دلالات في مشي النبي (4)

منذ 2014-04-18

في ظلال مشيه صلى الله عليه وسلم:

وقد اعتنيت في هذا المبحث ببيان النص على حديث هند ابن أبي هالة لابن أخته الحسن رضي الله عنهما واصفًا مشي النبي صلى الله عليه وسلم، وما يحمله لنا من دلالات[1] تفصح عن محامد صفاته صلى الله عليه وسلم، وتطابقها مع خلقه ومنهجه، وذلك لتيسير الوصول إليها، والاقتداء بها، والاستفادة العملية منها، وذلك بعيدًا عن النظر في بلاغة الألفاظ في حد ذاتها؛ إذ ليس ذلك موضع البحث.

 علو الهمة والمثابرة في العمل مع التواضع:
صفتان عظيمتان قلما اجتمتعا معا، فكثيرٌ ممن أهمتهم همتهم وطموحاتهم المستقبلية تلوثوا بغثيان الكبر والاغترار والعجب، وكثير ممن أهمهم التواضع تراهم أفرطوا في التذلل إلى حد الزهد في طلب الهمم، فما عزموا على معالجة أنفسهم من داء العجب بالتواضع إلا وأصابوها بداء العزوف عن طلب الهمة والاستزادة من الطموح ومعالي الأمور، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبني لنا مثالاً جديدًا وسطًا بين هذا وذاك، يتضح ذلك في وصف مشيته صلى الله عليه وسلم؛ يقول هند بن أبي هالة رضي الله عنه واصفًا النبي صلى الله عليه وسلم للحسن رضي الله عنه: "كان إذا زال زال قَلِعا".

المعنى اللغوي: (الزَّوَّال: الذي يتحرَّك في مشيه كثيرًا وما يقطعه من المسافة قليل) [لسان العرب]، وهو دليل المثابرة في نيل الأمور، (وقَلِعا: معناه أنه إذا مشي وتَقَلَّعَ في مَشْيَتِه: مشَى كأَنه يَنْحَدِرُ، أَراد قوّة مشيه، وأَنه كان يرفع رجليه من الأَرض إِذا مشى رَفْعًا بائنًا بقوّة، لا كمن يَمْشِي اخْتِيالًا وتَنَعُّمًا، ويُقارِبُ خُطاه، فإِنّ ذلك من مَشْي النساء ويُوصَفْنَ به، وقال الأزهريّ: يقال هو كقوله: كأَنما يَنْحَطُّ في صَبَبٍ، وقال ابن الأَثير: الانْحِدارُ من الصَّبَبِ، والتَّقَلُّعُ من الأَرض قريب بعضه من بعض، أَراد أَنه كان يستعمل التَّثَبُّّت ولا يَبِينُ منه في هذه الحال اسْتعجال ومُبادرة شديدة) [لسان العرب].

وفي غريب الحديث ("إذا زال زال قلعًا" هو بمنزلة قول علي عليه السلام في وصفه: "إذا مشى تقلع") [غريب الحديث لابن قتيبة]، (التقلع:القوة في المشي مع تتابع الخطى) [دلائل النبوة للبيهقي].

(إذا مشى كأنما ينحط من صبب) (وكأَنما يَنْحَطُّ في صَعَد؛ هكذا جاءَ في رواية، يعني موضعًا عاليًا يَصْعَدُ فيهو ينحطّ،والمشهور: (كأَنما ينحط في صَبَبٍ) أَي في موضع مُنْحدر؛ وقال ابن عباس: أَراد به أَنه قويّ البدن، فإِذا مشى فكأَنه يمشي على صَدْر قدميه من القوة) [لسان العرب].

المعنى الدلالي: إذًا فقد كانت مشيتُه صلى الله عليه وسلم مفعمة بالحيوية والنشاط والهمة والحركة الشاملة المنتظمة مع القوة وتتابع الخطي الثابتة الرزينة بلا توقف ولا عجلة ولا اختيال أو تنعم أو تبختر، وكان صلى الله عليه وسلم يرفع رجليه من الأرض رفعًا بائنًا بقوة، ويمشي صلى الله عليه وسلم كأنما يصعد موضعًا عاليًا، وهذا الوصف دليل على التواضع والمثابرة وعلو الهمة أيضًا، والنشاط والتفاؤل، والتوكل والاحتساب، والحلم والصبر، وثبات المبدأ، ولم تختلف هذه المشية ولم تتبدل في العصرين المكي والمدني، بل كانت دومًا ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، في مرحلة الاستضعاف ومرحلة الجهاد، في المنشط والمكره، وفي العسر واليسر، إنها مشية ينبغي للنبلاء محاكاتها؛ ففيها الكثير من الرفعة وعلو الشأن والقدرة على إحكام الأمور وبسط الظل.

وقال هند بن أبي هالة رضي الله عنه ذريع المشية:
المعنى اللغوي: (والتَّذْرِيعُ في المشي: تحريك الذِّراعين وذَرَّع بيديه تَذْرِيعًا:حرَّكهما في السعْي واستعان بهما عليه، وقيل في صفته صلى الله عليه وسلم: إِنه كان ذَرِيعَ المشْي أَي سريعَ المشْي واسعَ الخَطْوة) [لسان العرب].

المعنى الدلالي: من المعروف أن استخدام الذراعين في المشي دلاله على انتظام المشية واتزانها واتزان الجسد كله معها، وهذا دليل على التوازن والاستقرار النفسي مع ما يحمله أيضا من دلالات معنوية أخرى تعبر عن السعي الصريح نحو الحق ووضوح الهدف ومعرفته للطريق الذي سيسلكه وعدم التردد في معرفة الوجهة التي سينتهجها، فالساعي نحو طريق بتردد هل يمضي فيه أم يمضي في غيره لا تراه أبدًا ينتهج هذه المشية، على خلاف عدّائي الماراثون مثلًا، وإن كان استخدامهم للذراعين بطريقة أكبر، وكذلك فيها دليل على تكاثر المسؤوليات والأعباء التي تنتظره، بل ينتظرها ويستقبلها على رحمة ورحب وسعة من أمره بحسبان مسبق منه صلى الله عليه وسلم، ولا تتحمل مشيات أخرى غير تلك المشية.

(يخطو تَكَفِّيًا):
المعنى اللغوي: يميل الى سمته وقصد مشيته؛ كما قال في الرواية الأخرى: "كأنما ينحط في صبب".
المعنى الدلالي: وليس كما زعم كثيرون أي مال يمينًا وشمالاً، كما تكفأ السفينة‏.
قال الأزهري‏:‏ "هذا خطأ؛ لأن هذا صفة المختال". [صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام، واختياره من المباح أسهله، وانتقامه لله عند انتهاك حرماته].‏

ويأتي وصفٌ درِّيٌ آخر يوضح لنا جزءًا من الصورة مفقودًا في قول هند بن أبي هالة رضي الله عنه "ويمشي هونا":
المعنى اللغوي: في غريب الحديث قوله: "يخطو تكفيًا ويمشي هونًا" يريد أنه يميد إذا خطا، ويمشي في رفق غير مُخال، لا يضرب عطفا"، والهون بفتح الهاء: الرفق؛ قال الله جل وعز: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: من الآية 63] [غريب الحديث لابن قتيبة].

المعنى الدلالي: قبل أن يتدافع لأذهاننا صورة غير واقعية عن مشيه صلى الله عليه وسلم تأتي كلمة (هونًا) وتكسر حدة التكفي والاقتلاع السابقين وحتى لا يتبادر للذهن أنها مشية خيلاء أو أن بها شيئًا من المرح أو الزهو،كما قال تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا}[الإسراء: 37].

قال قتادة: "لا تمش في الأرض فخرًا وكبرًا، فإن ذلك لا يبلغ بك الجبال، ولا تخرق الأرض بكبرك وفخرك"[تفسير الطبري]، وتأتي كلمة (هونًا) دليلا على تواضعه صلى الله عليه وسلم في مشيته وتطبيقا للآيتين الكريمتين اللتين ركزتا على صفة التواضع في المشي، ثم هي دلالة على تريثه وحلمه وأناته صلى الله عليه وسلم، واتزانه كذلك، ليكتمل المعنى الذي أوضحناه في العنوان: تواضع مع علو الهمة.

رحاب حسّان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الدلالة: ما يتوصل به إلى معرفة الشيء، كدلالة الألفاظ على المعنى، ودلالة الإشارات، وسواء كان ذلك بقصد ممن يجعله دلالة، أو لم يكن بقصد، قال تعالى: ﴿ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ ﴾ [سبأ: 14]، وأصل الدِلالة مصدر كالكتابة والإمارة، والدال: مَن حصل منه ذلك [مفردات الراغب].

  • 1
  • 0
  • 3,803

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً