أنفاس الحرية

منذ 2013-11-30

كانت تسير هي وصديقتها سمية مسرعتين نحو منزليهما.. فجأة ظهرت عربة النظام أمامهما وخرج منها جنديان.. سأل أحدهما بجلافة: لماذا أنتما مسرعتان؟ وإلى أين متجهتان؟ ردت سمية: ذاهبتان إلى منزلينا، لقد تأخرنا قليلا في المدرسة حيث كنا ننقل الدرس من السبورة. تكلم الآخر وهو ينظر بوقاحة إليهما قائلا: لقد انتهى الدوام المدرسي منذ ساعة ولا أظن أنكما قادمتان من المدرسة، إنما أنتما تساعدان هذا الجيش المنشق..

 

استيقظت دعد وهي تتصبب عرقًا، فتحت عينيها ثم أغمضتهما من جديد مرارًا وتكرارًا حتى استقرت نظراتها على باب الغرفة.. شدت البطانية الملتحفة بها بقوة نحو رأسها وكأنها تريد أن تختبئ فلم تُظهر سوى عينيها.. ارتجفت رجفة قوية وأخذت أنفاسها تتلاحق جيئة وذهابا.. مرت عليها دقائق وهي تحدق بالباب ثم عادت تنظر حولها من جديد.. وضعت يديها على أذنيها كأنها لا تريد أن تسمع صوت ما في داخلها!

كانت عيناها فقط ما يتحرك في الغرفة.. سقطت نظراتها على قنينة الدواء.. مدت يدها واختطفتها ثم أدخلتها إلى حيث يختبئ فمها تحت البطانية.. تناولت كبسولة واحدة بتوتر زائد ومن ثم أعادت الكرة مع قنينة الماء.. تجرعت ثلاث رشفات ثم أحكمت غطاءها ووضعتها بعصبية على الطاولة من حيث أخذتها، فسقطت القنينة وتدحرجت على الأرض.

مرت دقائق على تناولها المهدئ.. أرخت يديها المتشنجتين من على البطانية.. انتظمت أنفاسها نوعا ما.. أزاحت البطانية وجلست على حافة السرير.. نظرت لباب الغرفة من جديد.. شعرت بالضيق لا سيما وهي تقبع في هذه الغرفة منذ أسبوعين.. سارت نحو الباب، فتحته واتجهت إلى غرفة المعيشة.. المنزل يغرق في السكون، في غاية الترتيب كعادة والدتها؛ كل شيء في مكانه.. جلست على الأريكة.. السكون يكتنف المكان.. نظرت إلى صورة والديها على الطاولة.. حملت الصورة وأخذت تتأمل والديها، كم تشعر بالحب لأبيها وبالأمان لقربه.. أعادت الصورة إلى الطاولة... نظرت إلى التلفاز أمامها.. كم لها من الزمن في حالة انقطاع عما يجري في العالم! التقطت جهاز التحكم عن بُعد وضغطت على الأزرار.. كسر صوت المذيع الصمت المهيمن وهو يقرأ حصيلة جرائم وانتهاكات النظام السوري.. اقشعر جسدها وتدفقت ذكريات ما زالت حرى في نفسها.

كانت تسير هي وصديقتها سمية مسرعتين نحو منزليهما.. فجأة ظهرت عربة النظام أمامهما وخرج منها جنديان.. سأل أحدهما بجلافة: لماذا أنتما مسرعتان؟ وإلى أين متجهتان؟ ردت سمية: ذاهبتان إلى منزلينا، لقد تأخرنا قليلا في المدرسة حيث كنا ننقل الدرس من السبورة. تكلم الآخر وهو ينظر بوقاحة إليهما قائلا: لقد انتهى الدوام المدرسي منذ ساعة ولا أظن أنكما قادمتان من المدرسة، إنما أنتما تساعدان هذا الجيش المنشق.. اقترب الآخر وهو يفرك شاربيه بخبث: إذًا لا بد من اقتيادكما للتحقيق في مخفر الشرطة. انكمشت دعد من جديد على الأريكة وأخذت تقضم أظافرها وهي تتذكر كيف أخذتا تتوسلان، تبرران تأخرهما وأنهما لا علاقة لهما بالجيش الحر.. لكن عبثًا!! جذباهما الجنديان بشدة ثم دفعاهما بغلظة إلى داخل الجيب.

وضعت يديها على أذنيها لا تريد أن تستعيد تلك الكلمات الجارحة من الجنود وهم يقتادونهما إلى داخل المخفر، وتلك النظرات الجائعة تنطلق كالسهام تؤذي وتخدش الحياء والعفاف.. دفعاهما الجنديان أخيرًا إلى زنزانة مكتظة بالفتيات.. لا تدري كم من الساعات مرت عليهما وهما تتأهبان للتحقيق! تسلل اليأس لقلبيهما عندما علمتا من بعض الفتيات أنه لم يجرَ معهن أي تحقيق.. دبَّ الفزع أكثر في أوصالها عندما تذكرت كيف يأتي الجنود أحيانا في الليل يأخذون بعض الفتيات بحجة التحقيق ولا يصل إلى الزنزانة إلا صراخهن، كانت الفتيات العائدات إلى الزنزانة يجلسن في رعب وبكاء حيث لا تستطيع الأخريات سُؤالهن عما جرى لهن.

أخذت الدموع تنسكب من عينيها وهي تتذكر الشجار الذي حدث بين سمية و إحدى السجينات التي كانت تُحبط الفتيات من معارضة الضباط والجنود إذا أردن الخروج من الزنزانة والعودة لمنازلهن.. تذكرت كيف وقفت سمية في وجهها قائلة: لماذا تُقنطينا من الأمل والرجاء وما مصلحتك في هذا؟! لماذا لا يقتادونك للتحقيق وأنت من أقدم النزيلات هنا؟! إننا نقول لك إننا لن نتهاون في شرفنا، فنحن نؤمن أنه من مات دون عرضه وشرفه فهو شهيد، نحن هنا لم نفعل شيئا يستوجب السجن.. حضر جنديان لدى سماع الشجار ونظرا إلى المتشاجرتين.. لاحت على أحدهما شبح ابتسامة عندما تقابلت نظراته مع المرأة المتشاجرة مع سمية.. قال الآخر متوجها لسمية: أنتِ تثيرين الفوضى وتدبرين لانقلاب داخل السجن.. أنتِ من هؤلاء المارقين أيتها اللعينة.. حاولت سمية الدفاع عن نفسها لكنهما أخرجاها بعنفٍ من الزنزانة.. أجهشت دعد بالبكاء وهي تتذكر صرخات سمية.

بعد برهة من الزمن حضر أحد الجنود مستدعيًا إياها للتحقيق.. وقفت وقد تملّكها الهلع وسيل الأسئلة المفزعة ينهال عليها: ماذا سيفعلون بي؟! إلى أين سيأخذني هذا الوحش؟! هل سأجد سمية؟! كانت لا تستطيع المشي من شدة الخوف والجندي يسحبها بعنف ويده الآثمة تحاول الوصول لأكثر مما تمسك! اقتادها لأحد الدهاليز المليء بالزنزانات.. سارت مثقلة القدمين وهي تسمع الأنين والبكاء من داخل الزنزانات المارة بها.. كانت تسأل نفسها: يا ترى هل سمية اقتيدت لإحدى هذه الزنزانات؟! لم تجد جوابا، فقد انسل صوتها متألما متوجعا منهكا: من مات دون عرضه وشرفه فهو شهيد.. نظرت إلى حيث انساب الصوت لكن الجندي زجرها بعنف ودفعها بغلظة.. أخيرا وصلت إلى نهاية الدهليز.. أُجلست عند أحد الأبواب وهي تنتظر فزعة مما ستواجهه في غرفة التحقيق.. كان فزعها يتزايد وهي تسمع صراخ أحد الشباب داخل الغرفة وأنين آخر من الغرفة المقابلة حيث كان ينبعث صوت رجل كهل أنينه يمزق نياط القلب.. مكثت هناك قرابة الساعتين وهي تموت مع كل صرخة.. استمر وضعها هذا لفترة من الزمن، فشعرت أنهم يهدفون لشيء ما!

أخذت دعد تشهق بالبكاء وهي تتذكر حينما أُدخلت أخيرًا غرفة التحقيق وكأنها أُدخلت إلى وكر الذئاب الجائعة، حدقت بعينيها المرهقتين في الضابط الجالس خلف المكتب وإلى الوحشين الضاريين الواقفين أمامها بملامح مميتة.. أخذ مجرى الأسئلة ما بين اللطف المفتعل والتهديد.. فجأة انسلت سمية إلى ذاكرتها وملئت مقلتاها وهي تقول: إياكِ أن تصدقي هؤلاء الرافضة مهما تقنعوا بالرقة.. إياكِ، إياكِ الاستسلام لهم إن كشَّروا عن أنيابهم وكشفوا عن قبح سريرتهم، فالموت بشرف خير مليون مرة من العيش بذلة مُنتَهَكة العفاف.. أخيرًا قال الضابط بلؤم وهو يتأمل ملامحها الطفولية: هل تعرفين أن صديقتك سمية خرجت من المخفر؟ تفجَّر الأمل في نفسها وقالت بانفعال: حقًا؟! متى خرجت يا سيدي؟! لقد قلت لك إننا بريئتان ولم نفعل شيئًا وليس لدينا أي صلة بهؤلاء المنشقين، لقد كنا عائدتين من المَدرسة حيث تأخرت المُدرّسة في الفصل واضطررنا للمكوث وكتابة الدرس من السبورة.. توقفت فجأة عن الكلام عندما لاحظت الابتسامة الجانبية المرتسمة على وجه الضابط وحملقة الجنديين فيها وكأنهما على وشك الانقضاض عليها.. عادت للهدوء وبصوت مخنوق قالت: حقًا يا سيدي؟! أجابها الضابط وهو يلهو بالقلم بين يديه: نعم خرجت منذ أسبوع.. ألقى القلم على المكتب وأضاف: لكنها لم تمشِ على قدميها، بل ألقيت للخارج جثة هامدة.. أخذت دعد تبكي بحرقة وهي تتذكر تلك الكلمات.. كانت صرخات سمية تصُم أذنيها.. قُتلت سمية بأيدي الفجرة الكفرة.. قتلت سمية دون عرضها وشرفها!!

لم يخبرها أحد كم أمضت في المعتقل وهي تسمع الصراخ والأنين حيث يكتويها الألم وتعيش مختلف القصص الأليمة التي أوقفت عقارب الزمن لديها.. فقط أخبروها أن أباها أمضى عدة شهور وهو يحاول إخراجها بشتى الوسائل دافعا جلّ ثروته في سبيل حرية ابنته والمحافظة على شرفها وعفتها.. انكمشت أكثر وهي تتذكر صويحبات عشن معها نفس المأساة وذاقت وإياهن نفس المرارة وتجرعن نفس الكأس ما زلن يقبعن داخل الزنزانة وهي تنعم الآن بالأمن والأمان في منزلهم وفي كنف والديها، وإن كان خارج الوطن!
 

 

جميلة بحر
 

المصدر: مجلة البيان
  • 0
  • 0
  • 2,714

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً