حامل القلم

منذ 2013-11-24

أصحاب القلم أحرار الفكر أم مقيَّدون بدواعي المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية؟ الأدب يساير المجتمع ويُرضيه أم يهذِّبه ويرتقي به؟ اللغة تقف عند مستوى قارئيها أم تأخذ بأيديهم لتُعينَهم على اعتلاء مستويات أفضل؟


أصحاب القلم أحرار الفكر أم مقيَّدون بدواعي المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية؟ الأدب يساير المجتمع ويُرضيه أم يهذِّبه ويرتقي به؟ اللغة تقف عند مستوى قارئيها أم تأخذ بأيديهم لتُعينَهم على اعتلاء مستويات أفضل؟

تساؤلات عدة، وروافد تصبُّ في نهر رئيس، ألا وهو مسؤولية حامل القلم تجاه مجتمعه. اختلف الأدباءُ والمفكرون والنقاد في وضع مفهوم للأدب، واختلف مفهوم الأدب في الشرق عنه في الغرب، وتدرج معنى كلمة (أدب) وتباين في كل عصر، وقديمًا لم تطلق العربُ على الشعر اسم الأدب، ولم يكن يعرف القدماء معنًى قريبًا من كلمة أدب غير كلمة مأدُبة، وهي الوليمة، ثم تغيَّر المفهوم فيما بعدُ ليقترب من معنى التهذيب؛ ثم تطور المفهوم في عهد خلفاء بني أمية وبني العباس، وأصبح يُطلَق على المعلِّم لفظ: (المؤدب)، وهكذا حتى وصل اللفظ لنا؛ ليدلَّ على المنتَج الفكري للأمة، والذي يتصف بصفات تميزه عن غيره؛ ولهذا قيل: إن عدَّة الأديب -صانع الأدب- هي موهبة أصيلة، ثقافة رفيعة، تفكير حصيف، حس مرهف، خيال مبدع، لغة سليمة، عبارة رشيقة، وأسلوب طلي، ومع تنوُّع التعريفات المقدمة للأدب نجد تعريفًا شاملاً يقول بأن الأدب هو ثمرة فن القول، أو فن التعبير بالكلمة الساحرة، وثمرة هذا الفن هي آثار شِعرية أو نثرية، تتميز بجمال الشكل، وتنطوي غالبًا على مضمون ذي بُعْدٍ إنساني يضفي عليها قيمة باقية.

وبينما قسم العرب الأدبَ لشعر ونثر، فقد قسمه الغربيون إلى أدب تخيلي؛ كالرواية والقصة والأقصوصة، وأدب لا تخيُّلي؛ كالمقال، ومع تطور التكنولوجيا اليوم، وسهولة النشر وقلة ضوابطه، وعدم خضوع كل ما يُنشَر للنقد، فقد أصبح الأدب منتجًا سهلَ الإنتاج والنشر، وفي المقابل أدت تلك السهولة لنقص ضمان الجودة، فبإمكان الجميع أن ينتج ما شاء، وأن ينشر ويقدم للمجتمع على اتساعه، لا تعوقه سوى بعض الضوابط والقيود التي يسهُل التغلُّب عليها؛ ولهذا نجد مئات المقالات والقصص المنشورة على شبكة الإنترنت، والتي يتفاوت كتَّابها بين مجيدين وغير مجيدين، وما بين مبدعين ومقلّدين، وتعددت المضامين، منها الصالح والطالح، ومنها الراقي المميز، والغث والسمين، ومع تغيُّر الأوضاع أصبح بالإمكان أن نطلق على تلك المنتجات بأنها إنتاج فكري وليس أدبيًّا؛ إذ يفتقد الكثير منها لأبسط خصائص الأدب ومميزاته، ألا وهي اللَّقْطة الجميلة والأسلوب الحسن.

وبدلاً من أن نناقش المسؤولية الاجتماعية للأدب، والتي تناولتها المؤلَّفات، وكتب عنها الكثيرون حتى احتدم بينهم النقاش، إلى أن خلصوا إلى أن الأدب معبِّر عن المجتمع، وأن العلاقة بين الأدب والأديب والمجتمع علاقة وثيقة؛ إذ إن الأديب يعيش في مجتمع يتأثر به، وينفعل ويتفاعل معه، ثم يضع منتجه الأدبي الذي يتلقاه المجتمع، فالصفة الاجتماعية لازمة ولا بد، وقد اختلفوا في وصفهم لتلك العلاقة؛ إذ كيف يصوِّرُ الأدبُ المجتمعَ؟ وهنا ظهرت اتجاهات ومذاهبُ عدة على مدى العصور، بدءًا من العصر اليوناني والروماني، وظهرت مسميات عدة؛ كالمثالية، والطبيعية، والرومانسية، والواقعية، وفيها يطول الحديث ويتشعب، ويتداخل ويتشابك، ولكن يهمنا منها الواقعية؛ إذ إنها تخوض في كيفية تصوير الأدب للمجتمع، حتى اعتقد البعض أن بإمكان الأدب أن يسجِّلَ تاريخ الأمم وتطورها، وعلى كل حال لا شك أن للأدب وظيفة مشابهة لتلك، على أن الذاتيةَ في الأدب أمرٌ لا جدال فيه، كون من يضع المنتج الأدبي هو إنسانًا، مهما احتاط في عمله وتحرَّى الموضوعية، فلن يبلُغَ تمامَها، شأنه في ذلك شأن الصحفي الذي ينقل خبرًا، فهو يتحرى الموضوعية قدر استطاعته، غير أن ذاتيته قد تؤثر في كمِّ المعلومات التي يحصِّلها في جانب دون آخر، أو تركيزه على خبر دون غيره، وهكذا، وذاتية الأديب في خياله وأسلوبه وقراءته للواقع، على كلٍّ نعود لنقول: إن بالإمكان أن نستبدل علاقة الأدب بالمجتمع بقولنا: علاقة حامل القلم بالمجتمع، وحامل القلم قد يكون مفكرًا، أو صحفيًّا، أو أديبًا؛ شاعرًا كان أو ناثرًا.

وتلك العلاقة على درجة كبيرة من الأهمية؛ إذ يؤثِّر حامل القلم في مجتمعه من ناحيتين: المضمون الذي يقدِّمه، والأسلوب الذي يكتب به، ومن حيث المضمون نجد أن مجالَه متَّسع باتساع الفكر الإنساني، ومتجدد ومتطور كتجدده وتطوره، غير أن انتقاء صاحب القلم لِما يكتُب هو أمر بالغ الأهمية، فليس المطلوبُ منه أن يركِّزَ على نماذج فردية فقط لا تتمثل في الواقع إلا بنسبة قليلة جدًّا، وأن يغرق في التشاؤم، فيرى النماذج الأسوأ في المجتمع، كمن يركِّزُ على نقطة سوداء فوق صفحة ناصعة البياض، وأن يغرق في التفاؤل فيرى فضائل المجتمع وحدها دون رذائله، كأنه يحيا في المدينة الفاضلة، وإنما واقعيته أن يوازنَ بين هذا وذاك، وأن يقدِّمَ للمجتمع ما يتبصَّرُ به ويتهذَّب.

وجانب الأسلوب واللغة المستخدمة هو على قدر كبير من الأهمية، ويمكننا أن نميِّز بين أسلوبين في التعبير عن معنى واحد، وهما: التعبير الفظُّ الصريح المنكشف، والتعبير العفيف المتستر بألفاظ الحياء والحشمة، وبعض الكتَّاب يسلكون الأسلوبَ الأول ظنًّا منهم أن هذا أقربُ للواقعية، وأدعى لوصول المعنى للقارئ بسهولة ويُسر، وفي سبيل ذلك يسوِّغون لأنفسهم استخدامَ ألفاظ العوام، بل وأحيانًا استخدامَ ألفاظٍ يتعفَّف عنها الناس، لا لشيء إلا لأنها موجودة بين أوساط وطبقات اجتماعية معينة، ومنهم مَن يميل للكتابة بالعامية على حساب الفصحى، كونها أيسرَ وأقربَ للواقع الذي يعايِشُه القرَّاء، ومنهم مَن لا يتعفَّفُ عن ذكر ألفاظٍ تخدشُ حياءَ القارئ العفيف، وتُرضي ذوي المِزاج الملتوي، وللأسف يُسهِم هؤلاء باتجاهِهم في الإمساك بيد المجتمع وجرِّه للرذيلة ولو اللفظيةَ، ولا يخفى على أحد ما للَّغة من دَورٍ في الحفاظ على المجتمع وأخلاقه ورقيِّه، حتى إنك ترى المتكلم فتحكُم على طبيعته وشخصيته من اثنين بداية، هما: مظهَرُه، ولغتُه، ثم تبحث في أمر فكرِه وثقافته فيما بعدُ.

وإن كان جبران خليل جبران قد ناقَش منذ سنوات طويلة مستقبَلَ العربية في مقال خاص، وميَّز فيه بين فئتين من صانعي الأدب، هم المبتكرون المبدعون، والمقلّدون، فماذا نقول نحن اليوم عن حاملي القلم في زماننا؟ بل ماذا نقول عن مستوى القراء الذين تدنَّى مستواهم اللغوي، لدرجة أن بعضهم لا يستوعب الفصحى، وبعضهم لا يُحسِن أن يفهَمَ أو أن يقرأ بما سُمِّي في بدايات القرن العشرين بلغة الصحافة، وهي صورة مبسطة من الفصحى، وتكاد تكون هي التي نكتب بها اليوم معاملاتنا وخطاباتنا الرسمية، بل إن منهم مَن يرتاح ويركَنُ إلى العامية، ومنهم مَن تحوَّل لكتابة العربية بالأحرف الإنجليزية، وهي ذاتها الدعوة التي لاقت رفضًا شديدًا في بداية القرن العشرين؛ لأن مفكري ذاك العصرِ قد وعَوْا جيدًا أن تنازُلَهم عن الأبجدية العربية هو بدايةُ تنازُلِهم عن لغتهم، ومن ثَمَّ قوميَّتهم، وهويتهم، وثقافتهم.

وقد ازداد الأمرُ سوءًا حين ظهرت ثقافة جديدة بدأت تنتشر وتلقى قَبولاً شديدًا، ألا وهي ثقافة القصاصات، فبعد أن كانت التكنولوجيا سببًا رئيسًا لمزاحمة الصورة للكلمة، باتت الكلمةُ وكأنها تُحتضَر اليومَ، فلم يعُدِ القارئُ يملِكُ مِن القدرة والرغبة والإرادة ما يكفيه ليقرأ مقالاً من نصف صفحة، أو صفحة، أو صفحتين، بل يكفيه بضعُ جُمَل لا بضعة أسطر، وهي ما نرى أن نسميه بالقصاصات، وتلك الجمل المحدودة العدد بإمكانها أن تقدِّمَ ثقافة ومعنًى راقيًا إنْ كتَبها أديبٌ بارع ذو فكر عميق، ولغة قوية، وأسلوب ناصع البيان، أما ما نراه اليوم فهو على غير ذلك.

فحريٌّ بمَن أمسك قلمًا اليوم أن يكتب واضعًا نُصْبَ عينيه المجتمعَ الذي يكتُب له، ذاكرًا العبء الثقيل الذي يحمِله على كاهله، مدركًا أن الكلمةَ قد تعلو بالأمم وقد تهبط بها، قد تلهب حماس أبنائِها، وقد تقتُلُ فيهم إنسانيتهم، يكتب فيمد يدَه للقارئ ليُعِينه على القراءة، يتدرج فيما يُقدِّم من القصير إلى الطويل، من السهل إلى الصعب، من الموجز إلى المفصَّل، حتى يتعلَّمَ قارئه منه، ولو لم تكُنْ أفكارًا، لكانت لغةً ومفرداتٍ وأسلوبَ فكر، لا ذريعة للوقت وعصر السرعة، فتلك أكذوبة، فحتى من بذل الجهد ليبلغ بنا عصر السرعة قد أمضى أشهرًا وسنوات طويلة قارئًا ودارسًا ومفكرًا ومجربًا ومخترعًا.


نسمة السيد ممدوح
 

  • 0
  • 0
  • 2,822

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً