة قلبية على ظهر الأرض.

تلك كلمة السِرّ التي تجعل المسلم لا يذل ولا يخضع لأحد إلا لله تعالى، فما دامت روحه ونفسه بيد الله تعالى، فلا يمكن لأحد أن ينتزعها منه إلا بإذنه وإرادته، فلتكن هذه الروح إذن حرة لا يستعبدها غيره سبحانه، ثم من قال أنّ الحياة حياة الجسد فحسب؟!


إنّ كثيراً من الأحياء في الظاهر هم في الحقيقة أموات، ما دام ضميرهم غائب أو مغيب عن مآسي إخوانهم من المسلمين.

تحت الأرض والركام والظلمات المتراكم بعضها فوق بعض؛ يخيم شبح الموت في كل مكان وزاوية، وحينها لا يفكر الإنسان عادة إلا بالنجاة والخروج، خاصةً بعد أن يسمع بعض الأصوات من فوق الأرض، فترنو نفسه لها وتشرئب، وتتعلق روحه بالأمل والحياة، دون تكلُّف أو تظاهر، فالنفس البشرية جبلت على حب الحياة والتعلق بها، فلا يفكر العقل حينها إلا بهذا الأمر، ولا تنشغل النفس إلا بهذا الجانب، وهو أمر مفهوم ومعلوم ولا يجادل فيه أحد.

بيد أنّ المسلم الذي ملأ الإسلام قلبه، وتشرّبت عروقه تعاليمه وهداه؛ بشرٌ ولكنه ليس كالبشر، فمبادئ الإسلام التي تربى عليها، وأوامره التي طبقها ونفذها في حياته، لا يمكن أن تنسلخ من نفسه وسلوكه حتى في أشد الظروف وأقساها، وهذا ما جعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضربون أروع الأمثلة في هذا الجانب.


وذلك كان صنيع بطلة قصتنا الواقعية هذه، فما إن أزيح بعض الركام والتراب من على ظهر الأرض، وما إن ظهرت بعض أشعة الشمس على ذلك المكان المظلم، حتى نطقت الفتاة العفيفة بلسان دينها وأخلاقها وعفتها، قبل أن ينطق به لسان فمها الذي في وجهها: "عمو لا تصوروني ماني محجبة".

وإذا كان اللسان يعجز عن تفسير هذه الظاهرة الفريدة الرائعة، وإذا كانت ألفاظ العربية بأجمعها غير قادرة على شرح معنى هذه العبارة القصيرة المباني العظيمة القيمة والمعاني؛ فإنها على كل حال ذكرتني بتلك المرأة المسلمة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي جاءت تشتكي له حالة الصرع التي تنتابها بين الفترة والأخرى، فخيرها الرسول صلى الله عليه وسلم، بين أن يدعو الله لها فتُشفى، وبين أن تصبِر فتؤجر، فاختارت الأجر والثواب على المشقة والعذاب، ولكنّها فطنت لأمر هو أكثر ما يشغل بالها، وأشد أذىً وإيلاماً في ما تلاقيه من ساعة الصرع التي تنتابها، فالألم والعذاب المصاحب لحالة الصرع يهون أمام هذا الأمر ويضمحل، إنّه أمر العفاف والستر الذي ربما ينخدش أثناء حالة الصرع، فتسارع المرأة المسلمة بطلب الدعاء من الرسول صلى الله عليه وسلك كي لا تتكشف.

جاء في صحيح البخاري عن عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: "قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي، قَالَ: «إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ» فَقَالَتْ: أَصْبِرُ، فَقَالَتْ إِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا" (صحيح البخاري: [7/116]، برقم: [5652]).


فهل في قاموس العالم عفاف كهذا العفاف؟

وهل يمكن لدين من الأديان غير الإسلام أن يرقى بأخلاق المرأة وعفافها إلى هذه الرتبة السامية وهذه المنزلة الرفيعة؟

إن قصة هذه الفتاة السورية العفيفة ستكون وشاحاً على تلك العائلة التي ربَّت أمثال هذه الفتاة، ودلالةً بارزةً لحقيقة طبيعة المعركة القائمة بين العفاف المأمور به في الإسلام، وبين العهر الذي يدعو له الغرب وزبانيته في كل مكان، ومنهاجاً سيدرس للأجيال القادمة، بأنّ العفة والطُّهر كان وما يزال علامة فارقة للمرأة المسلمة أينما كانت، وأنّ المبادئ والقيم الإسلامية التي رسخت في نفوس المسلمين، من لدن محمد صلى الله عليه وسلم وإلى قيام الساعة، لا يمكن أن تضمحل أو تنمحي، مهما تراكمت فوقها الأغشية والأتربة وأكوام الحجارة والأبنية، لأنها ببساطة شديدة ستخرج من بين الركام، مُعلِنة أنّ أمثال هذه المبادئ لا تموت، وأن أمثال هذه القيم لا تنمحي.

عامر الهوشان


 

  • 0
  • 0
  • 1,540

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً