الأسباب الخفية وراء استقلال كوسوفا

منذ 2008-02-23

ما الدافع الذي جعل تلك الدول الغربية تدعم استقلال "كوسوفا"، وهي الإقليم الذي يدين أغلبية سكانه بالإسلام، أكثر من 95 في المائة من سكانه مسلمين، وتحتل القومية الألبانية الرافد الأكبر من تعداد السكان الذي يزيد على 2.5 مليون نسمة؟


"الولايات المتحدة، وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا"، تلك الدول الغربية كانت من أوائل الدول التي اعترفت ودعمت هذه الدولة الأوروبية الوليدة "كوسوفا" في سعيها نحو الاستقلال عن صربيا.

ولعل السؤال الذي يطرح نفسه على كل متابع للشأن السياسي وقضايا المسلمين، هو:
ما الدافع الذي جعل تلك الدول الغربية تدعم استقلال "كوسوفا"، وهي الإقليم الذي يدين أغلبية سكانه بالإسلام، أكثر من 95 في المائة من سكانه مسلمين، وتحتل القومية الألبانية الرافد الأكبر من تعداد السكان الذي يزيد على 2.5 مليون نسمة؟

فهل رقّ لتلك الدولة الوليدة ضمير أمريكا بعد غفوة طويلة عاشها في العراق وأفغانستان؟ أم أنّ ساكوزي فرنسا شعر فجأة بالحزن على آلاف الكوسوفيين الذين راحوا ضحايا المذابح الصربية ـ وهو الذي أعلن أنّه لن يضع يده في يد من لم يعترف بإسرائيل، التي تتسبب في قتل مئات المسلمين الفلسطينيين كل يوم جراء حصارها لغزة ـ فسارع بالاعتراف.

أم أنّ بريطانيا العظمى ـ صاحبت وعد بلفور الذي مهد للصهاينة في فلسطين، وما زالت يدها ملوثة بدماء العراقيين ـ رأت أنّ في اعترافها بكوسوفا تعويضًا للأخطاء التاريخية في حق المسلمين.

معلوم أنّ الغرب برافديه الأمريكي والأوروبي حرص ـ وخاصة بعد أحداث سبتمبر ـ على التضييق على المسلمين في الغرب، فقد سنت القوانين ووضعت مواد في دساتيرها، غايتها حصار المسلمين والتضييق عليهم، حتى حظروا على فتيات المسلمين لبس الحجاب، ومنعوهم من بناء المساجد.

فما الذي دفع الغرب بعدائه الشديد للإسلام، أن يدعم استقلال دولة غالبيتها من المسلمين؟ لا شك أنّ وراء هذا الموقف أسبابا خفية، ولا شك أنّ الهوية الدينية والقيم الغربية، تأتي في مقدمة الأولويات، إضافة إلى المصالح الاقتصادية والمالية.

حقيقة الاستقلال:

كثير من البلاد تدعي الحرية والاستقلال، وأنّ لها سيادة على أرضها وشعبها، في الوقت الذي يوجد من يهيمن على قرارها السياسي، ويستنزف مواردها الاقتصادية والبشرية، ويضع لها نمط الحياة التي يجب أن تعيش عليه شعوبها، ويحدد لها أطر التفكير، ومعايير القيم.

فالاستقلال ليس مجرد عَلَمٍ أو حدود جغرافية أو حكومة لا تمثل إرادة شعبها، وإنّما هو سيادة حقيقية، ومرجعية حضارية، وانتماء حقيقي لهوية الأمة، وحكومة تُمثل تطلعات أمتها.

هل استقلت كوسوفا؟

تخلصت كوسوفا من السيطرة الصربية على مقدراتها، فهل تخلصت حقيقة من الهيمنة والسيطرة الغربية؟

وبصورة أقرب واقعية، فقد حرص الغرب على وضع كوسوفا تحت إدارة من الأمم المتحدة، بهدف إعادة بناء "كوسوفا"، من أجل ما يسمى استيفاء المعايير المسبقة للحصول على الاستقلال.

وتقود تلك الإدارة عملية التهيئة للاستقلال من خلال إعداد نخب قومية وعلمانية قوية ذات توجه غربي، يكون هدفها تطبيق المعايير الأوروبية، وتجعل من الاندماج في الاتحاد الأوروبي هدفًا أساسيًا لها بعد الاستقلال.

وهذا ما أشار إليه مستشار البيت الأبيض لشئون البلقان "كارلس إنجليز"، بقوله: "ألبان كوسوفا يريدون الاستقلال عن صربيا، وهو الأمر الذي ترفضه بلجراد، إنّ تحديد الوضع النهائي لكوسوفا يجب أن يكون على أساس ما قامت به المؤسسات الكوسوفية من تطبيق المعايير الغربية التي وضعت لهذا الشأن".

وربّما تكون عملية إعداد الشعب الألباني المسلم، أو قل عملية تغيير هويته، هي السبب الذي من أجله أُجلت عملية الاستقلال، ودفع الغرب لوضع الإقليم تحت إدارته وحمايته منذ 1999 حتى فبراير 2008، ليتأكد أنّ خطته نجحت، ومعاييره طبقت، وإعادة تشكيل الهوية يسير في مساره الذي رسم له.

كل ذلك يعني أنّ الشعب الألباني المسلم بعد أن تخلص من احتلال القوة "الصلبة" الممثلة في صربيا، أصبح يواجه احتلال القوة "الناعمة" الممثلة في الاتحاد الأوروبي ـ وأمريكا.

الأسباب الخفية وراء اعتراف الغرب بكوسوفا:

1 ـ وعت أمريكا والغرب منذ الوهلة الأولى من حرب الصرب ضد المسلمين الألبان، أنّ هذه الطريقة في حرب المسلمين لن تجدي نفعًا، وأنّه ربّما يؤدي ذلك إلى عودة روح الجهاد لمنطقة البلقان، كما حدث في البوسنة والهرسك. ونرى ذلك جليًا حين فرضت واشنطن على جيش تحرير كوسوفا أن يحل نفسه، ويسلم أسلحته ويتحول إلى حزب سياسي، للحيلولة دون سيطرته على السلطة أو تشكيل جيش مسلم مستقبلاً، فسعت لوقف آلة الحرب الصربية، ثم عملت بعد ذلك إلى طمس الهوية الإسلامية وإذابتها، وأنّها في حال لو تُركت كوسوفا دون استقلال، فسيكون هذا أحد العوامل التي ستُزْكي مشاعر الانتماء إلى الهوية الإسلامية، والإحساس بالظلم والاضطهاد الدائم، سيكون هو الموقد الذي يأجج الحماس للعودة للإسلام والتمسك به.

فكان التدخل العسكري ثم الاعتراف الرسمي من قبل الغرب باستقلال كوسوفا، كحركة استباقية لمنع الشعب الألباني من الالتفات والعودة إلى هويته وجذوره الإسلامية.

2 ـ كذلك حاولت أمريكا ومن ورائها الاتحاد الأوروبي تعظيم فكرة وجود "مسلمين معتدلين"، أو ثقافة إسلامية على الطريقة الأوروبية في منطقة البلقان.

وهذا ما يفسر القيود الداخلية من قبل حكومة كوسوفا نفسها على التيارات الإسلامية، بغية إزالة أي مخاوف غربية، وكذلك فرضت قيود أوروبية مماثلة عبر القوات الأوروبية على أي أنشطة لتيارات إسلامية ووصم أي أنشطة تهدف للعودة للدين بأنّها متشددة.

3 ـ هيمنة أوروبا، ومن ورائها أمريكيا، على الفناء الخلفي الروسي، واختراق متواصل للشرق الأوروبي، لمحاصرة روسيا قبل أن تستعيد عافيتها وتسعى للعودة للإرث الإمبراطوري السوفيتي القديم.

إضاءة على دعم روسيا للصرب:

تأتي الرابطة الدينية في مقدمة الروابط التي تصل روسيا بصربيا، فبعد انهيار المنظومة الشيوعية التي كانت لا تقيم وزنًا لأي دين، بدأ الشعور الديني يتنامى، ومن هنا جاءت أهمية هذه الرابطة، فالروس كالصرب ينتمون إلى الطائفة "الأرثوذكسية" خلافًا لأغلبية دول أوروبا الغربية التي تنتمي إلى المذهب الكاثوليكي أو البروتستانتي.

أما الروابط القومية، فتتمثل في كون الصرب والروس ينحدرون من قومية واحدة هي القومية "السلافية" واللغة الروسية قريبة في مفرداتها من اللغة الصربية، في حين ينحدر مسلمو كوسوفا من القومية الألبانية.

وأخيرًا، تبرز أهمية المصالح الاقتصادية والسياسة في أنّ روسيا تريد الاحتفاظ بموطأ قدم لها في أوروبا الشرقية، تحاول من خلاله فك الحصار الذي يطوقها يومًا بعد يوم من خلال اتساع النفوذ الأمريكي في المنطقة وانضمام أوروبا الشرقية إلى الناتو.

4ـ وبجانب ما سبق، فإن هناك حقيقة أخرى تجعل كوسوفا مطمعًا للغرب وتحد من محاولات إقامة دولة إسلامية، ألا وهي الخيرات الكثيرة التي تنعم بها ويتوقع أن تصب في صالح الاتحاد الأوروبي.

فكوسوفا رغم أنّ مساحتها لا تتعدى حوالي 11 ألف كم2، إلاّ أنّها تعتبر من أخصب المناطق في البلقان وأغناها بالثروة المعدنية، حيث إنّه على مستوى الاتحاد اليوغسلافي السابق كان هذا الإقليم ينتج وحده ما نسبته 75% من الرصاص والزنك و60% من الفضة و50% من النيكل و20% من الذهب.

كما تحتوي على 100% من احتياطي البسموس و79% من احتياطي الفحم و61% من احتياطي المغنيسيوم، وتوجد في كوسوفا أيضًا كميات كبيرة من البوكسيت الحديدي والجاليوم والحديد والنحاس والزئبق وتزرع القمح والشعير والشوفان وزهرة دوار الشمس والبنجر، وبالنظر إلى تركز كل هذه الثروات الطبيعية فيها، كانت دومًا هدفًا للطامعين على مر التاريخ ويرجح أن يستمر هذا مستقبلاً.

وأمام ما سبق، يتفق كثير من المراقبين أنّه في ظل حاجة أوروبا وأمريكا لإخماد أي نزعة دينية عند الكوسوفيين، وطمس الهوية الإسلامية لذلك الشعب المسلم، كان يجب التدخل للسيطرة على ذلك الإقليم بالقوة "الناعمة" والتي تأتي عبر التدخل بأساليب الغزو الفكري، والتلويح بجزرة الاستقلال أو عصا صربيا.

إنّ القضية الأهم التي أصبحت محل إجماع بين أوروبا والولايات المتحدة، هو وجوب إعلان دولة مستقلة تسمى "كوسوفا"، لكن بدستور علماني وهيمنة مسيحية.

 

أحمد عمرو
كاتب مصري


المصدر: مجلة العصر
  • 21
  • 2
  • 17,764
  • عبد الهادي1969

      منذ
    [[أعجبني:]] مقال فيه الكثير من الصواب، و ما يعيشه المسلمون اليوم في كوسوفا هو نفس ما عاشه المسلمون في جميع اقطارهم. فحين كان المستعمر يصول و يجول بين اظهرنا كانت المقااومة الاسلامية هي التي تاخذ على عاتقها التصدي له و مقاومته باسم الجهاد و باسم الدين و يبذل الناس في سبيل ذلك الغالي و النفيس، حتى اذا راى المستعمر نفسه على وشك السقوط هيأ و بسرعة نخبة تعتنق فكره و افكاره و سلمها الحكم لتسير على نهجه و تخلفه في خذمة مصالح بعد خروجه. و يضطهد المسلمون بعدما كانوا هم الدين جلبوا الاستقلال.
  • لقمان

      منذ
    [[أعجبني:]] الشيء الدى اعجبنى هو الارقام و المعلومات المقدمة من طرفكم عن الثروات التى تمتلكها كوسوفو والاطماع الغربية و الامريكية [[لم يعجبني:]] انكم لم تقدمو بالتفصيل اطماع كل دولة
  • ابو عبدالله

      منذ
    [[أعجبني:]] جزاك الله خير استاذ أحمد على هذا التوضيح حول موضوع استقلال كوسوفالأنه كان تدور في ذهني تساؤل وهو: لماذا يقف الغرب الكافر مع استقلال هذا الإقليم؟؟!! بعد قراتي لمقالتك وضحت لي أمور كنت أجهلها بوركت ورفع الله قدرك
  • محمد عبدالفتاح

      منذ
    [[أعجبني:]] شكرا اخي علي هذا المقال القيم فأنا عند متابعتي للاحداث كنت موقنا بهذه النظرية و لكن لم يكن عندي احصاءاتك اللتي بينت خير تبيين الثروات الطبيعية في كوسوفا ... و انا موقن جدا بانه فور هدوء الوضع سيتم التهام كوسوفو في المستقبل من قبل الغرب و الفاتيكان ... اما بالتنصير و اما بطريقة الايدي الناعمة و تركيب حكومة موالية للغرب
  • أنس حاجي حمدو

      منذ
    [[أعجبني:]] التقييم بأن هنالك أهداف أمريكية أو غيرها من الدول الأوربية لا بأس به [[لم يعجبني:]] اننا مع الأسف ندين الغرب في هذا الموضوع و لكن ما سألت نفسك كم دولة عربية أو اسلامية أعترفت في كوسوفا ؟ هل فكرت كم مدرسة خيرية أو مشفى خيري على حساب دولة اليهود موجودة في كوسوفا ؟و لكن لا يوجد مشفى واحد لدولة أسلامية أو عربية. لا يجب أن نضع جميع اشارات الاتهام للغرب بل يجب أن نشير الى مدى هوان العرب و المسلمين.
  • عزيزي عبد القادر

      منذ
    [[أعجبني:]] النقاط المذكورة في هذا الموضوع قوية جدا فبالرغم من ان استقلال كوسوفو يصب في مصلحة الغرب الا ان الاضافات التي ذكرتموها جد مفيدة دون ان نعود الا المحللين الذين يضهرون في التلفاز ويتكلمون وفق برامج مدروسة ومخططا لها
  • ضياء الدين

      منذ
    [[أعجبني:]] المقاله ممتازة التحلبل و العرض . الصدق و الواقعيه
  • ابو سيف

      منذ
    [[أعجبني:]] مقال أكثر من رائع يجلي الحقيقة ويدحض كل من يزعم بتعاطغ الغرب مع المسلمين في كوسوفو علما أن الغرب يبحث عن مصالحه أولا وأخير
  • الطويل

      منذ
    [[أعجبني:]] تحليل واقعي ومدروس وينم عن خلفية مدركة لجميع الحقائق والمعلومات. بارك الله فيك
  • ابو البراء

      منذ
    [[أعجبني:]] لافض فوك وكثر الله من امثالكم في امتنا العربيه والأسلاميه!...

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً