{إِنَّ رَ‌بِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ}

منذ 2014-02-13

إن الله تعالى يحب أن يرى من عباده الثقة به، والتوكل عليه وحسن الظن به، وإن ضعفت الأسباب التي آتاها لهم.

 

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وبعد:

فإن من أعظم العبادات التي تعبُّدنا بها الله سبحانه التعبُّد بأسمائه الحسنى وصفاته العلى؛ قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف من الآية:180].



"فالتعبُّد لله بها هو جنة الدنيا" كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.



وتشتد الحاجة لهذة العبادة في أوقات الشدة وفي أوقات الضيق، وفي أوقات علو الباطل وشدة الظلم ووحشة الطريق، فيتلمس بها الإنسان نورًا لطريقه، وثباتًا لقلبه، وقوة في مواجهة الباطل وأهله، حين يرى للكون ملكًا واحدًا قديرًا مدبِّرًا عليمًا حكيمًا لطيفًا خبيرًا رؤوفًا رحيما.

فتدبُّر أسماء الله وصفاته وأفعاله في الكون؛ يُخرِج الإنسان من حالة اليأس والقنوط والإحباط، حين يرى ضعف الأسباب في مواجهة تكالب الأعداء وشدة مكرهم، لأنه يعلم أنه يخوض معركة يؤيده فيها من لا يُغلب ولا يعجزه شيء.



فكلما رأى ضعفه وقوة عدوه؛ تذكر قول موسى عليه السلام حين قال أصحابه: {إِنَّا لَمُدْرَ‌كُونَ} [الشعراء من الآية:61]، فقال: {كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَ‌بِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء من الآية:62].

إن الله تعالى يحب أن يرى من عباده الثقة به، والتوكل عليه وحسن الظن به، وإن ضعفت الأسباب التي آتاها لهم.



لقد كان صلى الله عليه وسلم في الغار والأعداء على بابه وهو يقول لصاحبه {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة من الآية:40]، ولنا فيه أسوةٌ صلى الله عليه وسلم.

فالعبد المؤمن يسير متوكلًا على ربه، وإن خفيت عليه حكمة الله، فهو يثق فى علم الله وتدبيره، ولذلك قال يوسف عليه السلام {إِنَّ رَ‌بِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف من الآية:100].



قالها حين انكشفت الغيوب عن التمكين ليوسف عليه السلام والتحقق لرؤيته التي جعلها الله حقًا بعد سنوات طويلة من الابتلاءات المتتالية: بِدءًا بأخذه من حضن أبيه وإلقائه فى الجب وحيدًا مُعرَّضًا للهلاك، ومرورًا ببيعه رقيقًا -وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم- واشتدادًا للمحنة باختباره في قوة دينه بتعرُّض امرأة العزيز له، وهو الشاب القوى الجميل الغريب عن بلاده، ثم اشتداد هذه المحنة أكثر برغبة النسوة من الملأ كلهن فيه! ثم تعرُّضِه للسجن مفضلًا له على شهوة ميسرة تغضب ربه.

فدخل السجن مُفضّلًا له على معصية الله وشاكرًا لأنعمه {رَ‌بِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف من الآية:33].



ثم تبدأ سلسلة من الانفراجات في المشهد بخروجه من السجن مبرءًا وتمكينه على خزائن الأرض، ومجيء إخوته اليه محتاجين أولًا، ثم راغبين تائبين نادمين، ثم اجتماعه مع أبويه وإخوته بعدما رد الله بصر أبيه وجمع له أهله وأظهر أمره، وهو يرى إحسان الله تعالى به {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَ‌جَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف من الآية:100]، ويتعجب من لطفه وتدبيره لأمر ما كان له أن يثمر هذة النتائج بغير تدبير الله! {إِنَّ رَ‌بِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ}. فيثني على ربه بما عاش متعبِّدًا له به {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.

نعم؛ لقد ربى يعقوب عليه السلام يوسف على أمر نفعه في هذه المِحن: وهو تدبُّر أسماء الله وصفاته وشهود أفعاله ونسبها إلى العلم والحكمة، ولو كانت الأحداث فى ظاهرها ما يسوءه {وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَ‌بُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَ‌اهِيمَ وَإِسْحَاقَ} [يوسف من الآية:6].

إنها تربية الأنبياء! فيعقوب عليه السلام لم يُعلِّق قلب يوسف به، وهو الأب الحنون الحريص، بل علَّقه بمن هو أرحم وأكثر شفقةً وحنانًا وأقدر على حفظه {فَاللَّهُ خَيْرٌ‌ حَافِظًا ۖ وَهُوَ أَرْ‌حَمُ الرَّ‌احِمِينَ} [يوسف: من الآية 64]، حتى إذا تعرض يوسف للمِحن، كان مؤهلًا أن يكل أمره إلى ربه واثقًا به، متوكلًا عليه سبحانه، فكان ذلك أعظم ما أُعطي يوسف عليه السلام، فينشأ لا يرى فى كل مِحنة إلا علم الله وحكمته.

عرضت له امرأة العزيز، فتوجه إلى ربه {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف من الآية:23]. عرضت له النسوة، فتوجه إلى ربه {وَإِلَّا تَصْرِ‌فْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف من الآية:33]. سُئل عن الرؤيا فى السجن، فتوجه إلى الله {ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَ‌بِّي} [يوسف من الآية:37]، ولم يقل علمني أبي، مع أن أباه هو من باشر بذلك! لم يقل يوسف في لحظة واحدة لم وكيف؟ وإنما تعلَّق بربه واثقًا بحكمته وقدرته وعِلمه ورحمته، حتى إذا انكشفت الغيوب عن عظيم تدبير الله له، جعل يثنى على ربه متعبِّدًا له باسمه اللطيف، مقترنًا بذكر المشيئة {إِنَّ رَ‌بِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ} ومقترِنًا بالعلم والحكمة {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.

إن من أعظم ما يعصم الإنسان من الفتن ومن الزلل، ويحصنه من اليأس والقنوط أن يكون عالِمًا بربه، واثقًا به، مشاهِدًا لتدبيره فى الكون، كما قال الخليل عليه السلام {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّ‌حْمَةِ رَ‌بِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر من الآية:56]، وكما قال الحبيب صلى الله عليه وسلم في موقف لا يظهر فيه وجه المصلحة حين سأله عمر رضي الله عنه: "ألسنا على الحق وهم على الباطل، فلِمَ نعط الدنية في ديننا؟" فيقول: «يا ابنَ الخطَّابِ؛ إنِّي رسولُ اللهِ، ولن يُضَيِّعَني اللهُ أبدًا» (جزءٌ من حديثٍ رواه البخاري).



فأي قوة في الأرض لن تهزم صاحب عقيدة علَّق أمره بربّ السماء الملك، الحق، القوي، المقتدر، العليم، الحكيم، اللطيف، الخبير، الرؤوف، الرحيم.



إن القرآن العظيم ليلفت الأنظار في لطف إلى لطف الله بعباده وإحسانه {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى من الآية:19].



واللطف إحسان في خفاء، فالله يحسن لعباده ويدبر أمرهم، وهو حي لا يموت، قيوم لا ينام، يحسن إليهم وهم لا يشعرون، مع أن ذلك يتحقق منه في كل لحظة وكل موقف.

انظر إلى تدبيره أمر عباده وحفظه لهم من مكر لا يعلمون عنه شيئًا، ولا يملكون له دفعاً. فهذا مكر أعدائهم يصفه لهم ربهم {وَقَدْ مَكَرُ‌وا مَكْرَ‌هُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُ‌هُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُ‌هُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم من الآية:46]، ذلك المكر الشديد الخفي يعلمه الله، ويدفع أضراره ويجعل عاقبته على من مكره {لَا يَحِيقُ الْمَكْرُ‌ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر من الآية:43].



فأعداؤك يمكرون بك بما لا تعلمه وعندهم من الأسباب ما لا تملكه، فكيف تدفع مكرًا لا تعلمه ولا تملك ردَّه إن علمته؟!



فيأتيك من الله لطف وحفظ وتدبير يدفع عنك كيدًا لم تكن تعلمه، ولا تملك له ردًا إن علمته {إِنَّ رَ‌بِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ}. والله تعالى يفعل ذلك بحكمته هو، وتحت مشيئته هو، وبالطريقة التي يختارها سبحانه وتعالى، والزمان والمكان لا باختيارك أنت أو اختيار غيرك {وَرَ‌بُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ‌ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَ‌ةُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِ‌كُونَ . وَرَ‌بُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُ‌هُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ . وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ۖ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ وَالْآخِرَ‌ةِ ۖ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْ‌جَعُونَ} [القصص:68-70].

قد يود الإنسان تمكينًا سريعًا وعُلوًا لأمر دينه، ويا لها من غاية ما أعظمها! ولكن الله العليم الحكيم بتدبيره، يعد عباده بذلك ويختار هو سبحانه وتعالى كيفية ذلك وزمانه ومكانه {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ‌ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِ‌يدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ‌ الْكَافِرِ‌ينَ} [الأنفال:7].



والعبد قد يريد النصر سهلًا وسريعًا، والله يريد بحكمته في تأخير ذلك أحيانًا من الخير العظيم. فكلما طال الطريق، وبعُدَت الشقة واشتد الأمر، خرج من الطريق كل مخادع وكل مثبط {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَ‌ضٌ غَرَّ‌ هَـٰؤُلَاءِ دِينُهُمْ ۗ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:49].

والله تعالى يحب أن يرى من عباده تفويض الأمر إِليه، مع بذل الوسع، فهم يردُّون الأمر إِلى علم الله الذى يعلم ولا يعلمون، ولو أصابهم مع ذلك ما يكرهون {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَ‌هُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ‌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ‌ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة من الآية:216].



والإنسان ضعيف بطبعه، لا يقوى على الاستمرار في السير فى طريق وعر مليء بالمشقة والعقبات، لا يقوى على ذلك إلا بطلب المدد والقوة والعون ممن يملك أن يُذلِّل له الصعاب، وأن يثبت قلبه على الحق وقدمه على الطريق، وإن ضعف أو أوشك على الترك، تداركته رحمة الله تعالى {إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا ۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:122].



فسبحان الله وبحمده! همُّوا بالفشل فلم يبادرهم بالعقوبة، بل تولَّاهم وردَّهم الى الطريق، فنعم المولى ونعم الوكيل!

فتوكل على ربك، وإن ضاقت عليك الأرض بما رحبت وضاقت عليك نفسك، فالإنسان إن صعب عليه الأمر وضاقت عليه الأرض، فتدبَّر أسماء ربه وجميل صفاته، أتاه من الله لطف ورحمة لا يجدها عند غيره! {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْ‌ضُ بِمَا رَ‌حُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّ‌حِيمُ} [التوبة:118].

إن أعمار الخلق جميعًا لتفنى، ولا يحصى أحد عظيم فضل الله {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل من الآية:18].



لكن السعيد من عاش مع ربه، وتعلَّق قلبه به: فهذا الذي يجد الصعاب مقرونةً بلذة القرب، ويجد البلاء مقرونًا بلذة الأجر، ويجد الضيق مقرونًا باللطف والتدبير وانتظار الفرج.

فيا أيها المحبط! كيف تحبط وربك الله؟! فتوكل على الحي الذي لا يموت، وسبح بحمده وكفى به!

اللهم ارزقنا حسن الظن بك، وصِدق التوكل عليك.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

 

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 78
  • 2
  • 197,015

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً