شرح حديث: (احفظ الله يحفظك) وآثاره السلوكية

منذ 2014-04-01

قد كانت حياته صلى الله عليه وسلم وأصحابه كلها محن وابتلاء، فصبروا، ثم جاء بعد ذلك اليسر من الله سبحانه وتعالى، وجاءتهم الدنيا راغمة، وأورثهم الله تبارك وتعالى ملك كسرى وقيصر، ووعدهم بما هو أعظم من ذلك كله، وهو نيل رضاه سبحانه، ودخول جنته التي وعد بها عباده الصالحين، وهم أوّل من ينال ذلك الفضل منه سبحانه وتعالى.

ذكر ابن أبي العز هذا الحديث العظيم؛ حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقد شرحنا بإيجاز ما يتعلق برواية الترمذي، وهي مطابقة لرواية الإمام أحمد رضي الله عنه في (المسند).

ثم قال رحمه الله: "وفي رواية غير الترمذي: «احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً».

وهذه من أبلغ وصايا النبي صلى الله عليه وسلم، فهو صلى الله عليه وسلم -كما أشرنا في الرواية الأولى- يأمر ابن عباس رضي الله عنهما بمقتضى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]؛ بقوله له: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله» فالله تعالى هو وحده المدعو والمرجو، والمبتغى المطلوب بالعبادة، وهو أيضاً وحده المستعان، وعليه التكلان لتحقيق ما نريد، ونحن فقراء إلى الله تبارك وتعالى في معرفته ومعرفة الحق الذي يوصل إليه، كما أننا فقراء إلى عونه عز وجل؛ لكي نستطيع أن نعبده، فنرضيه تبارك وتعالى وننال جنته.

- معنى قوله: «احفظ الله تجده أمامك»:

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «احفظ الله تجده أمامك»، كما قال في الرواية الأولى: «احفظ الله تجده تجاهك» فإذا حفظ العبد ربه، أي: حفظ حدود الله تبارك وتعالى وأوامره؛ فلم يجده حيث نهاه، ولم يفتقده حيث أمره؛ فإنه ينال بذلك تلك الدرجة، وهو أن يحفظه الله تبارك وتعالى، وأن يجد ربه سبحانه وتعالى معيناً له وناصراً وموفقاً ومؤيداً، كما هي سنته التي كتبها: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]، فهذا وعد منه سبحانه وتعالى لا يتخلف أبداً، فمن كان مع الله؛ مقيماً لأمره، متقياً له ومراقباً؛ فإن الله سبحانه وتعالى سوف ينصره ويؤيده، ويوفقه لمزيد من الطاعة.

- معنى قوله: «تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة»:

ثم قال صلى الله عليه وسلم: «تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة»، وإنما نبه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا؛ لأن التعرف إلى الله في الشدة يشترك فيه المؤمنون والكافرون، كما قصّ الله تبارك وتعالى علينا حالهم؛ أنهم إذا ركبوا في الفلك واشتدت بهم الريح في اليوم العاصف؛ فإنهم يدعون الله مخلصين له الدين؛ قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65]، فإذا نجوا عادوا إلى ما كانوا عليه من العصيان.

بل أخبر الله سبحانه وتعالى أنهم في شدة يوم القيامة يتمنون أن يعودوا إلى الدنيا، ويطلبون من الله تبارك وتعالى أن يعيدهم لكي يعملوا صالحاً، ولكن الله تعالى يقطع ذلك ويقول: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28]، فقد تأصل في أنفسهم أنهم لا يعرفون الله تبارك وتعالى إلا في الشدة فقط؛ فإذا اشتدت عليهم الكروب، وضاقت بهم الخطوب، ولم يجدوا ملجأً ولا منقذاً؛ تذكروا حينئذٍ أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يلجأ إليه، ويستغاث به، ويدعى وحده لا شريك له، فلا لات ولا عزى، ولا هبل؛ لأنهم عرفوا أن الله وحده هو الذي يجيب الدعاء.

وقد ذكر الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: "أن مشركي آخر الزمان أكفر من مشركي قريش؛ حيث إن مشركي آخر الزمان يدعون غير الله تعالى - من أولياء وسادة - ويلجئون إليهم حتى في الشدة.

أما المؤمنون؛ فإنهم يتعرفون على الله تبارك وتعالى في حال الرخاء، ويتقربون إليه، ويتلمسون مراضيه، ويستعملون أنفسهم في طاعته حال الرخاء، فإذا جاءت الشدة عرفهم الله سبحانه وتعالى، وأنقذهم، وفرّج عنهم، ويسّر لهم".

ومن أمثلة ذلك: قصة الثلاثة الذين أووا إلى الغار، فانطبقت عليهم الصخرة، فهؤلاء تعرفوا إلى الله تبارك وتعالى في الرخاء بما يرضيه، فلما جاءت الشدة توسلوا إلى الله سبحانه وتعالى بتلك الأعمال الصالحة، فأنقذهم الله تبارك وتعالى مما هم فيه، لكن لو أن الكرب وقع، وأقسم الإنسان لله: لئن أنجيتني لأتوبن من الزنا.. لأعطينّ المظلوم أو المسكين أو صاحب الحق حقه، فإن ذلك لا يغني.

صحيح أن الله سبحانه وتعالى يجيب المضطر إذا دعاه، لكن المؤمن يتقرب إلى مولاه؛ الرب الكريم؛ فيعمل الصالحات، وعندها يكون الجزاء من الله عز وجل، وهو سبحانه لا يضيع أجر المحسنين؛ فإن حلّت بالمؤمن كربة، فإن الله يفرجها عنه ولا ينساه، والإنسان لابد أن تصيبه مصيبة أو تحل به كربة؛ سواء أكانت في حياته أم بعد مماته؛ فإنه إذا مات سوف يلاقي الشدة في موته، ويوم حشره، ويوم القيامة، وهناك لا ينجو إلا من قدم بين يديه خيراً، وتعرف إلى مولاه بالتقوى والعمل الصالح.

فعلى الإنسان أن يحرص على أن يتعرف إلى الله في حياته، لكي يجد أثر ذلك في قبره، وفي الشدة العظمى؛ في عرصات يوم القيامة؛ حيث الأهوال التي تعجز الكلمات عن التعبير عنها.

فهذه وصية النبي صلى الله عليه وسلم للأوّابين المتقين المنيبين المخبتين، الذين يعملون ويجتهدون وهم يظنون أنهم إلى ربهم راجعون، فلا تفوتهم أوقات الخير ولا مواسمه، ولا أيام الشباب والعافية.. لا تفوتهم لأنهم يعدون العدة ليوم تكون فيه الشدة، ويحتاجون فيه لما هو ميسر لهم اليوم من أسباب الخير والتقوى.

- معنى قوله: «واعلم أن ما أخطاك لم يكن ليصيبك»:

ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «واعلم أن ما أخطاك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك». كما قال في الرواية الأولى: «واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك»، وهذا يوافق معنى قوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51]، وهكذا هم المؤمنون؛ يعلمون أن ما أصابهم من خير أو شر، فهو مما كتبه الله سبحانه وتعالى لهم أو عليهم، ولهذا تكون النتيجة ما سيذكره المصنف رحمه الله من التقوى والإنابة والإخبات والتذلل لله سبحانه وتعالى.

ولا يستلزم منهم ذلك ترك الأسباب، فإنه يجب عليهم الأخذ بالأسباب، ولكنهم يعلمون أن تلك الأسباب ليست هي التي دفعت عنهم هذا البلاء، إنما الذي دفعه هو الله سبحانه وتعالى، وهو الذي كتب أزلاً أن ذلك لن يقع.

والحالة المقابلة: «وما أصابك لم يكن ليخطئك»، أي: إذا أصابك مكروه فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، لما حصل لي ذلك، ولا تظن أنه حصل لك ذلك بسبب تآمر الناس عليك، أو لأن الخلق أرادوا هذا السوء بك، مع أن هذه أسباب خلقها الله سبحانه وتعالى، لكن ليست هي التي فعلت ذلك، ولو لم يكتب الله ذلك منذ الأزل، لما كان من ذلك شيء، ثم مهما كانت الأسباب والاحتياطات، فلابد أن يقع المكتوب.

- معنى قوله: «واعلم أن النصر مع الصبر»:

ثم قال عليه الصلاة والسلام: «واعلم أن النصر مع الصبر»، كل الناس يريدون النصر، والله سبحانه وتعالى جعل النصر منوطاً بالصبر، وإلا فلا نصر، وعادة يكون النصر بدخول معركة، وهل نحن إلا في معركة؟! وكل الناس حتى الذين لا يؤمنون بالآخرة يقولون: معركة الحياة.. ومعترك الحياة، وهذا حق؛ فهم في معركة مع أنفسهم، ومع الناس والمال، ومع كل شيء؛ فالحياة هي معركة فعلاً، لكن الذي سوف ينتصر هو المؤمن، وإذا أردنا أن ننتصر فعلينا بالصبر، وبالأخص من كان يدعو إلى الله، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر:  {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17].

وقد جعل الله سبحانه وتعالى للإمامة في الدين شرطين لا بد أن يتحققا، ولو اختلّ أحدهما لاختل تحقق الإمامة في الدين، وهما: الصبر واليقين؛ يقول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، فالذين حققوا ذلك من بني إسرائيل تحققت لهم الإمامة في الدين.

فلا بد إذاً من الصبر: «واعلم أن النصر مع الصبر»، ولقد قالت العرب: (بين النصر والهزيمة صبر ساعة)، وهذا عنترة بن شداد الفارس الجاهلي المعروف لما سئل: بم تغلب خصمك؟ قال: (ما بارزت أحداً إلا قلت: الآن أفر، ثم قلت: أنتظر قليلاً فربما فر، فيفر، فأكون أنا الذي انتصرت)، وهكذا الإنسان يصبر نفسه قليلاً حتى يأذن الله تعالى بالفرج، وتأتي الهزيمة من الطرف الآخر، والطرف الآخر يتمثل بالنفس والدنيا والشيطان والهوى، وعدو القتال.

- معنى قوله: «وأنّ الفرج مع الكرب»:

ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: «وأنّ الفرج مع الكرب»، تأمل هذه البلاغة النبوية وانظر لواقع الناس، فإنهم يطلبون دائماً الفرج، ويريدون التيسير والخير، ولكنهم يهربون من الآلام والمتاعب؛ أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد قرنهما، فإذا كنت تريد النصر فهو مع الصبر، وإذا كنت تريد الفرج فهو مع الكرب، فلا يمكن أن تحصل على الفرج دون أن يأتيك الكرب، ومقتضى ذلك: أن الكرب إذا حصل فصبرت، فإن الفرج آت لا محالة.

ثم قال: «وأنّ مع العسر يسراً»، وهذا مما اختص الله تعالى به عباده المؤمنين؛ أنهم يصبرون على كل ما ينالهم من عسر، وانظر إلى صبر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقد أوذي النبي صلى الله عليه وسلم لأنه يقول: «ربي الله»، كما قال الصديق رضي الله تعالى عنه: "أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله؟!" وهذه المقالة قد قالها مؤمن آل فرعون من قبل، قال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28]، وكذلك كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يعذبون ويؤذون ويطردون؛ لأنهم يقولون: "ربنا الله"، حتى إنهم حين هاجروا إلى الحبشة ظلت قريش تطاردهم وتؤذيهم وهم في بلاد الغربة، فمع ما أصابهم من غربة في تلك البلاد البعيدة عن الأهل والصحب، ترسل قريش وفداً إلى الحبشة ليقولوا للنجاشي : "إن هؤلاء فارقوا ديننا وتركوا ما كنا عليه، فأرجعهم إلينا!"

سبحان الله!! هكذا يُرغم الإنسان ويُكره على أن يعتقد الباطل، وتصادر حريته؛ لأنه يقول ربي الله، وما زادهم ذلك إلا صبراً وتحملاً في سبيل الله.

وأيضاً صبروا في بدر، وفي أحد، وفي الخندق، وفي حنين، وفي تبوك.. وغيرها من الغزوات.

فقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم وأصحابه كلها محن وابتلاء، فصبروا، ثم جاء بعد ذلك اليسر من الله سبحانه وتعالى، وجاءتهم الدنيا راغمة، وأورثهم الله تبارك وتعالى ملك كسرى وقيصر، ووعدهم بما هو أعظم من ذلك كله، وهو نيل رضاه سبحانه، ودخول جنته التي وعد بها عباده الصالحين، وهم أوّل من ينال ذلك الفضل منه سبحانه وتعالى.

إذاً: هذا الحديث من جوامع وصاياه صلى الله عليه وسلم، التي يجب علينا أن نتأملها ونتدبرها، وألا نضيعها، وسوف يأتي في كلام المصنف رحمه الله بعد ذكر الأقلام وأنواعها ما يؤيد ذلك ويؤكده.

سفر بن عبد الرحمن الحوالي

رئيس قسم العقيدة بجامعة أم القرى سابقا

  • 4
  • 0
  • 74,459

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً