أسرلة القدس بعد تهويدها

منذ 2014-01-30

إن الهجمة الشرسة التي تتعرّض لها القدس تتطلب موقفاً فلسطينياً وعربياً وإسلامياً بحجم التهديد الذي تتعرّض له المدينة المقدسة، لكن مع الأسف، فإن الصهاينة يعتقدون أن النظام الرسمي العربي لا يتعامل بجدية مع هذا الملف، لذا لا غرو أن تواصل «إسرائيل» عدوانها على القدس، لتنتقل من طور التهويد إلى طور الأسرلة.

 
 
 
يمكن القول إن الكيان الصهيوني يوشك على الانتهاء من مرحلة تهويد مدينة القدس لينتقل إلى مرحلة أسرلتها، بعد أن استكمل بناء المخططات الاستيطانية التي سجلت تفوقاً ديمغرافياً لليهود في أرجاء المدينة. وتتمثل «أسرلة» القدس في تدشين مشاريع تدلل على أن المدينة تمثل «عاصمة» لهذا الكيان. هذا في الوقت الذي لا تحرك فيه قيادة السلطة الفلسطينية عملياً أيَّ ساكن لمواجهة هذا العدوان، بل على العكس، فإن هذه القيادة تخرج عن طورها في طمأنة الكيان والإيحاء بأن ما يقوم به ضد القدس ومختلف الأراضي الفلسطينية المحتلة لا يستدعي الرد بشكل جاد. ليس هذا فحسب، بل إن قيادة هذه السلطة تمنح عمليات التهويد والأسرلة مظلة دولية، من خلال موافقتها على مواصلة التفاوض مع الكيان الصهيوني؛ فمواصلة السلطة التفاوض رغم تواصل مخططات التهويد تقلّص أي فرصة لاعتراض العالم على ما تقوم به «إسرائيل»، حيث إن العالم ليس بوسعه أن يكون ملكاً أكثر من الملك.

 
محور الإجماع الصهيوني: إن ما يعقّد الأمور ويضاعف من حجم جريمة مفاوضي السلطة، حقيقة إدراكهم أن تهويد القدس يمثل إحدى ركائز الإجماع الصهيوني، فجميع الأحزاب الصهيونية تطالب بالإبقاء على القدس الغربية والشرقية التي احتلت عام 1967 كعاصمة للكيان الصهيوني. ومن نافلة القول أن جميع الأحزاب التي تشارك في الحكومة الإسرائيلية الحالية ترفض إبداء أي مرونة تجاه مستقبل القدس، وضمن هذه الأحزاب حزب «ييش عتيد»، الذي يعد المدافع عن العلمانية في «إسرائيل». بل إن زعيم حزب «ييش عتيد» ووزير المالية الصهيوني يئير لبيد، يزاود على الأحزاب الدينية في كل ما يتعلق بالقدس، ويعتبر أن الاحتفاظ بالمدينة تحت الحكم الصهيوني هو من متطلبات احترام تراث «أنبياء وملوك إسرائيل»، كما يزعم. وبالطبع لم تكتفِ الأحزاب الصهيونية بمجرد التعبير عن «حق» اليهود المزعوم في القدس، بل إن هذه الأحزاب أصبحت في سباق مع الزمن لتوظيف ثقلها السياسي من أجل تمرير مزيد من القوانين التي تسدل الستار على أي تسوية سياسية للصراع. فقبل عام بادرت أحزاب الائتلاف الحاكم إلى سنّ قانون ينص على أن أي تسوية بشأن القدس يجب أن تحظى بدعم ثلثي أعضاء البرلمان «الكنيست»، ولما كان اليمين يسيطر على أكثر من 75 ٪ من المقاعد، فإن هذا يعني أن أي تسوية سياسية للصراع لن يكتب لها النجاح؛ لأنها ستسقط في اختبار التصويت في البرلمان. وفي ذات السياق، سنّ الكنيست عدة قوانين لتشجيع اليهود على القدوم للإقامة في المدينة.

 
غضّ الطرف عن مشاريع التهويد: لقد بدأت إسرائيل عملية تهويد المدينة المقدسة منذ أن احتلت الشطر الشرقي من المدينة في أعقاب حرب 1967، حيث أقدمت الحكومة الصهيونية في 18 - 6 - 1968 على ضم القدس الشرقية واعتبارها جزءاً من عاصمتها «الأبدية والموحدة»، كما ورد في إعلان حكومة ليفي أشكول في ذلك الوقت. وحتى نعرف حجم وعمق عملية التهويد التي تعرّضت لها المدينة منذ 1967 حتى الآن، فإن من الأهمية الإشارة إلى أن القدس كانت تمثل عام 1967 أقل من 3 ٪ من الضفة الغربية، أما الآن فإنها باتت تمثل أكثر من 17 ٪؛ بسبب الحجم الهائل للمشاريع الاستيطانية التي هدفت إلى تهويد المدينة بشكل كامل. لقد اتّبعت «إسرائيل» تكتيكاً واضحاً في عملية التهويد، حيث قامت أولاً ببناء مستوطنات في محيط المدينة، ثم قامت بربط هذه المستوطنات بمركز المدينة عبر بناء أحياء استيطانية كبيرة، ما ضاعف من مساحة المدينة عدة مرات، وقد تحوّلت الأحياء عملياً إلى مدن، مثل: جيلو ورموت أشكول وشمؤوئيل هنبي، وبسجات زئيف. وقد تعاظمت مساحة المستوطنات التي أقيمت على المحيط، حتى أصبحت إحدى هذه المستوطنات، وهي «معاليه أدوميم»، أكبر مستوطنة في الضفة الغربية. ومما يدلل على أن تهويد المدينة يمثل إجماعاً صهيونياً، هو حقيقة أن الحكومات التي تولت عمليات التهويد في البداية هي حكومات حزب العمل، الذي يدَّعي حالياً أنه يمثل «معسكر السلام الإسرائيلي». إن ما بات يعد أسطورة في الكيان الصهيوني هو توثيق لحظة اقتحام الجيش الصهيوني أسوار المسجد الأقصى عام 1967، عندما صرخ قائد لواء المظليين مردخاي غور، الذي تولى عملية احتلال البلدة القديمة من القدس، قائلاً: «جبل الهيكل بات في يدنا»، على الرغم من أن مردخاي علماني، وأصبح فيما بعد من قادة حزب العمل، قبل أن ينتحر بعدما تبيَّن له إصابته بمرض السرطان.

 
وقد أكملت حكومات الليكود التي تعاقبت على حكم الكيان الصهيوني منذ عام 1977، مشاريع التهويد عبر المبادرة لبناء مزيد من المشاريع الاستيطانية، والتي وصلت ذروتها عام 1996 عندما أعلن وزير البنى التحتية الصهيوني في ذلك الوقت أرئيل شارون، عن خطة «القدس الكبرى»، والهادفة إلى رفع عدد اليهود في المدينة إلى مليون يهودي. وقد نصت الخطة على تقديم إغراءات اقتصادية ومالية وتوفير بيئة اجتماعية وأمنية جاذبة للمستوطنين، لا سيما المهاجرين الجدد؛ لإقناعهم بالقدوم للإقامة في القدس تحديداً. وقد أعلنت الحكومات الصهيونية قائمة من الإغراءات المالية في محاولة لجذب المهاجرين، منها: قروض إسكان ميسرة جداً، إعفاءات ضريبية كبيرة، وتوفير فرص عمل ذات شروط ممتازة.
 
المفارقة أن السلطة تتجاهل هذا الواقع وتكتفي بدفع ضريبة كلامية فارغة من أي مضمون في التعقيب على إعلانات الحكومة الصهيونية تدشين مزيد من المشاريع.

 
الرهان على دور المتديّنين المتزمّتين: والمفارقة أنه على الرغم من الإغراءات التي تقدمها الحكومات الصهيونية، إلا أن العلمانيين أحجموا عن القدوم للاستقرار في القدس، في حين استغل الفرصة المتديّنون من أتباع التيارات الحريدية المتزمتة، فهؤلاء لا يميلون للعمل، وهم يحتاجون للظروف الميسرة التي تقدمها الحكومة لمن يرغب في الاستقرار بالقدس المحتلة. ومما زاد من خطورة ظاهرة توجّه أتباع التيار الحريدي للإقامة في القدس، حقيقة أن متوسط عدد الولادات للمرأة المتدينة الحريدية هو ثماني ولادات، ما يعني أن هؤلاء أسهموا في تعزيز الثقل الديمغرافي لليهود في القدس بشكل كبير وظاهر للعيان. ومما أسهم في تكريس هذه الظاهرة حقيقة مشاركة الأحزاب الحريدية، لا سيما حركة «شاس» و«يهدوت هتوراة» في الائتلافات الحاكمة، حيث وظّفت هذه الأحزاب ثقلها السياسي في تقديم الدعم لهؤلاء لتمكينهم من تثبيت أركانهم في المدينة المقدسة.

 
خطورة «E1»: إن أخطر مشاريع التهويد التي تعكف عليها الحكومة الصهيونية للقدس على الإطلاق، هو مشروع «E1»، وهو مشروع كبير ومتعدد الأهداف، وذو طابع استراتيجي. فهذا المشروع يهدف إلى ربط مستوطنة «معاليه أدوميم» التي تقع في شمال شرق المدينة بالقدس، حيث يهدف المخطط إلى إغلاق الفضاء الذي يفصل القدس عن المستوطنة. إن خطورة هذا المشروع لا تكمن فقط في أنه معدّ لاستيعاب عشرات الآلاف من الصهاينة الجدد، بل لأن إنجازه يعني إسدال الستار على أي فرصة لإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية في المستقبل.. لماذا؟ لأن الشارع الذي يربط حالياً بين شمال الضفة الغربية وجنوبها يمر في الفضاء الذي يفصل القدس عن «معاليه أدوميم»، وفي حال أنجز هذا المشروع، فإنه سيتم إغلاق الشارع، ما يعني عملياً فصل شمال الضفة الغربية عن جنوبها، ما يعني أن أي دولة فلسطينية ستقام في المستقبل لن تكون ذات وحدة جغرافية متصلة، أي أن «إسرائيل» ستفصل بين أجزاء هذه الدولة. وقد تم تصميم هذا المشروع تحديداً لتحقيق هذا الهدف.

 
تدمير الأقصى: إن ما يثير المخاوف بشأن القدس هو حقيقة وجود تنظيمات يهودية تعلن بشكل صريح وواضح سعيها لتدمير المسجد الأقصى وبناء الهيكل على أنقاضه، حيث تسير هذه التنظيمات في مخطط متدرج من أجل تحقيق هذا الهدف. ويعتبر تأمين حق الصلاة لليهود في المسجد الأقصى الخطوة الأولى التي ترصدها هذه الجماعات لتحقيق هدفها النهائي بتدشين الهيكل المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى. ويعتبر الحاخام يسرائيل أرئيلي المرجعية الدينية الأبرز لهذه التنظيمات، ويرأس معهد «الهيكل»، ويعد المرجعية الروحية لكل الجماعات اليهودية التي تسعى إلى تدمير المسجد الأقصى. وضمن الجماعات التي تسعى إلى تدمير المسجد الأقصى، إضافة إلى «معهد الهيكل»: «الحركة لتدشين الهيكل»، و«أمناء جبل الهيكل»، و«نساء من أجل الهيكل». ويعكف «معهد الهيكل» على إجراءات عملية تناسب فترة ما بعد تدمير المسجد الأقصى وبناء الهيكل، مثل: إعداد كهنة للهيكل، والانشغال في تجهيز ملابس لهم، ليس فهذا فحسب، بل إنهم يخططون لإرسال وفد إلى إيطاليا لمطالبة الحكومة الإيطالية بإعادة «مقتنيات الهيكل» التي صادرها الحاكم الروماني تيتوس، عندما قام بتدمير الهيكل الثاني عام 135م. وعلى الرغم من أن الكثير من المرجعيات الدينية اليهودية قد «أفتت» بجواز صلاة اليهود في المسجد الأقصى، إلا أن الجماعات المطالبة بتدشين الهيكل على أنقاض «الأقصى» تطالب الحاخام الأكبر للكيان الصهيوني بإصدار فتوى رسمية تكون ملزمة لحكومة «إسرائيل» بتسهيل إجراءات الصلاة في المسجد الأقصى، وهو ما ترفضه الحكومة حتى الآن؛ خشية ردة فعل قاسية من قبل الفلسطينيين. وقد قررت الجماعات المنادية بتدمير المسجد الأقصى مؤخراً العمل على تنظيم مسيرات ضخمة من اليهود للتوجه للمسجد الأقصى من أجل استنزاف السلطات الصهيونية وإجبارها على التعامل مع صلاة اليهود في المسجد على أساس أنها أمر شرعي، تمهيداً لتهيئة الأجواء.

 
طرد المقدسيين: أدركت الحكومات الصهيونية أن تهويد القدس يتطلب أيضاً التخلص من أكبر نسبة من الفلسطينيين الذين يقطنون المدينة. وقد أقدمت الحكومات الصهيونية المتعاقبة على سياسة واضحة المعالم لضمان طرد أكبر عدد من المقدسيين من المدينة عبر عدم منح تراخيص بناء لهم، وعندما يقوم أحدهم بالبناء دون الحصول على ترخيص، يتم تدمير منزله على الفور، في حين أن اليهودي الذي يبني بيتاً دون ترخيص، فإن بلدية الاحتلال تقوم بتسوية ملفه بشكل فوري. وفي الوقت ذاته تقوم بلدية الاحتلال في المدينة بفرض ضرائب باهظة، لا سيما ضريبة «الأرنونا»، التي أثقلت كاهل المقدسيين، في ظل تراجع أوضاعهم الاقتصادية، حيث إنهم لا يجدون فرص عمل. وفي الوقت ذاته، حرصت الحكومة الصهيونية على تقليص مستوى الخدمات المقدمة للمقدسيين، حيث تم التعاطي مع قطاعي الصحة والتعليم بشكل تمييزي، فأوضاع هذين القطاعين بائسة تماماً، حيث يرفض الكيان الصهيوني الاعتناء بالجانب الخدماتي، في مسعى واضح لإجبارهم على المغادرة. وإن كان هذا لا يكفي، فإن إسرائيل تقوم أيضاً بالسيطرة على أملاك المقدسيين عبر عمليات احتيال تتمثل في تزوير عقود بيع منازل وعقارات وتقديمها للمحكمة على اعتبار أنها وثائق رسمية.

 
ارتياح للدعم الأمريكي: إن أحد مصادر الدعم السياسي لتهويد القدس يتمثل في موقف كل من الإدارة والحلبة الحزبية الأمريكية. ولعل أحد مصادر الدعم الأمريكي لتهويد المدينة المقدسة هو إعلان مرشحي الحزبين الديمقراطي والجمهوري لانتخابات الرئاسة الأمريكية، الالتزام بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، في إشارة إلى الاعتراف بالقدس كعاصمة لـ «إسرائيل». صحيح أن الرؤساء الأمريكيين لم يفوا بهذا الالتزام عند توليهم مقاليد الحكم، إلا أن هذا لا يقلل من خطورة تداعيات المواقف الرسمية الأمريكية. ويتمثل الموقف الرسمي الأمريكي المساند لتهويد القدس، في حقيقة أن إدارة الرئيس باراك أوباما أعلنت بشكل واضح وصريح أن قيام «إسرائيل» بتدشين مشاريع الاستيطان في أرجاء مدينة القدس المحتلة، لا يعد أمراً يستدعي من سلطة عباس وقف التفاوض بين الكيان الصهيوني والسلطة الفلسطينية، أي أن الموقف الأمريكي يوفر غطاء لتواصل التهويد والاستيطان. ليس هذا فحسب، بل إن الولايات المتحدة أسهمت كثيراً في تعزيز الموقف الصهيوني من القدس من خلال رسالة الضمانات التي بعث بها الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش إلى رئيس وزراء إسرائيل الأسبق أرئيل شارون، والتي تضمنت إقراراً أمريكياً واضحاً بحق إسرائيل في البناء بالقدس. وفي ذات السياق، فإن الولايات المتحدة تشجع المنظمات اليهودية ورجال الأعمال اليهود على دعم المشاريع التهويدية في المدينة، من خلال إعفاء الأموال التي يقومون بإرسالها من الضرائب.

 
إن الهجمة الشرسة التي تتعرّض لها القدس تتطلب موقفاً فلسطينياً وعربياً وإسلامياً بحجم التهديد الذي تتعرّض له المدينة المقدسة، لكن مع الأسف، فإن الصهاينة يعتقدون أن النظام الرسمي العربي لا يتعامل بجدية مع هذا الملف، لذا لا غرو أن تواصل «إسرائيل» عدوانها على القدس، لتنتقل من طور التهويد إلى طور الأسرلة.
 
 
صالح النعامي 
 
:: مجلة البيان العدد 319 ربيع الأول 1435هـ، يناير 2014م.
 
:: البيان تنشر ملف خاص بعنوان (قضية فلسطين .. والصراع على القدس).

 
المصدر: مجلة البيان
  • 2
  • 0
  • 6,558

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً