اعتراف

منذ 2013-11-30

لا تنزعج، ولا تغضب، فلم أتعوّد الكذب من قبل. كل ما حفظته عن والدي رحمه الله منذ صغري أن من لم يفعل شيئاً يستحق عليه العقاب فلا خوف عليه. لذلك سأصارحك منذ البدء بأن كلَّ ما سأقوله لك هو عين الحقيقة، تلك الحقيقة التي لم أزل ألهث لاكتشاف أمرها في قضيتي أنا بالذات.

 

سوف أقول كل شيء يا سيدي!

لا تنزعج، ولا تغضب، فلم أتعوّد الكذب من قبل. كل ما حفظته عن والدي رحمه الله منذ صغري أن من لم يفعل شيئاً يستحق عليه العقاب فلا خوف عليه. لذلك سأصارحك منذ البدء بأن كلَّ ما سأقوله لك هو عين الحقيقة، تلك الحقيقة التي لم أزل ألهث لاكتشاف أمرها في قضيتي أنا بالذات.

لا تلوِّح بيدك يا سيدي! سأقول كل شيء.

لكنني تعبت من الجلوس على هذا الكرسي البارد جداً.

اعذرني على ارتجافي وارتعادي؛ فلم يسبق لي أن جلست على كرسي التحقيق؛ لذلك اعتبرْ كلَّ ما أقوله حقيقة تنقصها الجرأة؛ تلك الجرأة التي ندمت على أنني لم أتعلمها قبل أن يداهم بيتنا رجالُك المخلصون، أبقاهم الله لك سنداً وعوناً. فلم تكن لي مغامرات مع شباب الشوارع والأزقة أو في الحانات والبارات، لم أتلقَّ هذه الدروس في مرحلة الطيش التي لم أعشها مطلقاً حتى في أكثر أفعالي إجراماً. أتذكّر يوم سرقنا التفاح من ضيعة (الحاج عيسى)، لم أكن أنا المبادر. كل ما شاركت به أنني لما رأيت الأولاد هربوا، لم آلو على شيء، كنت أسرعهم ركضاً حتى تُهت عن الطريق الذي سلكوه، ولم أعلم أي زقاق ابتلعهم.

هكذا أنا بين يديك تنقصني الجرأة، الجرأة فقط؛ ربما لأكتشف ما الذي ارتكبته وأقر بما يتهموني به.

لا تزم شفتيك يا سيدي! قد تنفجران دماً أنت في غنى عنه. لشدَّ ما أكره رؤية الدم، حين ضربني أحد رجالك على فمي ففاض دماً سامحته؛ كرهاً لرؤية دم آخر على وجه والدتي أو أخي الصغير الذي بكى حينها بكاءً مريراً.

لشدَّ ما أمقت اللون الأحمر في كل شيء إلا في سجاد المسجد الأحمر. آهٍ... نسيت أن أقول: إنني طوال مدَّة ارتيادي للمسجد لم أقم بأي تصرُّف مشبوه، ليس لأني كنت أعلم أن مُقدِّم الحي مدمن على متابعتنا؛ ولكن لأنني هكذا! تقول لي: لماذا؟ هكذا أنا، هل تريدني أن أعترف بما لم أفعل؟

هذه حالتي فقط، وَلْتسأل مُقدِّم الحي عن سلوكي. بل عن سلوكنا جميعاً نحن الأربعة: (عادل، ورضوان، وحسن، وأنا).

لا، لا تكتب أسماءهم، بالله عليك لا تكتبها؛ فهم بريئون أكثر مني، يكفي أن واحداً مِنَّا اعتُقِل، هم أطهر في علانيتهم وأنصع في سِرِّهم من هذه الورقة البيضاء التي لم تكتب فيها شيئاً لحد الساعة يُدينني.

المعذرة... لا تنزعج!

لكني أريد أن أعرف لماذا أنا هنا؟

ثق بأن كل ما قيل عنا إنما هو هراء وكذب وتلفيق.

نعم! حفظتُ القران في المسجد فقط، وحتى دار القران التي أُغلقَت قبل اعتقالي بأيام لم ألتحق بها إلا قبل شهرين. لم أدرس كثيراً من العلم. ولذلك ربما أنا أجهل كثيراً من الحقائق.

وشيخنَا الذي كان... آهٍ، هل بإمكاني أن أسألك عن شيخي: أين هو الآن؟ سمعت أنه ذهب وراء الشمس تلك الليلة كانت ليلة بدون نجوم، هبّت الرياح فيها بعنف، وزحفت الثعابين ولا أدري من أين خرجت! أتأسّف على أنني لم أدخل المدرسة، ولم أدرس الجغرافيا لأعرف أين تقع (ما وراء الشمس)؟

نعم، نعم، أنت الذي تسأل وأنا أجيب فقط.

لا تنزعج سأقول كل شيء، أنا وعدتك أنني لن أكذب. أعرف أنك تكره الكذب، ولكن رجالك يكذبون. لقد قالوا حين أخذوني: إنني عنصر خطير. ها أنت ترى، لقد كذبوا على أمي. لكني لم أَثُر في وجوههم أو أشتمهم؛ لأنني أكره لون الدماء.

أنا لا أكذب، لقد قلت كل شيء، ماذا بقي؟

آهٍ كنا نفطر شاياً وخبزاً وزيتاً كلَّ يوم تقريباً، إلا يوم الجمعة كان يوم عطلة فكنا نشرب القهوة والحليب قبل أن نتجهز لصلاة الجمعة. كنا نذهب بعيداً لنصلي وراء شيخنا. من سينوب عنه في هذه الخطبة المقبلة؟ ربما لن يخطب أحد؛ فليس هناك من يمكن أن يُعوِّضه. والجميع يشهد بذلك؛ ولذلك يغص المسجد حتى تتوقف حركة المرور بالشوارع المحيطة به.

أنا أُذكِّرك فقط فمن المستحيل ألا تكون صليت وراءه يوماً. إنه محبوب عند الجميع، ويقول الحق. قلت لي قبل قليل: إنك تحب الحق والحقيقة، فقد كان يُبكي الناسَ وراءه في خشوع.

لكن هل يمكن أن تكون صلاة الجمعة بدون خطبة؟ لم أسأله هذا السؤال من قبل! إنني لا أتناقض. لقد قلت لك: إنني جديد في دار القرآن.

ادع لي يا سيدي أن أتعلَّم ما أجهل، فـ "اثنان لا يتعلمان: صاحب الحياء، والمتكبر"؛ أريد أن أكون عالماً. حين ختمت القرآن بكى والدي رحمه الله وقال: هذا يوم عرسي، أريد أن يكون لي عرس ثانٍ كما تمنى والدي أن يراني عالماً كبيراً. رحمه الله، لن يراني كذلك أبداً؛ لقد طواه الموت، ووالدتي أعدَّت لنا حينها ما لذ وطاب وقالت: هذا هو (الباروك).

آهٍ أين تكون أمي الآن؟ لم أتصل بها منذ دخلت هذا المكان، حين أخذوني احتضنتْ أخي الأصغر وبكت، وهو أيضاً بكى، لقد ذكَّرني بكاؤه بيوم عرسي الذي حكيت عنه. قال: إنه يريد أيضاً أن يختم القرآن، ويقام له (الباروك)، ويلبس الجلباب والبلغة والطربوش الأحمر... سيفعل مثلي تماماً، لكن هل ستأخذونه كما أخذتموني؟ لا بد أن أُعلِّمه وأُنبِّهه إلى هذا الأمر؛ لقد تعلمت الدرس، لكني لا أعرف بالضبط لماذا أنا هنا؟

لقد قلت كل شيء، ثق بي سأُعلِّمه كل شيء. ولن يتلعثم أمامك كما أنا الآن، لن يتلعثم.
 

 

عبد الصمد الإدريسي
 

المصدر: مجلة البيان
  • 2
  • 0
  • 3,950

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً