أيها السمح أين أنت؟!

منذ 2014-03-19

من الأسباب التي تبتعد بالمرء عن المسامحة وحسن المعاشرة سبب منتشر في مجتمعاتنا؛ ألا وهو الأثَرة وحب الدنيا والتشوُّف إليها وإيثارها على الآخرة...

بسم الله الرحمن الرحيم

ممن اختصهم النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء بالرحمة؛ ذاك الصنِف النادر من الناس الذي يتميز بالسهل الممتنع أو قل يكاد يكون ممتنعًا أو نادرًا في زماننا الحاضر.

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى» (رواه البخاري).

قال الإمام ابن حجر رحمه الله في الفتح:

"قَوْلُهُ: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا» يَحْتَمِلُ الدُّعَاءَ وَيَحْتَمِلُ الْخَبَرَ، وَبِالْأَوَّلِ جَزَمَ ابْنُ حَبِيبٍ الْمَالِكِيُّ وَابْنُ بَطَّالٍ وَرَجَّحَهُ الدَّاوُدِيُّ، وَيُؤَيِّدُ الثَّانِيَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِلَفْظِ: «غَفَرَ اللَّهُ لِرَجُلٍ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانَ سَهْلًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَىٰ، وَإِذَا اقْتَضَىٰ» (صحَّحه الألباني)، وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ قَصَدَ رَجُلًا بِعَيْنِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: ظَاهِرُهُ الْإِخْبَارُ لَكِنَّ قَرِينَةَ الِاسْتِقْبَالِ الْمُسْتَفَادُ مِنْ «إِذَا» تَجْعَلُهُ دُعَاءً وَتَقْدِيرُهُ رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَقَدْ يُسْتَفَادُ الْعُمُومُ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِالشَّرْطِ.

قَوْلُهُ: «سَمْحًا» بِسُكُونِ الْمِيمِ وَبِالْمُهْمَلَتَيْنِ أَيْ: سَهْلًا، وَهِيَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ تَدُلُّ عَلَى الثُّبُوتِ، فَلِذَلِكَ كَرَّرَ أَحْوَالَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالتَّقَاضِي، وَالسَّمْحُ الْجَوَادُ، يُقَالُ سَمْحٌ بِكَذَا إِذَا جَادَ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْمُسَاهَلَةُ.

قَوْلُهُ: «وَإِذَا اقْتَضَى» أَيْ: طَلَبَ قَضَاءَ حَقِّهِ بِسُهُولَةٍ وَعَدَمِ إِلْحَافٍ، فِي رِوَايَةٍ حَكَاهَا ابْنُ التِّينِ: «وَإِذَا قَضَى» أَيْ: أَعْطَى الَّذِي عَلَيْهِ بِسُهُولَةٍ بِغَيْرِ مَطْلٍ، وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَالْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ سَمْحَ الْبَيْعِ سَمْحَ الشِّرَاءِ سَمْحَ الْقَضَاءِ» (صحَّحه الألباني)، وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ رَفَعَهُ: «أَدْخَلَ اللَّهُ الْجَنَّةَ رَجُلًا كَانَ سَهْلًا مُشْتَرِيًا وَبَائِعًا وَقَاضِيًا وَمُقْتَضِيًا» (حسَّنه الألباني)، وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو نَحْوُهُ وَفِيهِ الْحَضُّ عَلَى السَّمَاحَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ وَاسْتِعْمَالِ مَعَالِي الْأَخْلَاقِ وَتَرْكُ الْمُشَاحَةِ وَالْحَضُّ عَلَى تَرْكِ التَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ فِي الْمُطَالَبَةِ وَأَخْذُ الْعَفْوِ مِنْهُمْ" أ هـ (من فتح الباري لابن حجر).

ومن الأسباب التي تبتعد بالمرء عن المسامحة وحسن المعاشرة سبب منتشر في مجتمعاتنا؛ ألا وهو الأثَرة وحب الدنيا والتشوُّف إليها وإيثارها على الآخرة.

لذا؛ كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همي.

فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلاَءِ الدَّعَوَاتِ لأَصْحَابِهِ: «اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ اليَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا، وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلاَ تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا» (رواه الترمذي، رقم: [3502]، وقال: "حسنٌ غريب". وصحَّحه الألباني في صحيح الترمذي).

قال المباركفوري رحمه الله: "«وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا» أي: لا تجعل طلب المال والجاه أكبر قصدنا أو حزننا، بل اجعل أكبر قصدنا أو حزننا مصروفًا في عمل الآخرة، وفيه أن قليلًا من الهم فيما لا بد منه في أمر المعاش مرخص فيه، بل مستحب، بل واجب. 

«وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا» أي: غاية عِلمنا، أي: لا تجعلنا حيث لا نعلم ولا نتفكِر إلا في أمور الدنيا، بل اجعلنا متفكِرين في أحوال الآخرة، متفحِّصِين من العلوم التي تتعلق بالله تعالى وبالدار الآخرة، والمبلغ الغاية التي يبلغه الماشي والمحاسب فيقف عنده.

«وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا» أي: لا تجعلنا مغلوبين للكفار والظلمة، أو لا تجعل الظالمين علينا حاكمين، فإن الظالم لا يرحم الرعية" [انتهى باختصار] (تحفة الأحوذي: [9/ 475-477]).

اللهم ارحمنا، واجعلنا ممن أخبر نبيك عنهم وخصَّهم بالدعاء بالرحمة.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 1
  • 0
  • 4,477

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً