أجراس الخطر .. شُلَّتْ يمينك
أجراس الخطر باتت تقرع آذاننا كل يومٍ، وتعليمنا يستصرخ ولا من غيور يُقَوِّمُ اعوجاجه، لكن ما يثير الانتباه في الآونة الأخيرة هو تفاقم ظاهرة الاعتداء على المدرسين سواء من قِبل التلاميذ أو أولياء الأمور، بل وحتى من قِبل الأطر الإدارية التي يفترض فيها امتلاك ما يلزم من الثوابت التربوية. وهذا أمر ينبغي أن يستنهض كل غيورٍ ويوقظ كل وسْنانٍ فلا يقعد حتى تعود الأمور إلى نصابها.
- التصنيفات: التربية والأسرة المسلمة -
أجراس الخطر باتت تقرع آذاننا كل يومٍ، وتعليمنا يستصرخ ولا من غيور يُقَوِّمُ اعوجاجه، لكن ما يثير الانتباه في الآونة الأخيرة هو تفاقم ظاهرة الاعتداء على المدرسين سواء من قِبل التلاميذ أو أولياء الأمور، بل وحتى من قِبل الأطر الإدارية التي يفترض فيها امتلاك ما يلزم من الثوابت التربوية. وهذا أمر ينبغي أن يستنهض كل غيورٍ ويوقظ كل وسْنانٍ فلا يقعد حتى تعود الأمور إلى نصابها، أذكر حين ذهبت لتسلم أوراق تعييني، سألني المسؤول يومها سؤالاً فأجبت بصوت خافتٍ، فقال لي موجهاً ومعاتباً عتاباً لطيفاً:
"ارفعي صوتك.. فلا صوت يجب أن يعلو فوق صوت الأستاذ.. لا صوت المدير ولا صوت النائب ولا أي إطار". شعرتُ بالفخر يومها؛ لأن هناك من يقدر هذا الكائن ويعترف بسمو مقامه وزادت غبطتي بعملي الجديد.
لكن الأيام الموالية أثبتت لي أن ذاك الرجل لم يكن إلا استثناءً، فلم أجد وأنا أبصر حولي أن للمدرس ذاك القدر السامي في قطاع التعليم، ألفَيْتُه ذاك الخادم المطيع الذي لا يملك سوى تنفيذ الأوامر الموكولة إليه وإن كانت مجانبة للصواب أو تتنافى مع الرقي بهذا القطاع. ألفيت كل الأصوات تعلو على صوت المدرس، وكل القرارات تُتَّخَذُ دون استشارته، بل حتى في التمثيلية السمجة التي يسمونها (مداولات) لا قيمة لكلامه، ولا اعتبار لتقييمه، طالما أن اليد العليا للخريطة المدرسية.
كم كنا بُلداء حين كنا نعتقد أن الأستاذ هو الذي بيده قرار الانتقال أو الرسوب، وكم كنا حمقى ونحن نظن أن المداولات هي محكمة مصغرة تناقش الملفات الخاصة بالتلاميذ، فتسمح بمرور من يستحق، وتقضي بإقصاء من لا يستحق، الآن فقط بل ومن مدة طويلة صرت ألتمس الأعذار للأساتذة الذين يتغيبون عنها ويكتفون بوضع ملاحظة عامة عبثية لمستوى معدلات القسم، فما جدوى الحضور والإدلاء برأيك إن كان المعدل المحكوم بالخريطة المدرسية هو سيد الموقف.. أي وزن بقي للمدرس بعد أن جردته الوزارة من كل الامتيازات، وأي قيمة له بعدما صارت وسائل الإعلام تتفنن في تقزيمه، ولمَ بعد كل هذا نستغرب تفشي ظاهرة الاعتداء على المدرسين؟
صحيح الظاهرة لها أسباب عديدة وللمدرس أيضا يدٌ فيها، لكن الشرارة أكيد أوقدها المسؤولون عن القطاع، وزكتها عوامل أخرى منها ضعف شخصية المدرس وعدم نضجه الفكري والعلمي، فالكثير منا تنحصر قراءاتهم بمجرد حصولهم على الوظيفة. إضافة إلى العامل الأسري الذي يُفرِّخ نماذج سيئة السلوك طالما نشأت في بيئات تفتقد للقدوة والمثل الأعلى.
وفي اعتقادي البسيط الخروج من هذه المعضلة يتطلب قرارات شجاعة من الدولة، مع تظافر جهود كل القوى ذات التأثير المباشر في المجتمع: ماذا لو صدر مرسوم أو ظهير شريف يُجرِّم الاعتداء اللفظي أو الجسدي على المدرس، هل سيجرؤ أحد على مس كرامته؟ وكلنا نعلم المثل الشعبي (المغاربة كمونيين). ماذا لو تم إجبار كل المدارس بدون استثناء على توفير مجالس استماع ومراقبة تفعليها، ألن نقلل من حجم الضغوط على التلميذ المشاغب الذي يكون سبباً في هذه الاعتداءات؟
ماذا لو تم تعيين أخصائي نفسي واجتماعي بكل المؤسسات التعليمية، ألن يفك هذا طوق الخناق عن الكثير من التلاميذ ضحايا الظروف الاجتماعية المزرية؟ ماذا لو كنَّا أكثر صرامة في اختيار الأطر التربوية فلا نكِل وظيفة التدريس لمن هبَّ ودب، بل نمنحها لمن تتوفر فيهم الكفاءات التربوية والتعليمية التي تضمن تنشئة جيل قادر على تحمل أمانة التسيير، ماذا لو حاولتَ أخي المدرس استيعاب تلميذك وعدم استفزازه بوسائل قمعية، فبعض النزاعات التي تقع بالمؤسسات يكون فعل المدرس أحد أسباب اشتعالها، ماذا لو أضفت أخي المدرس جرعات أكبر من حبك وعطفك على هؤلاء التلاميذ، فالحب دواء شافٍ لكل داء، وكم تلميذاً استعصى على الكثير ضبطه لكنه حين وجد الحب والحنان، خفض الجناح وأذعن دون قيد أو شرط، ماذا لو كثفت وسائل الإعلام من برامجها لتعرف المجتمع المدني بتلك الطاقات الجميلة والمبدعة التي تسهر على أداء مهنتها بحب وتفانٍ، وتحاول محو تلك الصورة السيئة التي انطبعت في الذاكرة عن المدرس والتي كان الإعلام أحد أسبابها، ماذا لو أعدنا لمادة التربية الإسلامية قيمتها التربوية والدينية، فنجعلها أم المواد الدراسية، فساعة واحدة أو ساعتين لا تكفيان لغرس بذور القيم الإسلامية الكفيلة بتصحيح العلاقة بين المدرس والتلميذ.
تلاميذنا يعانون فقراً دينياً وتربوياً، وفي نظري تغيير التعامل مع هذه المادة سيأتي بنتيجة طيبة شريطة أن يُسند تدريسها لأهلها، ماذا لو رَدَّدْنا مراراً على مسامع طلابنا تلك النماذج الراقية لسلفنا الصالح في تعاملهم مع شيوخهم وأساتذتهم، وأخبرناهم بذاك الجو الجميل الذي كان يسود مجالس العلم، وكيف كان المعلم مبجلاً بين تلاميذه، يتهافت الصبيان على تقبيل يده احتراماً وتقديراً، ويتنافسون لنيل الحظوة عنده. بل كان كلامهم همسا في حضرته، ينصتون بتأنٍ وكأن على رؤوسهم الطير، ولننظر روعة أدب الإمام الشافعي وهو يقول: "لا أستطيع أن أقلب الورق بصوت مرتفع بين يدي أستاذي كي لا أزعجه، ولا أستطيع أن أشرب الماء أمام أستاذي إجلالا له"، وأدب الضحاك وهو يقول: "ما استخرجت هذا العلم من العلماء إلا بالرفق بهم"، وكيف كان الصحابي الجليل ابن عباس يذهب لزيد بن ثابت ويجلس عند بابه احتراماً له وتوقيراً ولا يطرق عليه الباب حتى يخرج، فإذا خرج أمسك بذلول ناقته أو راكبه فيقول ثابت: "يا ابن عم رسول الله، هلاَّ أمرتني فآتيك؟" فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا". ماذا لو جعلنا نصب أعيننا جميعا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لم يوقر كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه» (رواه الترمذي).
لطيفة أسير