درس القناعة

منذ 2013-12-05

الفساد الذي ألم بالأمة اليوم ليس فساد سلوك يُجدي معه الترميم والإصلاح، بل هو فساد في المفاهيم ذاتها، وانحراف خطير يتخفى تحت قشرة التقاليد الخادعة! تندرج القناعة ضمن هذه القِيَم المتخلى عنها تحت ضغط اللهاث العالمي لإشباع الرغبات وتكديس المنتجات.

 

يجهد الخطاب الإسلامي المعاصر في الدعوة إلى استعادة وتثبيت قِيَم إسلامية أوشك وميضها أن يخبو بفعل نزعة مادية بغيضة. إلا أن هذا الجهد، ومهما حسنت نوايا القائمين عليه، تشوبه تعثرات عديدة تحد من تمثله على مستوى السلوك والممارسة، أو إدماجه في البناء التربوي للأسرة المسلمة.

ولعل أهم هذه العثرات ما ألمح إليه الأستاذ محمد قطب رحمه الله في كتابه "كيف ندعو الناس؟" بشأن الظرفية الخاصة التي تمرُّ بها الأمة الإسلامية اليوم، والتي تُلقي على كاهل الدعاة عِبءًا إضافياً يفرض تجديد الأساس.



فالفساد الذي ألم بالأمة اليوم ليس فساد سلوك يُجدي معه الترميم والإصلاح، بل هو فساد في المفاهيم ذاتها، وانحراف خطير يتخفى تحت قشرة التقاليد الخادعة! تندرج القناعة ضمن هذه القِيَم المتخلى عنها تحت ضغط اللهاث العالمي لإشباع الرغبات وتكديس المنتجات.

فالإنسان عموماً يتوق إلى نوع أرقى من المعيشة وحظ أوفر من الرفاهية، غير أنه اليوم وقع فريسة عادات استهلاكية موجهة، تتضافر قوى عديدة لتثبيتها وإكسابها بُعداً رمزياً يوحي بوثوق صلتها بالهوية والمكانة الاجتماعية.

ولم يعد الأمر وِقفاً على التلبية المفرطة للرغبات، بل انقاد الفرد طوعاً أو كرهاً للإنفاق التنافسي الذي يغذيه التفاخر والتباهي، والإيهام باختراق نادي الأثرياء! وضع كهذا يقود، برأي الباحثة الأمريكية "جوليت شور" إلى تنامي آفات اجتماعية خطيرة كارتفاع معدل جرائم السرقة والعنف، وشيوع مظاهر الاستياء والتشاؤم خصوصاً لدى أفراد الطبقة المتوسطة.

وإذا كانت الباحثة تَخلص إلى صعوبة التحكم في نزعة الاستهلاك الجبري لأسباب من بينها: تآكل القيود الدينية والأخلاقية على الاستهلاك، والجهد الكبير الذي يبذله دهاقنة الانتاج والإعلان والتسويق لجعل بيئة الإنفاق أكثر إغراء وجاذبية (روجر روزنبلات: ثقافة الاستهلاك، ط 1 القاهرة 2012م).

إلا أن في منظومة القِيَم الإسلامية ما يَسمح بهذا التحكم، ويُعيد المسلم المعاصر إلى جادةِ القناعة إذا ما تحقّق التمرير الفاعل للمفاهيم والسلوكيات البديلة.

يرسِم أبو حامد الغزالي رحمه الله في "الإحياء" خارطة طريق لترسيخ القناعة كأسلوب للحياة وتدبير المعاش. "فمن أراد عِزَّ القناعة برأيه لا بد له من خمسة أمور:

  • أولها: أن يُوطِّن نفسه وعياله على الإجمال في الطلب والاقتصاد في المعيشة، وأن يستحضر الرفق في الإنفاق كما يستحضره في بقية الأمور.
  • وثانيها: ألا يتطلَّع للمستقبل بخوف واضطراب إذا تيسّر له في الحال ما يكفيه، وهذا يعينه على قصر الأمل والتحقق بأن رزقه الذي قُدِّر له لا تجلبه شدة الحرص بل اليقين بوعد الله تعالى، ورد كيد الشيطان الذي يعده بالفقر ويحمله على بذل عمره في غير طاعة الله.
  • ثالثها: أن يُؤثِر عِزَّ النفس والاستغناء عن الخلق على شهوة البطن، ففي القناعة حرية تصونه من ذُلِّ الاحتياج للناس، وتُكسِبه قدرة على متابعة الحق دون خوف أو مداهنة.
  • أما رابعها: أن مما يُعينه على القناعة والرضى بقسمة المعاش أن يتأمَّل أحوال المتنعمين من اليهود والنصارى والحمقى ممن لا دين لهم؛ ثم ينظر في أحوال الأنبياء والأولياء ويُخيِّر عقله بين مشابهة الأراذل أو الاقتداء بأعزِّ أصناف الخلق.
  • وينهض خامسها على التحذير من مغبة الولاء للمال، وانشغال البال بالآفات التي تلحقه من سرقة ونهب وضياع؛ فالشيطان حريص على أن يصرف نظر المسلم في الدنيا إلى من فوقه، وفي الدين إلى من دونه حتى تتعلّق نفسه بالتنعُّم، وتفتر عن طلب الآخرة" (أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين؛ ج3، سماراغ أندونيسيا، د . ت).

وفي سياق حديثه عن العدالة الاقتصادية وتوزيع الثروة في الإسلام، يُضيف الشيخ البهي الخولي رحمه الله قاعدة سادسة تُوفِّر إلى جانب ما أورده الغزالي رحمه الله إطاراً تربوياً يُمكّن الداعية والمربِّي من تثبيت درس القناعة فهماً وممارسة وِفق صياغة تُلائِم روح العصر.

"إذ ينطلق من التأكيد على أن كلا من الفطرة والشرع أقرَّا بالحدِّ الوسط الذي يضبط النزعة الاستهلاكية للمسلم؛ فالفطرة السليمة تحمل صاحبها على الوقوف عند الكفاية الضرورية، أي الحدّ الذي يطلبه البدن بلا زيادة أو نقص، فما نقص عن تلك الكفاية فهو تفريط يُسلِم البدن للوهن والضعف، وما زاد عنها فهو إخلال بطبيعة الجسم الذي يطلب ما يحفظ توازنه، أما الشرع فيُعتبَر الحدِّ الوسط هو أقصى حدّ تحتفظ فيه الذات العليا بمقوماتها، فإذا جاوزه الإنسان جاوزه إلى الشهوات التي تعصِف بإنسانيته، فيتصرَّف في الأمور بتقويم شيطاني لا بتقويم إنساني" (البهي الخولي: الثروة في الإسلام، دار القلم ط4، الكويت 1982م).

وبهذا تُصبِح القناعة ثمرة لزوم الإنسان للحدِّ الوسط في علاقته بما يملك وما يُنفِق.

إن الواقع الاقتصادي المرعِب الذي نعيشه يدفع بالرغبات والنزوات لتُصبِح الموجِّه الأساسي لسلوك الإنسان في العصر الحديث، بل ويجعلها في الدرجة الأولى من سُلَّم القيم.



أمام وضعٍ كهذا نخشى بالفعل أن ينطبِق علينا توصيف إيريك فروم للإنسان المستهلك Homo Consumens، ذاك الإنسان الخامل، قليل القيمة، الذي يقاوم شعوره بالفراغ والقلق والإحباط بمزيدٍ من الاستهلاك والتبضُّع.

إن الأمة الإسلامية أحوج ما تكون اليوم إلى استعادة قِيمها الإيمانية العليا، والتصدي لمبررات الضآلة والانحلال التي تُغذي نزوع النفس البشرية لمغريات الهبوط.



ولن يتأتّى ذلك إلا من خلالِ صياغةٍ جادةٍ ومتكاملة لقوالب التهذيب الأخلاقي، وحفز متواصل على اقتحام العقبة! أولى أولى أولى.

 

حميد بن خيبش

كاتب إسلامي

  • 2
  • 3
  • 8,920

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً