إيثار مين يا عم!

منذ 2014-03-28

تُعاني مجتمعاتنا بشدة من ثقافة [نفسي.. نفسي]؛ التي لم ينجُ منها إلا النادر من عباد الله! تلك الثقافة المنبثقة من خُلقٍ منبوذ شرعًا وعرفًا ألا وهو الأثرة وفي العرف يُسمَّى (الأنانية)...

تُعاني مجتمعاتنا بشدة من ثقافة [نفسي.. نفسي]؛ التي لم ينجُ منها إلا النادر من عباد الله! تلك الثقافة المنبثقة من خُلقٍ منبوذ شرعًا وعرفًا ألا وهو الأثرة وفي العرف يُسمَّى (الأنانية).

على مستوى السياسيين؛ تُطِل الأثرة برأسها البغيض في شتى المواقف لتشهد لأهل زماننا بأننا أكبر عيب فيه فالكل ينادي نفسي نفسي وأنا الأولى والأجدر بالمناصب والكراسي حتى صارت المناصب والرياسات مغرمًا لو تأمَّلها العقل وصاحب القلب السليم.. فلا مغانم فيها وسط هذا التنافس المحموم وغير الشريف في معظم الأحيان... الذي يجر صاحبه إما إلى الظلم أو سفك الدماء أو العبث بالأعراض أو تشويه الآخرين أو... أو... وفي النهاية الأنانية هي سيدة الموقف.

على مستوى الوظائف وزمالة العمل حدِّث ولا حرج... الكل يريد الوصول ولو على أكتاف كل من حوله! والواقع خير شاهد ولا يعصم الله إلا من رحم.

على مستوى الأسرة والبيت؛ تجد المنافسة الدنيوية بين أبناء الأب الواحد والأم الواحدة وكأن أخوة الدم ليس لها أي حق... فتجد هذا يسارع في التقرُّب للوالد أو الوالدة على حساب هذا، أو تجد من يطمع في ميراث الإناث أو يأكل على الرجال ميراثهم لضعف فيهم أو لتجبُّر فيه... أو تجد قطيعة الرحم وتباعد القلوب بسبب منافسة النساء وشدة المباهاة.

وعلى مستوى الإعلام؛ تجد الصراع المحموم من أجل إثبات الذات ولو على حساب فساد المجتمع بأسره! ولو على حساب تشويه أي منافس أو مخالف والنيل منه، بل ومن عِرضه في كثير من الأحيان.

على مستوى أهل الديانة وللأسف الشديد؛ هذا يتعصَّب لجماعته وأعمته الأنانية أن يرى غيرها وهذا يتعصُّب لشيخه ثم تجد التراشق والتلاسن وحب الظهور، ولا يعصم الله إلا من رحم.

على مستوى بعض الدعاة؛ تجد التراشق والتنابذ على أعواد المنابر بسبب التنافس وحب الظهور في وقتٍ تحتاج الأمة لجهدهم ووقتهم لإصلاحها وإصلاح ما بين الناس.

فإذا بهم معاول هدم يهدمون أنفسهم قبل غيرهم بسبب غلبة الأنانية وحب الذات والرغبة في الظهور... وإن كان -ولله الحمد- الأغلبية من الدعاة على خير وصلاح ولكن وللأسف! فإن النادر الشاذ يسيئ ويظهر بوضوح في الثوب الأبيض ليدنسه.

إذن أين العلاج؟

العلاج في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم... في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].

قال الطَّبري: "يقول تعالى ذكره: وهو يصفُ الأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قبل المهاجرين وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ} يقول: ويعطون المهاجرين أموالهم إيثَارًا لهم بِها على أنفسهم وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ يقول: ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثَرُوا به مِن أموالهم على أنفسهم".

وقال ابن كثير: "أي: يُقدِّمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدؤون بالنَّاس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك".

ويقول ابن تيمية: "وأمَّا الإيثَار مع الخصاصة فهو أكمل مِن مجرَّد التَّصدُّق مع المحبَّة، فإنَّه ليس كلُّ مُتصدِّق مُحبًّا مُؤثرًا، ولا كلُّ مُتصدِّق يكون به خصاصة، بل قد يتصدَّق بما يحبُّ مع اكتفائه ببعضه مع محبَّة لا تبلغ به الخصاصة" (منهاج السنة النبوية؛ لابن تيمية).   

عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الأشعريِّين إذا أرملوا في الغزو، أو قلَّ طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثمَّ اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسَّويَّة، فهم منِّي، وأنا منهم» (رواه البخاري، ومسلم مِن حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه).

يقول العيني: "فيه منقبة عظيمة للأشعريين من إيثارهم ومواساتهم بشهادة سيدنا رسول الله وأعظم ما شُرِّفوا به كونه أضافهم إليه... وفيه فضيلة الإيثَار والمواساة" (عمدة القاري شرح صحيح البخاري).

وقال أبو العبَّاس القرطبي: "هذا الحديث يدلُّ على أنَّ الغالب على الأشعريِّين الإيثَار، والمواساة عند الحاجة... فثبت لهم بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنَّهم... كرماء مؤثرون" (المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم).

«أرمل القوم»: نفد زادهم (انظر: لسان العرب؛ لابن منظور).

تقول أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كلَّ واحدة منهما تمرة. ورفعت إلى فِيها تمرة لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها، فشقَّت التَّمرة، التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «إنَّ الله قد أوجب لها بها الجنَّة، -أو: أعتقها بها مِن النَّار»" (رواه مسلم مِن حديث عائشة رضي الله عنها).

وروى البخاري ومسلم أيضًا عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "قال أبو طلحة لأمِّ سليم: لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفًا أعرف فيه الجوع، فهل عندك مِن شيء؟

قالت: نعم.

فأخرجت أقراصًا مِن شعير، ثمَّ أخرجت خِمارًا لها فلفَّت الخبز ببعضه، ثمَّ دسَّته تحت يدي ولاثتني  ببعضه، ثمَّ أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: فذهبت به فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ومعه النَّاس، فقمت عليهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آرسلك أبو طلحة؟».

فقلت: نعم.

قال: «بطعام؟».

قلت: نعم.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه: «قوموا».

فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته، فقال أبو طلحة: يا أمَّ سليم، قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنَّاس، وليس عندنا ما نطعمهم.

فقالت: الله ورسوله أعلم. فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلمِّي يا أمَّ سليم ما عندك، فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففتَّ، وعصرت أمُّ سليم عكَّة فأدمته، ثمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما شاء الله أن يقول، ثمَّ قال: «ائذن لعشرة». فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا، ثمَّ خرجوا، ثمَّ قال: «ائذن لعشرة». فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا ثمَّ خرجوا، ثمَّ قال: «ائذن لعشرة». فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا، ثمَّ خرجوا، ثمَّ قال: «ائذن لعشرة». فأكل القوم كلُّهم حتى شبعوا، والقوم سبعون أو ثمانون رجلًا".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه كان يقول: "الله الذي لا إله إلَّا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض مِن الجوع. وإن كنت لأشدُّ الحجر على بطني مِن الجوع. ولقد قعدت يومًا على طريقهم الذي يخرجون منه فمرَّ أبو بكر فسألته عن آية مِن كتاب الله ما سألته إلَّا ليشبعني، فمرَّ ولم يفعل، ثمَّ مرَّ أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسَّم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي. ثمَّ قال: «يا أبا هِرّ!»، قلت: لبَّيك رسول الله. قال: «الْحَق». ومضى فتبعته، فدخل فاستأذن، فأذن لي، فدخل فوجد لبنًا في قدح، فقال: «مِن أين هذا اللَّبن؟». قالوا: أهداه لك فلان -أو فلانة- قال: «أبا هر!». قلت: لبَّيك يا رسول الله. قال: «الْحَق إلى أهل الصُّفَّة فادعهم لي».

قال -وأهل الصُّفَّة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد. إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئًا، وإذا أتته هديَّة أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها- فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللَّبن في أهل الصُّفَّة؟ كنت أحقَّ أن أصيب مِن هذا اللَّبن شربة أتقوَّى بها، فإذا جاءوا أمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني مِن هذا اللَّبن؟! ولم يكن مِن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بدٌّ، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا، فأذن لهم وأخذوا مجالسهم مِن البيت.

قال: «يا أبا هِرّ!»، قلت: لبَّيك يا رسول الله. قال: «خذ فأعطهم». فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرَّجل فيشرب حتى يروى، ثمَّ يردُّ عليَّ القدح حتى انتهيت إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلُّهم. فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إليَّ فتبسَّم، فقال: «أبا هِرّ!»، قلت: لبَّيك يا رسول الله. قال: «بقيت أنا وأنت». قلت: صدقت يا رسول الله. قال: «اقعد فاشرب»، فقعدت فشربت. فقال: «اشرب». فشربتُ، فما زال يقول: «اشرب». حتى قلتُ: لا -والذي بعثك بالحقِّ- ما أجد له مسلكًا. قال: «فأرني»، فأعطيته القدح، فحمد الله وسمَّى، وشرب الفضلة" (رواه البخاري).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه "أنَّ رجلًا أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى نسائه، فقلن: ما معنا إلَّا الماء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن يضمُّ -أو: يضيف- هذا؟». فقال رجل مِن الأنصار: أنا. فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: ما عندنا إلَّا قوت صبياني. فقال: هيِّئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونوِّمي صبيانك إذا أرادوا عشاء. فهيَّأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونوَّمت صبيانها، ثمَّ قامت كأنَّها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنَّهما يأكلان، فباتا طاويين، فلمَّا أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «ضحك الله اللَّيلة -أو: عجب مِن فعالكما-، فأنزل الله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}" (رواه البخاري)

عبد الرَّحمن بن عوف "لمَّا قدم المدينة آخى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الرَّبيع الأنصاريِّ، وعند الأنصاريِّ امرأتان، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال له: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلُّوني على السُّوق..." (رواه البخاري)

وسائل تحقيق الإثار في النفس:

قال ابن القيِّم: "فإن قيل: فما الذي يسهِّل على النَّفس هذا الإيثَار، فإنَّ النَّفس مجبولة على الأَثَرَة لا على الإيثَار؟ قيل: يسهِّله أمور:

- أحدها: رغبة العبد في مكارم الأخلاق ومعاليها؛ فإنَّ مِن أفضل أخلاق الرَّجل وأشرفها وأعلاها: الإيثَار. وقد جبل الله القلوب على تعظيم صاحبه ومحبَّته، كما جبلها على بغض المستأثر ومقته، لا تبديل لخلق الله.

- الثَّاني: النُّفرة مِن أخلاق اللِّئام ومقت الشُّح وكراهته له.

- الثَّالث: تعظيم الحقوق التي جعلها الله سبحانه وتعالى للمسلمين بعضهم على بعض، فهو يرعاها حقَّ رعايتها، ويخاف مِن تضييعها، ويعلم أنَّه إن لم يبذل فوق العدل لم يمكنه الوقوف مع حدِّه؛ فإنَّ ذلك عَسِر جدًّا، بل لا بد مِن مجاوزته إلى الفضل أو التَّقصير عنه إلى الظُّلم، فهو -لخوفه مِن تضييع الحقِّ، والدُّخول في الظُّلم- يختار الإيثَار بما لا ينقصه ولا يضرُّه، ويكتسب به جميل الذِّكر في الدُّنْيا، وجزيل الأجر في الآخرة مع ما يجلبه له الإيثَار مِن البركة وفيضان الخير عليه، فيعود عليه مِن إيثاره أفضل ممَّا بذله، ومَن جرَّب هذا عرفه، ومَن لم يجرِّبه فليستقرئ أحوال العالم، والموفَّق مَن وفَّقه الله سبحانه وتعالى" (طريق الهجرتين وباب السَّعادتين: [1/448]).

وأخيرًا:
{إِنْ أُرِيدُ إِلاّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِيَ إِلاّ بِاللّهِ} [هود من الآية:88].

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 2
  • 0
  • 5,574

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً