الرحمة وأثرها في الدعوة إلى الله

منذ 2014-04-04

إن الرحمة مظهر من مظاهر سماحة الأخلاق في الإسلام، يقول أبو البقاء الكفوي: "الرحمة حالة وجدانية تعرض غالباً لمن به رقة القلب وتكون مبدأ للانعطاف النفساني الذي هو مبدأ الإحسان".

إن الرحمة مظهر من مظاهر سماحة الأخلاق في الإسلام، يقول أبو البقاء الكفوي: "الرحمة حالة وجدانية تعرض غالباً لمن به رقة القلب وتكون مبدأ للانعطاف النفساني الذي هو مبدأ الإحسان".

والرحمة من صفات الله عزَّ وجلَّ قال تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً} [الكهف:58].

ورحمة الله خير من كل شيء قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32].


ورحمة الله واسعة قال تعالى: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56]. 

ورحمة الله واسعة قال تعالى: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَـا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:156].

والرحمة من صفات الأنبياء عليهم السلام، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159]، وجعل الله الرحمة من صفات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، قال الله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح:29]. قال ابن كثير: "يخبر الله تعالى عن محمد صلوات الله عليه أنه رسوله حقاً بلا شك ولا ريب، وهو مشتمل على كل وصف جميل ثم ثنّى بالثناء على أصحابه بأنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم وهذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديداً عنيفاً على الكفار، رحيما براً بالأخيار، غضوباً في وجه الكافر ضحوكاً بشوشاً في وجه أخيه المؤمن".

ولقد أوصى الله عباده المؤمنين بالرحمة فيما بينهم، قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:17].

وقد دلت أحاديث السُّنة النبوية على رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمته صغيرها وكبيرها.

فعن قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها، فاسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه» 

( سنن أبي داود [4942]).
 

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال": "إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا"، قال: "فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قط أشد غضباً في موعظة منه يومئذ". قال: فقال: «يا أيها الناس إن منكم منفرين، فمن أم الناس فليتجوز، فإن خلفه الضعيف والكبير وذا الحاجة».


إن غضب النبي صلى الله عليه وسلم وإنكاره الإطالة في الصلاة وإلحاق المشقة بالمصلين دليل على رحمته صلى الله عليه وسلم بالمدعوين؛ حيث أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤكد للدعاة من بعده تأكيداً عملياً على أهمية الرحمة وأثرها على المدعوين، حتى إنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم للصلاة يريد إطالتها، ولكنه يتجوز فيها لسماعه بكاء صبي، وكذلك غضبه لإطالة الصلاة مما يؤدي إلى التنفير، حتى إن بعض الناس يصر على الإطالة في الصلاة ويعد ذلك أمراً لا بد منه، متغافلاً عن ظروف الناس وحاجاتهم وأحوالهم الصحية، إن السماحة والرحمة لها أثر عظيم في الدعوة إلى الله تعالى.

ومما يدل على سماحة أخلاقه صلى الله عليه وسلم ما جاء في هذا الحديث، فعن أُسامة بن زيد رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذني فيقعدني على فخذه ويقعد الحسن بن علي على فخذه الآخر ثم يضمهما ثم يقول: «اللهم أرحمهما فإني أرحمهما»".

وقال قتادة: "خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه فصلى، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع رفعها". 


ومن سماحة أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه كان يداعب الأطفال ويلاطفهم، فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الأولى، ثم خرج إلى أهله وخرجت معه فاستقبله ولدان فجعل يمسح خدي أحدهم واحداً واحداً قال: وأما أنا فمسح خدي، قال: فوجدت ليده برداً أو ريحاً كأنما أخرجها من جونة عطار". قال النووي: "وفي مسحه صلى الله عليه وسلم الصبيان بيان حسن خلقه ورحمته للأطفال وملاطفتهم".

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله قال: كان إبراهيم مسترضعاً له في عوالي المدينة، فكان ينطلق ونحن معه فيدخل البيت وإنه ليدخن، وكان ظئرة قيناً فيأخذه فيقبله ثم يرجع".

ولقد أراد الله أن يمتن على العالم برجل يمسح آلامه، ويخفف أحزانه، ويرثى لخطاياه، ويستميت في هدايته ويأخذ بناصر الضعيف، ويقاتل دونه قتال الأم عن صغارها ويخضد شوكة القوي حتى يرده إنساناً سليم الفطرة لا يضرئ ولا يطغى.. فأرسل محمداً عليه الصلاة والسلام وسكب في قلبه العلم والحلم، وفي خلقه من الإيناس والسماحة والبر، وفي طبعه من السهولة والرفق وفي يديه من السخاوة والندى ما جعله أزكى عباد الله رحمة، وأوسعهم عاطفة وأرحبهم صدراً؛ ولذلك قال الله تعالى فيه: {وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159].

وقد لازمته هذه الفضائل العذبة في جميع حياته وحثَّ أصحابه عليها وبيَّن فضل ذلك، فعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» (سنن الترمذي [1924]).

 

وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تنزع الرحمة إلا من شقي» (سنن أبي داود [4942]).


إن الرحمة صفة كريمة وعاطفة إنسانية نبيلة، تبعث على بذل المعروف وإغاثة الملهوف، وإعانة المحروم، وكف العسف والظلم، ومنع التعدي والبغي. 

والرحمة لها أثر فاعل في مجال الدعوة إلى الله فعلى الدعاة إلى الله أن يكون تعاملهم مع المدعوين بالرحمة، يقول الشيخ السعدي: "إن الشريعة كلها مبنية على الرحمة في أصولها وفروعها، وفي الأمر بأداء الحقوق سواء كانت لله أو للخلق، فإن الله لم يكلف نفساً إلا وسعها، وإذا تدبرت ما شرعه الله عزَّ وجلَّ في المعاملات والحقوق الزوجية وفي حقوق الوالدين والأقربين والجيران وسائر ما شرع وجدت ذلك كله مبنياً على الرحمة فلقد وسعت هذه الشريعة برحمتها وعدلها العدو والصديق، ولقد لجأ إلى حصنها الحصين الموفقون من الخلق".

وقال ابن حجر تعليقاً على حديث: «من لا يَرحم لا يُرحم»، قال ابن بطال: "فيه الحضُّ على استعمال الرحمة لجميع الخلق فيدخل المؤمن والكافر، والبهائم والمملوك منها وغير المملوك، ويدخل في الرحمة التعاهد بالإطعام والسعي والتخفيف في الحمل وترك التعدي بالضرب"، وقال ابن أبي جمرة: "لا ينظر الله بين الرحمة إلا لمن جعل في قلبه الرحمة ولو كان عمله صالحاً وينبغي للمرء أن يتفقد نفسه فما قصر فيه لجأ إلى الله تعالى في الإعانة عليه".

هذا وقد نبَّه الله نبيه أن يتعامل مع الناس بالرحمة وهو إمام الدعاة وقدوتهم وأنه إذا استعمل الخشونة والشدة معهم تركوه ولم يجالسوه، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159]. أي: لست يا محمد فظاً في أقوالك ومخاطبتك للناس غليظ القلب عديم الرقة واللطف والرحمة في واقع حالك الخلقي.

قال السعدي: "أي: برحمة الله لك ولأصحابك منّ الله عليك أن ألنت لهم جانبك، وخفضت لهم جناحك، وترفقت عليهم، وحسنت لهم خلقك، فاجتمعوا عليك وأحبوك وامتثلوا أمرك، ولو كنت سيء الخلق قاسي القلب لانفضوا من حولك لأن هذا ينفرهم ويبغضهم لمن قام به هذا الخلق السيء، فالأخلاق الحسنة من الرئيس في الدنيا تجذب الناس إلى دين الله، ترغبهم فيه، مع ما لصاحبها من المدح والثواب الخاص، والأخلاق السيئة من الرئيس في الدين، تنفر الناس عن الدين وتبغضهم إليه مع ما لصاحبها من الذم والعقاب الخاص، فهذا الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم يقول الله له ما يقول، فكيف بغيره أليس من أوجب الواجبات وأهم المهمات الاقتداء بأخلاقه الكريمة، ومعاملة الناس بما كان يعاملهم به صلى الله عليه وسلم من اللين وحسن الخلق والتأليف، امتثالاً لأمر الله وجذباً لعباد الله لدين الله".

ويقول الشيخ المداني: "وفي هذه الآية ثناء من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه ليس فظاً ولا غليظ القلب، وفي هذا توجيه بصورة غير مباشرة لكل من يضطلع بمهمات الدعوة أسوة حسنة لهم، ألا يكون فظاً سيء الخلق شرساً، وألا يكون غليظ القلب قاسياً لا رحمة عنده، فمن كان كذلك نفر عنه المتأثرون ببياناته الدينية وانفضوا من حوله، وصار مزهوداً فيه، وغير ذي تأثير في دعوته، فإن الفظ السيء الخلق أو الغليظ القلب لا يصلح ابتداءً لأن يكون داعياً لأحد من غير المسلمين إلى دين الله، لأنه سينفره من الدين لأول بادرة سوء خلق وفظاظة يلاحظها فيه، ويجفوه إذا أدرك أنه غليظ القلب عديم الرحمة جاف العواطف النبيلة، فلا يستمع إليه ولا يصغى إلى أقواله ونصائحه".

ويقول الشيخ السيد سابق: "والرحمة صفة كريمة وعاطفة إنسانية نبيلة، تبعث على بذل المعروف، وإغاثة الملهوف، وإعانة المحروم، وكف العسف والظلم، ومنع التعدي والبغي وقد أراد الإسلام أن يطبع الناس بها حتى تمتلئ قلوبهم خيراً وبراً وتفيض على الدنيا رجاء وأملاً، إن طبيعة الإسلام سهلة سمحة رحيمة، وهو يريد أن يطبع النفوس بطابع الرحمة، وأن ينشئهم على هذه الفضيلة حتى ينعم الناس في ظلها الوارف، ويعيشوا في كنفها آمنين، وينزل عليهم سلام الله ورحمته وبركاته".



د. حمزة بن سليمان بن راشد الطيار: الأستاذ المشارك في قسم الدعوة والاحتساب بكلية الدعوة والإعلام - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. 

 

المصدر: مجلة الدعوة

حمزة بن سليمان الطيار

أستاذ بكليةالدعوة والإعلام بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

  • 4
  • 2
  • 23,223

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً