الزواج سنة لها ضوابطها وآدابها

منذ 2013-12-03

ونصف الدِّين الذي يتحقق لكلٍّ من الزوجين بمجرد ارتباطهما بعقد الزوجية، والتزامهما بمقتضيات هذا العقد،يتمثَّل في تلك الاستقامة السلوكية والأخلاقية؛ بحيث يصبح كلٌّ من طَرَفَي الزواج مكمِّلاً للآخَر، مستجيباً في إطار الشَّرع لرغبات الآخر، قريباً من الآخر، وسِتْراً للآخر، وأشبه ما يكون بالرِّداء الذي يقي الجسدَ القَرَّ والحَرَّ...



التَّزاوج سنةٌ معتادة، بها تستمر الحياة في هذا الكون الذي يريد الله عُمرانَه، فضلاً عن الزَّواج في ديننا الحنيف - وهو أمرُ نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام الشَّبابَ بالزَّواج وحضَّهم عليه - حيث قال: «يا معشر الشَّباب، من استطاع منكم الباءة فلْيتزوَّجْ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجاء» ، وأخبر الرسول عليه الصلاة والسلام أنَّ الإقدام على الزواج ضمانٌ لنصف الدين؛ حيث قال عليه الصلاة والسلام: «من تزوَّج فقد كَمُلَ نِصْفُ دينِه، فليتَّق الله في النصف الآخَر».

ونصف الدِّين الذي يتحقق لكلٍّ من الزوجين بمجرد ارتباطهما بعقد الزوجية، والتزامهما بمقتضيات هذا العقد،يتمثَّل في تلك الاستقامة السلوكية والأخلاقية؛ بحيث يصبح كلٌّ من طَرَفَي الزواج مكمِّلاً للآخَر، مستجيباً في إطار الشَّرع لرغبات الآخر، قريباً من الآخر، وسِتْراً للآخر، وأشبه ما يكون بالرِّداء الذي يقي الجسدَ القَرَّ والحَرَّ، وما أروعَ التعبير القرآني عن كلِّ هذه المعاني بقوله جل من قائل: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: من الآية 187]! وفي اللباس معانٍ مجازية رائعة، منها ما ذكرناه آنفاً، ومنها غير ذلك مما تعجز عقولُنا وأفهامنا المحدودة عن الإحاطة به؛ باعتبار النص القرآني بلسانه العربي المبين مُعْجِزاً لا تنقضي عجائبُه، وهو سيظل بكراً إلى يوم القيامة.

كما أنَّ الزواج في ديننا الإسلامي الحنيف هو سنةُ نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ونحن طلاب هذا الهدي الذين ينشدون ترسُّمَه واتباعَه؛ لنفوز بالسعادة في الدنيا، ورضوان الله في الآخرة؛ ولهذا كان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأولئك الثلاثة من أصحابه الذين قرَّرُوا صنوفاً من التبتُّلِ والتزهُّد والترهُّب، ليست من هدي الإسلام ولا من تيسيرِه وسماحته، قال لهم: «ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقُد، وأتزوَّج النِّساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»؛ أي: من اختار طريقةً في العيش والسلوك والتعبد والتقرب إلى الله غيرَهذه الطريقة - التي تعطي لكلِّ ذي حق حقَّه - فلستُ منه وليس مني، وفي هذا الردُّ الصريح الحاسم على كل أدعياء القَداسة والرَّهبانية المكذوبة والمُصطنعة، فالإيمان في الإسلام ليس هو بالتمنِّي ولا بالتحلِّي، والرَّهبانية في الإسلام محرمةٌ، والمسلم الحقُّ هو من يعطي ربَّه حقَّه، ويعطي أهلَه حقهم، ومجتمعَه حقه، ويعطي نفسَه حقها، دون أنْ يطغى أحدُ هذه الحقوق على الآخر، وقد وهب اللهُ سبحانه وتعالى الإنسانَ من الطاقات والقُدُرات: البدنية والزمنية والنفسية، ما يستطيع بها أن يستجيبَ لكلِّ ما فيه من رغباتٍ وحاجاتٍ ومطالبَ مشروعة، دون أن يكون ذلك على حساب مرضاة الله وطاعته.

وعظمةُ الإسلام، وجمال هدي سيد الأنام عليه الصلاة والسلام، إنما تظهرُ بجلاء ووضوح في هذه الواقعية التي تميَّزتْ بها تعاليمُ الإسلام.

الذرية الصالحة:

ولا شكَّ أنَّ الزواج محقِّقٌ للاستجابة لكثيرمن المطالب الملحة في ذات الكائن البشري، وهي مطالبُ نفسية ومعنوية، وجسدية غريزية، واجتماعية تكاملية، فضلاً عن أبعادها المستقبلية؛ إذ بالزواج يقع التناسل والتوالُد، والأولاد زينةُ الحياة الدنيا التي ينبغي ألا تصل إلى حدِّ الفتنة، وما دون الفتنة مشروعٌ، بل يمكن أنْ يكون الأولاد المنشَّؤون تنشئةً صالحة سببًا لمزيدٍ من الأجر والثواب، حتى بعد الرَّحيل عن هذا العالَم؛ فقد قال عليه الصلاة والسلام: «إذا مات ابنُ آدم، انقطع عملُه إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنتفعُ به، أو ولدٍ صالح يدعو له»، يدعو له بلسانه، والدعاء بظهر الغيْب مستجاب، ودعاء الأبناء لآبائهم وأمهاتهم مندوب، بل واجبٌ، وقد وردتْ في القرآن الكريم صيغ عديدة للدعاء لمن سبقونا بالإيمان من آبائنا وأمهاتنا وعموم إخوتنا في الإيمان، ولكنَّ الأبلغَ والأكثر قبولاً والأضمنَ لذلك هو الدعاءُ الصالح للآباء والأمهات بعد رحيلهم عن هذا العالَم من طرف الأبناء والبنات، وإنما يكون بكل عملٍ صالح ينفعون به الناس، فعندما يفرِّج الأبناء والبنات كروبَ المكروبين، وعندما يعينون من يحتاج إلى إعانة، وعندما يرْحمون من هو محتاج إلى الرحمة، وعندما يُسْدون أيَّ خدمة فيها الخيروالنفع للغير، فإنما يلحقون بهذا الصنيع الأجرَ والثواب لأولئك الآباء والأمهات، الذين أصبحوا تراباً في قبورهم، والذين هم في أشد الحاجة إلى من يُقدِّم لهم عملاً يخفف عنهم مما بهم من كروبٍ لا يعلمُها إلا اللهُ.

توفر المال والجمال والنسب مع غياب الدين و الأخلاق، يؤدي إلى فشل الزواج، والأمور في الإسلام بمقاصدها وغاياتِها وما يترتب عليها؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى»، فإذا كان أمر الزواج والإنجاب هو بنيَّة الحصول على مرضاة الله سبحانه وتعالى أولاً وقبل كلِّ شيء، ثم بنية الاستجابة في الإطار المشروع إلى ما تتطلبُه نفسُ الإنسان، فإنَّ الله سبحانه وتعالى في دين الإسلام، وفي هدي سيد الأنام محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام يحقِّقُ للمسلم كلَّ ما يصبو إليه في الدنيا والآخرة، و كثيراً ما رأينا ملامح السعادة والرَّاحة النفسية والطمأنينة والأمل تعلو ملامح أفراد كثيرٍ من الأُسر والعائلات المتواضعة في إمكاناتِها المادية، ولكنها المليئةُ بالإيمان الصَّحيح الراسخ، المتشبعةُ بكلِّ المعاني التي ذكرناها، في حين رأينا ولمسنا وعِشنا حالاتٍ من التمزق والانقسام والاختلاف والشَّقاء والبؤس في أُسَرٍ وعائلات ذواتِ إمكاناتٍ وطاقات مادية لا يُعرف لها حدٌّ، ومع ذلك فإنها لم تَذُقْ طعمَ الحب والود والوِئام والوَفاء؛ وما ذلك إلا لأنَّ بُنيانها لم يكن منذ البداية على قواعد سليمة قويمة.

الزواج الناجح:

ومن واقعية الإسلام ومن واقعية هدي سيد الأنام عليه الصلاة والسلام أنَّ السعادةَ إما أن تكون شاملةً أو لا تكون، فاجتماع المال والجمال والنسب، وغياب الدِّين والأخلاق مؤدٍّ إلى فشل مشروع الزواج - لا محالة - لأنَّ المال يزول، والجمال يزول، والنَّسبَ نعمةٌ ونقمة "سلاح ذو حدين"، أمَّا الذي يعطي طعماً وقيمة إضافية باقية دائمة: إنما هو الأخلاق والدين؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : «تُنكح المرأةُ لمالها ولجمالها ولنسبها ولدينها، فاظفرْ بذات الدين تَرِبَتْ يداك»، وقال عليه الصلاة والسلام: «إذا جاءكم من تَرْضَوْن دينَه وأمانته، فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنةٌ وفساد كبير»، واعتبرَ الإسلامُ مِن يُمْنِ المرأة يُسر مهرها وبساطته، وقد حذَّر الإسلام الآباء والأمهات من مغبَّة متابعة الهوى والشهوة، والتسبب بالتعنت وحب المباهاة والتظاهر والتكاثر في شقاء بناتهم وعَضْلهن.

ورسم الإسلامُ للزوجين سبيلاً لتحقيق السعادة العاجلة والآجلة، يتمثل في وَضْعِ سُلَّمٍ للقيم والتفاضل رفيعِ المستوى، في مُستطاع من يطلبُه ويسعى في تحصيله يعينه الله عليه ويوفقه إليه، ففي خصوص الزوجة بشَّرها الله بما لم يبشرْ به أحداً غيرها حين قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ المرأة إذا صلَّتْ خَمْسَها، وصامتْ شهرَها، وحفظتْ نفسَها، وأطاعتْ زوجَها دخلت الجنة من أيِّ الأبواب شاءت»، كما قال عليه الصلاة والسلام مبينًا مواصفاتِ الزوجة الصالحة أنها هي التي: «إذا نظر إليها زوجُها سرتْه، وإذا أمرها أطاعتْه، وإذا غاب عنها حفظتْه في ماله ونفسها».

حقوق الزوجين:

ولقد طالب الإسلامُ الزوجَ بما طالب به الزوجةَ وأكثر، باعتبار مسؤولياته، وباعتبار إمكانياته، وباعتبار ما يترتب على اختياراته وتصرفاته من إيجابٍ وسلب.

فكلُّ المعاملات بين الزَّوْجين ينبغي أن تكون بمعروفٍ وإحسان، لا مجالَ فيها للغلظة والشدة والفظاظة؛ لأنَّ كلاًّ من الزوجين واجدٌ في الآخر ما يرضيه لا محالة، فلا ينسيه ما يكره كثيراً ممَّا يرضى ويوطِّد العلاقة، ولا بُدَّ من تنمية وتقوية هذا الذي يُرضي بكلِّ وسيلة وأسلوب لا يغضب الله سبحانه وتعالى والعائدُ إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد مَعيناً لا ينضب من الهَدْي الكفيلِ بجعل الحياة الزوجية تَتَوطَّدُ يوماً بعد يوم، ولا تتوطَّدُ العلاقات إلا بالوُدِّ والبِشْروالصبروالرفق واللين، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول: «خيرُكم خيرُكم لأهلِه، وأنا خيرُكم لأهلي»، ومن خَيْريتِه عليه الصلاة والسلام التي يراها البعض -غلطاً - بأنَّها لا تليق بقيمة الرَّجل: أنه عليه الصلاة والسلام كان يمازح زوجاتِه "ولا يقول إلا حقًّا"، ويُلاطفُهُنَّ ويؤاكلهنَّ ويسابقهنَّ، ويكون في البيت في إعانتهنَّ، فقد أخبرعليه الصلاة والسلام أنَّ الله يكتب الحسنةَ للمسلم باللقمة يضعُها في فمِ زوجتِه، وتقول كتبُ السِّيرة: إنَّه عليه الصلاة والسلام سابَق السيدةَ عائشةَ مرتين فسبقتْه وسبقها، فقال لها: «هذه بتلك»، وإنه عليه الصلاة والسلام كان يرقِّع ثوبَه، ويَخْصِفُ نعلَه، ويتناول حاجاتِه بنفسه، وإنَّه كان قرآنًا يمشي على الأرض، فما من خُلُقٍ رَضِيٍّ إلا وجسَّمَه، وما من خُلق رديءٍ إلا واجتنبه.

ولله دَرُّعبدالله بن عباسٍ رضي الله عنهما الذي خرج يقطر ماءً وطيباً وهو يقول معتذراً عن سبب تأخُّرِه في الخروج لمن طرق باب بيتِه: "إنهن يُحْبِبْنَ أنْ نتزينَ لهنَّ، كما نحبُّ أن يتزيَّنَّ لنا"، فقد فهم رضي الله عنه وهو الذي فقَّهَه الله في الدِّين وعلَّمه التأويل أنَّ الحقوق تقابلها واجباتٌ لا بد من أدائها، وتلك هي تعادُلِيَّةُ الإسلام في أجلى وأجمل صورِها، تجعل من الاختلاف بين الزوجين قَلَّما يقع، وإذا وقع فكثيراً ما يؤول إلى الصلح، والصلح دائماً خيرٌ، وصدق الله العظيم إذ يقول: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}[النساء:35].

صيانة الحق المشروع:

فدعواتُنا التي نوجهها إلى الأُسر والعائلات التي تقدم على تزويج أبنائها وبناتها هي أن تتوجَّه إلى هذا الهدي القويم؛ لتغترفَ من مَعِينه العذبِ الذي يروي كلَّ العِطاش، ودعوتُنا للأسروالعائلات وهي تبدي من مظاهرالفرحة والسروروالزينة، ألا تسرفَ ولا تبذِّر، وألا تبالغَ ولا تغالي، فكلُّ مبالغة ومغالاة عواقبُها في النهاية وخيمة، وعلى هذه الأسر والعائلات ألا تنسيها الفرحةُ والسروربالأبناء والبنات حدودَ الله وحقوقه سبحانه وتعالى فهو المنعم والمتكرِّم بالمال وبالبنين، هو المحاسِب في العاجل والآجل فيم وُجِّهَتْ إليه تلك النعمُ الإلهية، فإنه سبحانه وتعالى يغضب إذا انتُهِكَتْ حرماتُه، وإذا ما عُصِيَ بما أنعم به على عبادِه، وهو قادرإذا أراد أن يسلب في لحظة ما أنعم به وتكرَّم، وقادرعلى أن يجعل عاقبةَ ذلك نقمةً وعذاباً عاجلاً لا قدَّرالله.

كما أنَّ الأسر والعائلات المقْدِمة على الأفراح والمسرات مدعوةٌ ألا تتسبب بالمبالغة والإسراف اللامحدود واللامسؤول في المصائب لسواها، ممن يعيشون حوالَيْها ذات اليمين وذات الشمال من الجيران، الذين فيهم الصغير(الرَّضيع)، وفيهم المريض المصاب، وفيهم المتعب المنهك، وفيهم المُقْدِمُ على الامتحانات وأشق الأعمال وأدقها، وأنى لهؤلاء جميعاً أن ينعموا بلحظات ولو قليلة من النوم والراحة؟ وحلقات الأعراس يشدُّ بعضُها بعضاً لتتواصل طيلة الشهروالشهرين والثلاثة، جاعلةً من أفراح البعض مآسيَ للأكثرين من سكَّان الشارع والحي الواحد.

ومما زاد الطِّين بِلَّةً هذه المصادحُ المتطورة جدًّا والقوية والبعيدة الصدى والإبلاغ، فضلاً عن شبابية وفتوَّة المطربين والمطربات، ومن يُحاكيهم من هواة التهريج والضجيج، لا نريد مما نقول أن نمنع أحداً من الفرحة والسرور وإبداء ذلك وإعلانه، فليس من حقِّ أي كان ذلك، ففي دين محمد عليه الصلاة والسلام سعةٌ ومرح، ولكن الذي نريد أنْ نذكِّرَ به ونلح عليه هو صيانة الحق المشروع للغير من الأجوار في الأمن من بوائقنا وشرورنا، ما يُمكن أن يصدرَ عنا من منكرات القول والفعل تجاه أجوارنا، لقد أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجارخيراً، وألحَّ في ذلك وشدَّد، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا يزال جبريلُ يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورِّثُه»، وقال عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمن بي من لا يأمن جارُه بوائقَه»، وأخبرنا عليه الصلاة والسلام أنَّ أربعين داراً على اليمين جارٌ، وأنَّ أربعين داراً على الشمال جارٌ، وهكذا يتشابك سكانُ الحي والقرية والمدينة بشبكة علاقة جوار واجبة الاحترام والاعتبار.


محمد صلاح الدين
 

  • 1
  • 0
  • 4,554

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً