الكلمة الطيبة

منذ 2013-11-24

اقرأا الليلة نظراتِ عيونكما، ولاحِظَا حركات أطرافكما، وأصغيا السمع لوجيف قلبيكما، وشنِّفا أذنيكما لسماع أحلى الكلام، استنشقا أريج عطريكما، واملأا صدريكما به، ثم سجِّلا دستورَ حياتكما بمداد الود، وأعناقِ الورد.


تألق البداية:
ليلة ولا أحلى، ليلة ولا أبهى، ليلة ولا أجمل، سمَّوها "ليلة العمر"، هي ليلة الاقتران المبارك.

أيْ بُني، يا قرة العين، بارك الله لكما، وبارك عليكما، وجمع بينكما في خير.

أيةُ فرحةٍ تكسو وجهيكما النضرين؟! وأية بسمة تعلو شفاهكما المزينتين؟! بل أية بهجة تغمر قلبيكما وقلوبَ كل المحبين لكما ولذويكما؟!

ما زال صدى أصوات دفوف فرحكما يشنِّف أسماعَ الجميع، وها هي صور باقات الورود تتماثل في الذاكرة، التي رفضتْ أن تغادر الصالة التي شهدتْ فرحكما، ولربما تعلق طعم ولائمكم اللذيذة بذوق كل المدعوين.

لقد انتهى الحفل، وعاد كلٌّ إلى داره ودربه، ودخل الزوجان بيتَهما؛ ليبدأ حفلُهما الخاص، فما مضى كان لمجتمعِهما.

أي بني:

اقرأا الليلة نظراتِ عيونكما، ولاحِظَا حركات أطرافكما، وأصغيا السمع لوجيف قلبيكما، وشنِّفا أذنيكما لسماع أحلى الكلام، استنشقا أريج عطريكما، واملأا صدريكما به، ثم سجِّلا دستورَ حياتكما بمداد الود، وأعناقِ الورد.

الليلة تنساب ينابيعُ الحب من بين أصابعكما؛ لتغذي كلَّ لحظة قادمة، بارك الله لكما؛ فقد كوَّنتما أسرةً سعيدة، وغذيتما أمتكما بعناصر البناء والقوة، وإني لأراكما بكل حُلل الروعة والبهاء والجمال، تتوجَّهان لأداء ركعتي نافلة صلاة فريدة ليس لها مثيل؛ فقد تُوِّجْتَ - يا بني - أميرًا وإمامًا لواحدة فقط، هي دنياك وعالمُك الفسيح، ولربما كانت عادتك أن تكون إمامًا للآلاف؛ لكنهم لا يغطون إلا جزءًا صغيرًا من أُفقك، أما عروسك، فهي امرأة من كل نساء الأرض، تعلن أمامها أنك أنتَ أميرُها، والأمين على شئونها، وهي خلفك تحطُّ رحال خوفها، وتسكن أمواج قلقها؛ لأنك غدوتَ إمامَها في الصلاة، ومنحتْك هي قلادةَ ريادة شؤون الحياة.

لقد تخلفتْ عنك خطوة واحدة، فأسَّستَ سياجها الحامي لها، ونعمتْ بالهدوء والسكينة، وقد غدتْ مركزَ سياجك الذي أحكمت، إنها تتنسم الهناء، وتتنفس الثبات، فلسوف تنطلق خلف إمامها؛ لارتقاء سلالم المعالي، متخففةً من ثقل سباق الإمام، ومزاحمته على موقع قدميه؛ لأنها ترفَّعتْ عن سباق يودي إلى الهاوية.

أيْ بنيّ:

لقد أضأتما بيتَكما بنور الصلاة، تمامًا كما بيوت الله المبثوثة في مشارق الأرض ومغاربها، فليهنكما ما وقَرَ في قلبيكما من أن حياتكما معًا تحت سقف هذا البيتِ العامر، ما هي إلا حلقة موصولة باليوم الآخر.

أحبائي:

إني لأعجبُ من فطنتكما، وذوقكما، وقدرتكما الهندسية، وأنا أرى مقصورتكما قد أسِّستْ على رخاميات ثمانية كعدد أبواب الجنة، آملين أن تجدد رخامياتُكم نبضَ الحياة والقوة فيكم وفي أمتكم.

ألا ما أروعَ رخاميتَكم الأولى!
الكلمة الطيبة...

وهي قول العلي القدير: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ . تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم:24-25].

الكلمة الطيبة؛ تبذر في الأرض الطيبة، مع هبَّات سير الطيبين والطيبات، وهم أول من قال كلمةَ التوحيد التي تتفرع منها كلُّ الكلمات الطيبة، وكلمات كتابنا الكريم الطيب؛ لم تصلْنا إلا عبر قنوات بشرية في غاية الطيبة والفضل. أما السنة النبوية المطهرة، التي أرشدتْ لكل خير وطيب وفضل، فقد سخَّر الله لها أفئدةً طيبة لتبليغها، وكل ما علمنا من سيرٍ ناصعة، وعلمٍ زاخر، وحضارةٍ رائدة، وفكرٍ نيِّر، سار على جسور من الطيبة والنقاء ليبلغنا، ومَن نحن إن لم نكن طيبين، نستقبل الطيب؟!
فإنِ ارتضينا لأنفسنا غيرَ ذلك، طُوينا كصفحاتٍ منسيَّة في سِفر أمتنا؛ فالكلمة الطيبة يصغي لها الإنسانُ، مؤمنًا كان أم كافرًا، تراه يصغي لها بكل كيانه؛ فهو يسعد لسماعها في المرة الأولى، ويغرق في بحار الحبور والرضا وهو يكرِّرها لنفسه، فتصعد به سلالمَ الارتقاء.

ألا ما أجملَ وأروع التعبيرَ القرآني!
فالكلمة الطيبة كشجرة طيبة، أصلُها ثابت، وفرعُها في السماء، تؤتي أُكُلَها كل حين بإذنِ ربها، وهذا ما ارتضاه سبحانه وتعالى لعباده ليتفيَّؤوا ظِلال الكلمات الطيبة الوارفة؛ ليغدو مجموعُها كرياض أخَّاذ، يسير فيه المسلم؛ ليملأ رئتَيه بنسائمَ آتيةٍ من رياض عبق، تُناسب مسئولية عمارة الأرض التي أحكمتْ حول عنقه كأمانة، وكأنه سبحانه انتدب المؤمن بالتوحيد دون غيره؛ ليعيش في مثل هاتيك الرياض، التي تسحر اللبَّ، وتستوطن الذاكرة، بينما غيرُها يأتي ويمضي ليس مأسوفًا عليه، ولا بأدنى ذرة شوق إليه، كتلك الكلمات من عبارات المديح والإعجاب والغزل، سواء المقفاة أم المغناة لغير الحلائل والمحارم، والتي تقذف بها منابع ما يسمونه "الفن" يوميًّا لتصمَّ الآذان بسيلٍ من العبارات الهابطة، التي تحدث الدوار والغثيان للعقلاء، فيشتد شوقُهم لكلمةٍ طيبة صادقة هادفة، مدخرة الأجر، ممتدة الأثر، تمامًا كالشجرة الطيبة، ليس لقمَّتِها النامية نهايةٌ، وقد لا تستطيع العينُ البشرية تحديدَ بُعدها في الأفق، وكذا الكلمة الطيبة التي يقولها المسلم أو يسمعها، قد لا يدرك أثرَها الرائع المتنامي عبر الزمن؛ إذ هو لا يستطيع تحديد ما سيجنيه من ثمارها طيلة حياته؛ بل وبعد مماته.

وإن الشوق ليزدادُ لكلمةٍ طيبة صادرة من قلب محبٍّ مخلص، وفم طاهر نظيف، فمن أولى منكَ أيها الابن تَسمعها منها وتُسمعها لها؟! ومن أحق منكِ أيتها الابنة تَسمعينها منه وتُسمعينها له؟!

هذا طريق الحوار اللطيف الشفيف بينكما، حوار المحبة الهادئ، والنصح الهامس، والتصويب الودود.

بذلك؛ فالأسرة التي لا حوار فيها كبيتٍ بلا ماء، والحصيفُ الحريص لا يرتضي لأحبائه غيرَ الماء النقي العذب، كذا تجده لا ينتقي غيرَ الحوار النقي الهادف؛ ليعلو ويعلو مع صاحبه؛ ليصل إلى كبد حقيقة المحجَّة البيضاء.



أم حسان الحلو
 
  • 0
  • 0
  • 1,885

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً