الفرار - الفرار (3)

منذ 2014-03-10

سأفرُّ إلى ربِّي مهما كانت الصعاب، ومهما برقت في سماء الأماني الغالية شهواتُ الدنيا الفانية، وسأقهر شياطين الإغراء؛ فأنا صوب الهدف السامي أسير، ولن أكون أبدًا للدنيا وفتنتها أسيرًا

"سأفرُّ إلى ربِّي مهما كانت الصعاب، ومهما برقت في سماء الأماني الغالية شهواتُ الدنيا الفانية، وسأقهر شياطين الإغراء؛ فأنا صوب الهدف السامي أسير، ولن أكون أبدًا للدنيا وفتنتها أسيرًا، وحتمًا سأدكُّ قلاع المعاصي دكًّا دكًّا، ومهما راودتني عن نفسي الأفكار أن أسبح مع تيار الشهوات، فلن أجد مبادئ الطاعة قيودًا تُدميني؛ لأني أؤمن أنها قيودٌ تحجبني عن المعاصي، وتنقُلُني من ضيق الدنيا إلى رحابة الآخرة: {وَمَا هَـٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64]"...

هكذا استمر الرجلُ في حواره مع نفسه وهو يخطو أولى خطواتِه في الطريقِ إلى الله. أخَذ الرجل يردد الآية بعمقٍ كبير، وقارَن بين {الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} و{الدَّارَ الْآخِرَةَ}، قارن بين (اللهو واللعب)، و(الجنة والنار).

وفي معنى الآية: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت من الآية:64] يقول ابن العثيمين رحمه الله (في فتاوى نور على الدرب، الجزء[5]، الصفحة [2]): "ذكَر الله سبحانه وتعالى قبل هذا: {وَمَا هَـٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [العنكبوت من الآية:64]، لعب بالأبدان، ولَهْوٌ بالقلوب، وبيَّن أن الدار الآخرة هي الحيوان، يعني الحياةَ الكاملة التي ليس فيها نقص، وهذا كقوله تعالى: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24]؛ فالحياةُ الحقيقية هي حياة الآخرة؛ لأنها حياةٌ ليس بعدها موت، فصارت هي الحياةَ الحقيقية، وهذا هو معنى قوله: {لَهِيَ الْحَيَوَانُ} أي: لَهِيَ الحياةُ الكاملة مِن كل وجهٍ".

وأدرك الرجلُ أن من يقف على هذه الحقيقة، فهو على دربِ الحِكمة يسيرُ {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة:269]، وفيها قال ابن كثير: "وقوله: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ} قال عليُّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني المعرفةَ بالقرآن؛ ناسخِه ومنسوخِه، ومُحكَمِه ومتشابِهِه، ومُقدَّمِه ومُؤخَّرِه، وحلاله وحرامه، وأمثاله".

وروى جُوَيبر، عن الضحاك، عن ابن عباس مرفوعًا: "الحِكمة: القرآن، يعني: تفسيرَه"، قال ابن عباس: "فإنه قد قرَأه البرُّ والفاجرُ" (رواه ابن مَرْدَويه).

وقال ابنُ أبي نجيح، عن مجاهد: "يعني بالحكمةِ: الإصابةَ في القول".

وقال ليثُ بنُ أبي سُليم، عن مجاهد:"{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ} [البقرة من الآية:269] ليست بالنبوة، ولكنه العِلمُ والفقهُ والقرآنُ".

وقال أبو العاليةِ: "الحكمة: خشية الله؛ فإن خشيةَ اللهِ رأسُ كلِّ حِكمةٍ".

وقد روى ابن مَرْدَويه، من طريق بقيَّةَ، عن عثمان بن زُفَرَ الجُهنيِّ، عن أبي عمارٍ الأسدي، عن ابن مسعود مرفوعًا: "رأس الحكمةِ مخافةُ الله".

وقال أبو العاليةِ في رواية عنه: "الحكمة: الكتاب والفَهْم".

وقال إبراهيم النَّخَعيُّ: "الحِكمة: الفهم"، وقال أبو مالك: "الحكمة: السُّنَّة".

وقال ابن وهب، عن مالك، قال زيدُ بن أسلَمَ: "الحكمة: العقل"، قال مالك: "وإنه لَيقعُ في قلبي أن الحكمةَ هو الفقهُ في دِين الله، وأمر يُدخله اللهُ في القلوب من رحمته وفضله، ومما يبيِّن ذلك أنك تجد الرجلَ عاقلًا في أمر الدنيا ذَا نظَرٍ فيها، وتجد آخرَ ضعيفًا في أمر دنياه، عالِمًا بأمرِ دِينه، بصيرًا به، يؤتيه الله إياه، ويحرِمُه هذا؛ فالحكمة: الفقهُ في دين الله".

وقال السُّدِّيُّ: "الحكمة: النبوة".

والصحيح أن الحكمةَ -كما قاله الجمهور- لا تختصُّ بالنبوة، بل هي أعمُّ منها، وأعلاها النبوة، والرسالة أخصُّ، ولكنْ لأتباع الأنبياء حظٌّ من الخير على سبيل التَّبَع؛ كما جاء في بعض الأحاديث: «مَن حفِظ القرآن فقد أُدرِجَتِ النبوة بين كتِفيه، غيرَ أنه لا يوحى إليه» (رواه وكيع بن الجرَّاح في تفسيره، عن إسماعيل بن رافع عن رجلٍ لم يُسمِّه، عن عبدالله بن عمر قوله).

وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع ويزيد قالا: حدثنا إسماعيل -يعني ابن أبي خالد- عن قيس -وهو ابن أبي حازم- عن ابن مسعود قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا حسَدَ إلا في اثنتين: رجلٍ آتاه الله مالًا فسلَّطه على هلكَتِه في الحق، ورجلٍ آتاه الله حِكمة فهو يقضي بها ويُعلِّمُها».
وهكذا رواه البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه مِن طُرق متعددة عن إسماعيل بن أبي خالد به.

"وقوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة من الآية:269] أي: وما ينتفعُ بالموعظة والتَّذكار إلا مَن له لبٌّ وعقل يعي به الخطاب ومعنى الكلام" (تفسير ابن كثير).

وسَرَتْ في نفس الرجل طمأنينةٌ بعدما أدرك الفارق بين الحياة والآخرة، وأيهما أحق بالفرار منه أو إليه، وأيقَن أنه من الحكمة الفرارُ من الضِّيق إلى السَّعة، ومن الفاني إلى الباقي، ومن كلِّ ما سوى الله إلى الله، فوَحْدَه السعيدُ مَن خاف يومَ الوعيد، ومَن لَم يكن شِعاره في الدنيا (هل من مزيد!).

وداهمه السؤال الصعب: مَن في فراره الشقيُّ ومَن السعيد؟!

تُرَى بماذا سوف يجيب؟! 

 

خاطر الشافعي

  • 1
  • 0
  • 2,710
المقال السابق
الفرار (2)
 

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً