قصة أصحاب القرية دروس وعبر - الجدية في التنفيذ

منذ 2014-04-15

 

لقد جاء في سياق القصة أن عملية التغيير قد بدأت برسولين: {إذْ أَرْسَلْنَا إلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} [يس: 14]. فالرسول الثاني يقوي ويعضد الرسول الأول. ثم قوى ـ سبحانه ـ هذين الرسولين برسول ثالث، وذلك بعد أن كذب أهل القرية الرسولين: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ}، وتقدموا ثلاثتهم بدعواهم ودعوتهم من جديد: {فَقَالُوا إنَّا إلَيْكُم مُّرْسَلُونَ} فما كان من أصحاب القرية إلا أن شككوا في صدقهم، وفي صدق طبيعتهم البشرية، وفي صدق فكرتهم: {قَالُوا مَا أَنتُمْ إلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إنْ أَنتُمْ إلاَّ تَكْذِبُونَ} فأعلن الرسل صدق مرجعيتهم الربانية؛ فهم رسل الله جل وعلا، وبينوا صدق فقههم لدورهم، وهو البلاغ: {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَـمُرْسَلُونَ . وَمَا عَلَيْنَا إلاَّ الْبَلاغُ الْـمُبِينُ}  [يس: 16 - 17].

فتشاءم أهل القرية منهم وتوقعوا منهم الشر: {قَالُوا إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} ثم هددوهم: {لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } فما كان من الرسل الكرام إلا أن ردوا عليهم بثقة { قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} [يس: 19].

من هذا السياق نستشعر سمة مهمة جداً تتصف بها الطليعة الربانية، ألا وهي الإصرار على القيام بالأمر الموكول، والجدية في تحقيق الغاية من المهمة.

وهذه الجدية نلمسها من خلال تدبر جانبين أو أمرين:

الأمر الأول: دور المشيئة الإلهية في جدية إتمام المهمة، من حيث إرسال رسولين، ثم تقويتهما برسول ثالث.

الأمر الثاني: نستشعرها من خلال دور وسلوك الرسل الكرام، وجدية أخذهم بمهـمة الدعـوة إلى الله ـ عز وجل ـ رغم كل العوائق التي واجهتهم، فكلما ظهرت عقبة، مثل التكذيب، أو التشكيك، أو التهديد ولو بالقتل، نجد أن هناك حلولاً وردوداً مقنعة ومفحمة تبين مدى الإصرار على إنجاز المهمة الربانية الشريفة.

وهذا التعاضد بين الدور الإلهي والدور البشري، في تحقيق أي عمل، يكون على أساس قاعدة الجزاء من جنس العمل، وهي القاعدة التي تربط بين نوع وطبيعة مصير الفرد أو الجماعة بناءً على طبيعة ونوع العمل الذي يؤدونه. فالهداية الإلهية لا تكون إلا لمن جد في طلب الهداية والعمل لها.

وتدبر هذا الحديث القدسي فعَنْ أَبِى ذَرٍّ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ «  يَا عِبَادِى إِنِّى حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِى وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا يَا عِبَادِى كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِى أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِى كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِى أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِى كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِى أَكْسُكُمْ يَا عِبَادِى إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِى أَغْفِرْ لَكُمْ يَا عِبَادِى إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّى فَتَضُرُّونِى وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِى فَتَنْفَعُونِى يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِى مُلْكِى شَيْئًا يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِى شَيْئًا يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِى فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِى إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِى إِنَّمَا هِىَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ»

وكذلك أمر الجدية.

وتدبر هذه الجدية، عندما وجد الحق ـ سبحانه ـ يحيى ـ عليه السلام ـ يعد نفسه بجدية منذ نعومة أظافره، ويقول لأقرانه من الصبيان الذين دعوه للعب: ما للعب قد خلقنا!

فأنعم الله عليه بنعمة الفهم لكتابه ـ سبحانه ـ وهو التوراة، وهو لـمَّا يزل بعدُ صغيراً، ثم أمره أن يواصل المسيرة ويأخذ الأمر بالجد والاجتهاد، والإصرار:   {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْـحُكْمَ صَبِيًّا}  [مريم: 12] . فإن كمال الإنسان مداره على أصلين: معرفة الحق من الباطل، وإيثار الحق على الباطل.

وما تفاوتت منازل الخلق عند الله ـ تعالى ـ في الدنيا والآخرة إلا بقدر تفاوت منازلهم في هذين الأمرين؛ وهما اللذان أثنى الله بهمـا سبحانـه على أنبيائه عليهم الصـلاة والسلام في قوله {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ}  [ص: 45].

فالأيدي: القوة في التنفيذ. والأبصار: البصائر في الدين.فوصفهم بكمال إدراك الحق وكمال تنفيذه.

وقد علَّم الحق ـ سبحانه ـ الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكل داعية يأتي من بعده أن هذا المنهج آخر حكم عدل، وأنه جد وحق: { إنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ. وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ}    [الطارق: 13 - 14].

وإنه لدرس لكل من أراد أن يكمل المسيرة، ويشارك الطليعة المؤمنة في همومها، وعبئها، أن يدرك مدى جدية المنهج، وجدية الطريق، وجدية التبعة.

وإنه لدرس عظيم أن ندرك قاعدة الجزاء من جنس العمل.

علي بن نايف الشحود

الاسم الثلاثي: علي بن نايف الشحود مكان الميلاد وتاريخه: سوريا -حمص - ريف حمص 16/ 7/1956 م التحصيل العلمي: لسانس التخصص العام: شريعة

  • 7
  • 4
  • 5,251
المقال السابق
الربانية
المقال التالي
الاهتمام بنشر الدعوة

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً