كن صحابيًا - (5) الصحابة والعلم

منذ 2014-05-02

قضية العلم هي القضية الأساسية التي بُنِي عليها الدين، وهذا النزول لكلمة: {اقْرَأْ}، إنما هو إيذان وبيان، وإيضاح لطبيعة هذا الدين، وأنه لا يقوم على الخرافات، أو الأوهام والضلالات، ولا يقوم على الجهل، والتخبط، وإنما يقوم على أسس علمية ثابتة، ومعروفة، فهذا الدين يشجع أبناءه على أن يكونوا علماء سابقين، ليس مجرد العلم، بل السبق فيه، والريادة، والتفوق..

ما زلنا نبحث عن إجابة السؤال الهام: كيف سبق الصحابة؟ وكيف نلحق بهم؟!
الصحابة في المقال الماضي تعرفنا على علامة مهمة جدًا من علامات طريق الصحابة، وهي علامة الإخلاص، وحديثنا الآن عن نقطة هامة جدًا في بناء جيل الصحابة، وهامة جدًا في بناء أي جيل يريد أن يصل إلى ما وصلوا إليه، هذه النقطة هي العلم، وكما ذكرنا أن العمل لا يقبل دون إخلاص، فكذلك لا يمكن أن يقبل العمل دون علم، إن الكثير من الناس يعبد الله عز وجل بنية صادقة، لكن بطريقة خاطئة، وبدون علم، فمثل هذا يضر، ولا ينفع إن وجد في أي مجال من مجالات الحياة، ليس فقط في مجال الدين، فالطبيب الجاهل يضرّ مرضاه، ولا ينفعهم، وكذلك المهندس الجاهل، والنجار الجاهل، وأي وظيفة يعمل فيها الإنسان دون علم، وأيضًا في مجال العبادة، فإن العابد الجاهل يضر نفسه، ويضر غيره، ويضر مجتمعه، فقضية العلم قضية محورية في حياة الأمة المسلمة.

ولا شك أن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم لاحظوا أن أول آية نزلت من القرآن الكريم، الذي هو دستور الحياة بكاملها كانت: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، وهذا شيء غريب حقًا فإن الزمن الذي نزلت فيه هذه الآيات لم تكن الأميّة منتشرة في جزيرة العرب فحسب، بل في أطراف المعمورة كلها، ومن بين كلمات القرآن الكثيرة كانت أول كلمة هي {اقْرَأْ} [العلق:1]، وليست أول كلمة فحسب، بل أول خمس آيات من القرآن الكريم تتحدث كلها عن قضية العلم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ . عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5].

قضية العلم هي القضية الأساسية التي بُنِي عليها الدين، وهذا النزول لكلمة: {اقْرَأْ} [العلق:1]، إنما هو إيذان وبيان، وإيضاح لطبيعة هذا الدين، وأنه لا يقوم على الخرافات، أو الأوهام والضلالات، ولا يقوم على الجهل، والتخبط، وإنما يقوم على أسس علمية ثابتة، ومعروفة، فهذا الدين يشجع أبناءه على أن يكونوا علماء سابقين، ليس مجرد العلم، بل السبق فيه، والريادة، والتفوق، لنتأمل الفرق بين الدنيا إذا كانت بعلم، والدنيا إذا كانت من غير العلم، ولنتدبر هذا الحديث بألفاظه التي ربما تكون غريبة علي آذاننا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلفت النظر إلى هذا المعنى الدقيق، روى الترمذي وقال: حسن، وكذلك قال ابن ماجه وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا».

أيُّ شيء في الدنيا ملعون، هكذا على إطلاقها، الدنيا كل الدنيا، كل ما فيها ملعون، ومَن الذي يلعن هذا؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا ينطق عن الهوى، هذا وحي من الله عز وجل، كل شيء في الدنيا ملعون، ليس له قيمة، وإنما هو تافه، وحقير، حتى لو كان مُلْكًا، ولو كان سُلْطَانًا، لو كان سلاحًا، لو كان قوةً إلا أربعة أشياء استثناها الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه اللعنة )إِلَّا ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا وَالَاهُ(، أي ما أحبه الله عز وجل من أعمال في الدنيا، أو ما والى الذكر، أي ما قارب الذكر من أعمال الطاعة، والبر، وغيرها، فأعمال الطاعة المحببة إلى الله عز وجل هذه أيضا خارجة من اللعنة، وماذا أيضًا؟ الثالثة والرابعة (وَعاَلِمًا، وَمُتَعَلِّمًا).

هذين الاثنين أيضًا فيهم استثناء من اللعنة، فهذه العملية التعليمية التي تدور بين العالم، والمتعلم عملية عظيمة جدًا في ميزان الله عز وجل، ومن كان خارج نطاق هذه العملية، فهو على خطر عظيم جدًا، إنه ملعون بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك فَطِنَ الصحابة أن القيمة الحقيقية التي تصلح للمفاضلة بين الناس هي العلم، التفاضل بين الناس لا يكون بمالٍ، ولا سلطانٍ، ولا جندٍ، ولا سطوٍ، ولا مظهرٍ، المهم هو كم تعرف من العلم؟ قد يقول قائل: "ولكن الله عز وجل قال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]، فالأتقى هو الأفضل"، أقول له: ومن الذي يتق الله عز وجل؟ أليس العالم به عز وجل وبصفاته سبحانه وتعالى؟ أليس العالم بشرعه؟ أليس العالم بخلقه؟ هذا هو من يتقي الله عز وجل، أليس الله عز وجل يقول في كتابه العزيز: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر:28].

والخشية هي التقوى، فمن يخش الله إنما هو يتقيه، وكلما ازداد العالم علمًا كلما ازداد خشية لله عز وجل، ولست أقصد بالعالم هنا كبار هيئة العلماء، وكبار الفقهاء، لا، فكل من عرف معلومةً واحدة أصبح بها عالمًا، وكلما عرف الإنسان أكثر كلما ارتفعت قيمته، وأعظم الناس قيمةً إنما هم العلماء، ليس في ميزان الناس فحسب، بل في ميزان الله عز وجل أيضًا، فهذه المعلومات في غاية الأهمية، ومن ثَمّ كان من يصرف وقته في تعلم العلم أفضل ممن يصرف وقته في العبادة، لا أقول أفضل ممن يضيع وقته في اللعب، أو المعاصي، أو المنكرات، بل أفضل ممن يصرف وقته في العبادة، تأمل معي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي وابن ماجه أيضًا عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ".

انظروا إلى أي مدى وصلت قيمة العلم، ليس العالم أشد على الشيطان من ألف عاص، أو لاعب، بل من ألف عابد، وذلك؛ لأن العالم أشد معرفة لمداخل الشيطان، وأكثر قدرة على التصدى له، ولست أقصد بالعلم العلم الشرعي كعلم التفسير، والفقه، والحديث، والعقيدة فحسب، لا، بل علوم الحياة كلها، ومما لا شك فيه أن العالم الذي يدرس تركيب الخلية مثلًا أكثر تقديرًا لله عز وجل من الذي يعلم وجودها إجمالًا، فالخلية مع صغرها تمثل عالَمًا ليس له نهاية، وفيها قيادة، وإدارة، ومراكز طاقة، ومراكز تغذية، ومراكز دفاع، ومراكز بناء، ومراكز هدم، تتحرك، وتتكاثر، وتقوم بوظائف لا تحصى ولا تُعد..

ولا شك أن من يعرف كل هذه التفاصيل سيكون أشد خشية لله ممن لا يعرفها، أو أنه يعرف فقط أن هناك شيءٌ اسمه خلية، كذلك العالم الذي يدرس تفاصيل حياة النبات، ونشأته، وتركيبه، ليس كمن يعلم فقط أن النبات شيءٌ معجز، والعالم الذي يدرس الأفلاك واتساعها، والنجوم وأعدادها، والمجرات وصفتها، ليس كالذي يعلم فقط أن هناك نجومًا في السماء، وقس على هذا كل العلوم؛ الكيمياء، والفيزياء، والجولوجيا، وعلوم البحار، والطب، والأحياء، علوم لا تنتهي وصدق الله عز وجل القائل: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85].

فكل هذه العلوم علوم الشرع، وعلوم الحياة تقود إلى خشية الله عز وجل، ومن ثَم تقود إلى تقواه، ومن ثَم تقود إلى رضى الله عز وجل، وهذا هو ما نبحث عنه.هذه الحقائق كانت واضحة كالشمس في عيون الصحابة، وقد رفع الصحابة جدًا من قدر كل عالمٍ، وحرصوا على العلم في كل لحظة من لحظات حياتهم، فلا بد كل يوم من تعلم الجديد، وقد رفع الله عز وجل من قيمة العلم من أول يوم خلق فيه آدم عليه السلام، انظر إلى أي مدى رفع الله قيمة العلم، لماذا أَسْجَد الله عز وجل الملائكة لآدم عليه السلام؟ وبماذا تميّز هذا الخلق الجديد (آدم) على الملائكة؟ هل بكثرة التسبيح؟ أم بطول القيام؟ أم بالطاعة المطلقة لله تعالى؟ أم بالقوة الخارقة؟

الملائكة تتفوق في كل هذه الأمور، ولكن الله عز وجل مَنّ على آدم عليه السلام بنعمة رفعت من قدر آدم إلى الدرجة التي جعل الملائكة يسجدون له تكريمًا له، هذه القيمة وهذه الدرجة هي العلم، قال تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ} [البقرة:31-32]، ونلاحظ تكرار كلمة العلم ومشتقاتها {قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ . وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ} [البقرة:33-34].

لماذا سجد الملائكة لهذا الخلق الجديد؟! لأنه يعلم ما لا تعلمه الملائكة، فرفع قدره لأجل أنه يعلم، فهو عليه السلام مستخلف في الأرض، وكذلك ذريته مستخلفة في الأرض لأجل العلم، فإذا فقد أبناء آدم هذه الصفة، فقدوا المبرر لكونهم خلفاء في الأرض، فتصبح حياتهم بلا قيمة، فغاية الخلق إذًا هي هذا العلم، وإذا لم تتحقق هذه الغاية فكأنك لم تخلق أصلًا، وهذا ما يجعل العلم في منزلة عالية جدًا في الإسلام، العلم إذًا هو أساس الاستخلاف في الأرض، ومن غير العلم لا نستحق أن نكون خلفاء في الأرض، وما حدث مع آدم عليه السلام حدث مع جميع من أتى بعده من الأنبياء، ولم يذكر الله عز وجل نبيًا من الأنبياء إلا وذكر في حقه أنه كان عالمًا، وأنه أُوتي علمًا، وأنه فُضل بالعلم. يقول الله عز وجل في كتابه الكريم على لسان إبراهيم عليه السلام: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ العِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم:43] .

فالذي يُتّبع هو الذي عنده علم، الذي يكون سببًا في هداية الناس هو العالم، الصحابة رضي الله عنهم كانوا ينظرون إلى العلم نظرة خاصة جدًا، ونظرة معظمة جدًا، نظرة تُجلّ العلم، وتُجلّ كل من حمل العلم، وتعالوا بنا نرى كيف كان صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يقدرون قيمة العلم.

زيد بن ثابت رضي الله عنه:
ما هي قصته مع العلم وكيف بدأ؟ ذهب زيد بن ثابت رضي الله عنه وهو لم يتم الثالثة عشرة من عمره ليلتحق بجيش المسلمين المشارك في بدر، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردّه لصغر سنه، فرجع إلى أمه رضي الله عنها، وأرضاها يبكي من الحزن، ولكنه لما رجع أخذ يفكّر كيف يخدم الإسلام بطريقة أخرى، وهل يمكن أن يخدم الإسلام بطريقة غير الجهاد الذي لم يتيسر له الآن؟

الكثير منا عندما يفشل في أحد مجالات الدعوة، أو أحد مجالات الإسلام، أو يغلق أمامه أحد أبواب العمل للإسلام دون إرادته، فهو مثلا يريد الجهاد، لكن لم تتوفر الفرصة لذلك، أو هو يريد الإنفاق وليس معه ما ينفقه، أو عنده الرغبة للعمل لدين الله عز وجل، لكن يظن أن ليس عنده إمكانيات، وربما يُصاب بالإحباط، أو يظن أن الدنيا ضاقت عليه، لكن في الحقيقة الإمكانيات مختلفة، وكل واحد منّا يستطيع أن يعطي للإسلام كلٌّ في مجاله، وهذه هي عظمة الإسلام، وعظمة التكامل، والتكافل، والتعاون في الإسلام، فزيد بن ثابت رضي الله عنه إن لم يكن يصلح أن يشارك في الجهاد الآن لصغر سنه، فيمكن أن يشارك في مجالات أخرى يخدم بها الإسلام، وينفع بها المسلمين.

زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه ذكر أنه يتميز بملكة الحفظ، فهو يحفظ جيدًا، ويتميز كذلك بملكة القدرة على التعلم، وبملكة القراءة، والقراءة في هذا الوقت كانت شيئًا نادرًا، وقد أخبر بذلك أمه، وأقاربه، وطلب منهم أن يذهبوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليعرضوا عليه أن يوظف طاقاته العلمية هذه في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي خدمة الإسلام، وبالفعل ذهبت أمه النوار بنت مالك رضي الله عنها وأرضاها، ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولنتأمل عرضها الرائع لما يتمتع به ابنها من مواهب وقدرات عظيمة، تقول: "يا نبي الله، هذا ابننا زيد بن ثابت يحفظ سبعة عشرة سورة من كتاب الله، ويتلوها صحيحة كما أنزلت على قلبك، وهو فوق ذلك حاذق-ذكي- يجيد الكتابة والقراءة"، وهذه فعلًا إمكانيات عالية جدًا في هذا الوقت، الذي لا تعرف فيه الغالبية العظمى من الناس القراءة ولا الكتابة، وتكمل السيدة النوّار بنت مالك وتقول: "وهو يريد -أي زيد- أن يتقرب بذلك إليك، وأن يلزمك، فاسمع منه إذا شئت".

وهذا الكلام أحب أن أذكّر به دائمًا شباب المسلمين، زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه بدأ رحلته في خدمة الإسلام وعمره 13 سنة، فكما كان بعض المسلمين يسدّ ثغرة القتال، والجهاد في سبيل الله، فإن زيد بن ثابت يريد أن يسد ثغرة أخرى في غاية الأهمية، فكل حسب إمكانياته، وقدراته، والشباب لديهم قدرات، ومهارات عالية جدًا، بعض الشباب لديهم مهارة في الكمبيوتر، وبعضهم لديه مهارة في الخطابة، والبعض لديه مهارة في الرياضة المفيدة، وبعضهم لديه مهارة في الكتابة والبحث والدراسة، وبعض الشباب عنده مهارة في الترجمة، وبالتأكيد فإن كل إنسان لديه مجال ما قد تفوق فيه، ومتى وُجدت الرغبة في خدمة الإسلام، وُجد معها المجال الذي يمكن أن تخدم من خلاله الإسلام.

تعالوا بنا نعود مرة أخرى لزيد بن ثابت، وقد استمع له الرسول صلى الله عليه وسلم، واختبره وقدّر مواهبه، وأُعجب به، ثم أراد أن يستفيد منه على نطاق أوسع، فعرض عليه فرعًا جديدًا من فروع العلم، النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل له تعلم الفقه، أو تعلم العقيدة، أو تعلم الحديث، بل قال له: تعلم اللغات الأجنبية، تخيّل في هذا العمق التاريخي رسول الله صلى الله عليه وسلم مهتم بتعلم اللغات الأجنبية، ويعرف أهميتها جيدًا في تكوين الأمة المسلمة، فهو علم في غاية الأهمية، قال له صلى الله عليه وسلم تعلم اللغة العبرية، لكن ليس على حساب اللغة العربية، والمسلمون كانوا في حاجة ماسة إلى هذه اللغة في هذا الزمن، قال له صلى الله عليه وسلم: «يَا زَيْدُ تَعَلَّمْ لِي كِتَابَةَ الْيَهُودِ فَإِنِّي لَا آمَنُهُمْ عَلَى مَا أَقُولُ».

ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان يعيش معنا في هذا الزمن لأمر من يتعلم اللغات الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والصينية، وغيرها، كم هو مهم أن يكون من شباب المسلمين من يتعلم اللغات الأخرى غير اللغة العربية -وليس على حسابها بالطبع- كم هو مفيد أن يتعلم الشباب هذه اللغات المختلفة، وكم يكون خدمة الإسلام، والأمة الإسلامية من خلال تعلم هذه اللغات، كم من الحيل والألاعيب والخطط يمكن أن يكشفوا، وكم من الوسائل يمكن أن يدعوا بها إلى الله، وكم من الشبهات يستطيعون الرد عليها، إنه عمل عظيم، وكبير بالفعل، يمكن أن يقوم به من تعلموا اللغات الأخرى وأجادوها.

سيدنا زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه بهذه الحمية، وهذا الإخلاص لدين الله عز وجل، وهذه الرغبة في خدمة هذا الدين يذهب، ويتعلم اللغة العبرية، تُرى ما المدة التي استغرقها في تعلم هذه اللغة؟ سنة أم اثنين؟ وبكم كلية التحق؟ وكم أخذ من الدورات المتخصصة؟ يقول رضي الله عنه وعمره 13 سنة فقط: "فتعلمتها في سبع عشر ليلة، فكنت أتكلمها كأهلها"! انظر إلى هذه البركة، فمن كان عنده الرغبة، فما من شك أن الله عز وجل يساعده، المهم أن يكون تعلمه لخدمة دين الله عز وجل، لكي يثبت دين الله في الأرض، ثم تعلم اللغة السريانية في وقت يسير كذلك، وصار بذلك ترجمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يعني أن مترجم الدولة الإسلامية في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عمره 13 سنة فقط، الصف الأول الإعدادي!

وبدأ زيد يترقى في مناصب العلم، بدأ في تخصصه يبرع وينبغ رضي الله عنه وأرضاه، صار كاتبًا للوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس مترجمًا فحسب؛ لأنه يقرأ ويكتب جيدًا، بدأ يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سار حافظًا لكتاب الله عز وجل، وقد كان هذا شيئًا نادرًا في الصحابة رضي الله عنهم، أن يكون الواحد منهم يحفظ الكتاب كاملًا في زمان رسول اله صلى الله عليه وسلم، فقد وجد من الصحابة من كان حافظًا للكتاب كاملًا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لم يكن كثير منهم يحفظه كاملا والرسول صلى الله عليهم وسلم حيًا، ومن القليل الذي كان يحفظه زيد بن ثابت رضي الله عنه.

ولمّا توفي الرسول صلى الله عليه وسلم، كلف أبو بكر رضي الله عنه زيدًا بجمع القرآن بعد وفاة الكثير من حفاظه في موقعة اليمامة المشهورة، ومهمة جمع القرآن من أعظم المهمات، مهمة من أخطر المهمات، إنه يجمع القرآن الكريم؛ لكي يظل مجموعًا ومحفوظًا إلى يوم القيامة، هذه المهمة الصعبة العظيمة كُلّف بها زيد رضي الله عنه وأرضاه، وهو لم يبلغ الثالثة والعشرين من عمره، وقد أوكلت هذه المهمة الصعبة العظيمة إلى الشاب الصغير زيد بن ثابت -23 سنة- في وجود عمالقة الصحابة، في وجود أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وغيرهم في وجود كل هؤلاء، لماذا؟!

إنه العلم الذي رفع من قدر زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، العلم الذي يرفع أقوامًا ويضع آخرين، العلم الذي هو ميراث الأنبياء، من أخذه أخذ بحظ وافر، لننظر ما يقوله سيدنا عمر بن الحطاب رضي الله عنه وأرضاه، وهو أحد عمالقة الصحابة، وأحد شيوخهم، يقول في حق هذا الشاب: "من أراد أن يسأل عن القرآن، فليأت زيد بن ثابت" هذا تعظيم وتبجيل لقيمة العلم.

عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة، وكانوا يطلقون عليه أيضا البحر لسعة علمه، فهو البحر، وهو الحبر رضي الله عنه وعن أبيه، روي أن زيد بن ثابت ركب يومًا، فأخذ ابن عباس بركابه. الاحترام، والتعظيم، والتبجيل لزيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه مع أن الفرق بينه وبين زيد بن ثابت ليس كبيرًا، ثمان سنوات فقط فرق العمر بينهما، زيد بن ثابت أكبر من عبد الله بن عباس بثمان سنوات فقط، يقول له زيد بن ثابت حياءً منه: "دع عنك يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم".

يقول عبد الله بن عباس بفهم عميق: "هكذا أُمِرْنا أن نفعل بعلمائنا"، هذا هو احترام العلماء في الإسلام، انظر إلى هذا الجمال في التعامل بين الصحابة، فقال له زيد رضي الله عنه: "أرني يدك"، فأخرج ابن عباس يده، فمال عليها زيد وقبّلها، ثم قال: "هكذا أمرنا أن نفعل بآل بيت نبينا محمد صلى الله عليه وسلم".

ما هذا المجتمع الرائع؟! ليتنا نقرأ هذا الكلام ليكونوا قدوة لنا، هذا هو المجتمع الصالح الذي نريد أن نبني مثله، ولما مات زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه قال أبو هريرة: "اليوم مات حبر الأمة"، وقد مات رضي الله عنه سنة 45 هجرية، وكان عمره 56 سنة، ثم قال أبو هريرة: "وعسى أن يجعل الله في ابن عباس خلفًا له"، وصدق أبو هريرة كان عبد الله بن عباس نعم الخلف لنعم السلف رضي الله عنهم جميعًا.

معاذ بن جبل رضي الله عنه:
أسلم رضي الله عنه وعمره 18 سنة، شهد العقبة، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد بدرًا، وأحدًا، والأحزاب، وفتح مكة، وتبوك، وخرج في الفتوحات الإسلامية في الشام أيام أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، وكان في وقت من الأوقات أميرًا للشام، وسبحان الله مع كل هذه الحياة الجهادية إلا أنه كان متفوقا جدًا في مجال العلم، فهو رضي الله عنه من يوم أن أسلم، وهو مهتم بقضية العلم، وقد كان رضي الله عنه وأرضاه موسوعة علمية متحركة، وقد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ليعلم أهلها جميعًا الإسلام، وقد عاد رضي الله عنه من اليمن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وخرج بعدها إلى الشام، فالجهاد، وطلب العلم يسيران معه جنبًا إلى جنب.

أبو إدريس الخولاني رحمه الله، وهو أحد التابعين يقول في حق معاذ بن جبل: "أتيت مسجد دمشق، أيام فتوحات الشام، فإذا حلقة فيها كهولٌ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم"، أي أن هذا اللقاء في هذا المسجد كان يحضره كبار صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وشيوخهم..

يقول أبو إدريس الخولاني رحمه الله: "وإذا شابٌ فيهم أكحل العينين، براق الثنايا، كلما اختلفوا في شيء ردوه إلى الفتى"، كل هؤلاء الشيوخ يعودون في الرأي إلى هذا الفتى، "فقلت لجليس لي: من هذا؟!"، تعجب أبو إدريس الخولاني من هذا الأمر، فقال: "معاذ بن جبل"، رضي الله عنه وأرضاه.

أرأيتم قيمة العلم، وقيمة تحصيله من لحظات الشباب الأولى، فمعاذ رضي الله عنه ومنذ لحظات شبابه الأولى، وهو يبذل جهده في تحصيل العلم، ومن ثَمّ وصل إلى هذه المنزلة العالية بين الناس، وعرف الناس له قدره، وقدر العلم الذي يحمله. ويروي يزيد بن قطيب رحمه الله، وهو أيضًا من التابعين، يقول: "دخلت مسجد حمص، فإذا أنا بفتى جعد الشعر، واجتمع حوله الناس، فإذا تكلم كأنما يخرج من فِيهِ نور ولؤلؤ، فقلت من هذا؟! فقالوا: معاذ بن جبل، رضي الله عنه"، إنه رضي الله عنه وأرضاه موسوعة علمية فعلًا، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حقه كلمة عجيبة للغاية قال: «أَعْلَمُ أُمَّتِي بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ» (صحيح ابن ماجة:125).

إذًا فمعاذ رضي الله عنه لا يقارن بطلبة في معهد إسلامي، أو كلية شرعية، بل هو يقارن بعمالقة الصحابة رضي الله عنهم جميعًا، حيث شهد له الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم هذه الشهادة العظيمة. لأجل هذا كان الصحابة رضوان الله عليهم مع علو قدرهم، وغزارة علمهم، كانوا إذا تحدثوا، وفيهم معاذ بن جبل نظروا إليه هيبة له، وتعظيمًا لعلمه، ما الذي رفع قدره؟ما الذي أعزّ منزلته؟ إنه العلم، وقد فقه ذلك معاذ رضي الله عنه وأرضاه، فظل إلى آخر لحظات حياته طالبًا للعلم، وظلّ إلى آخر لحظات حياته، معلمًا لغيره رضي الله عنه وأرضاه، قال في آخر لحظات حياته، وهو على فراش الموت، قال: "اللهم إنك كنت تعلم أني لم أكن أحب الدنيا، وطولَ البقاء فيها لغرس الأشجار وجري الأنهار".

هو يفهم حقيقة الدنيا جيدًا، إذًا فما الذي كان يجعله سعيدًا في الدنيا، يقول رضي الله عنه: "ولكن لظمأ الهواجر--أي الصيام في الأيام الشديدة الحرارة- ومكابدة الساعات -أي القيام بين يدي الله كثيرًا-، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر". فمتعته رضي الله عنه في الدنيا الصيام، والقيام، وتحصيل العلم، وهو يعيش في الدنيا لأجل هذا، ومع هذا كله عندما توفي سيدنا معاذ كان عمره 37 عامًا فقط، سنة 18هـ في طاعون عمواس في الشام، أعلم الأمة بالحلال والحرام، وكل هذا العلم، وكل هذا الفهم، ومع هذا 37 سنة فقط، رضي الله عنه وأرضاه.

عبد الله بن عباس رضي الله عنه:
البحر والحبر، من أفضل علماء الإسلام، ووصل إلى هذه الدرجة العالية من العلم، مع كونه كان طفلًا أيام النبي صلى الله عليه وسلم، فقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن عباس لم يتجاوز 14 سنة من عمره، ولكنه رضي الله عنه لم يصل إلى هذه المنزلة من فراغ، بل إنه سعى سعيًا حثيثًا لكي يصبح عالمًا من علماء الإسلام.

يصف عبد الله بن عباس حاله في طلب العلم وكيف وصل إلى هذه الدرجة يقول: "كان إذا بلغني الحديث عند رجل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أتيت باب بيته في وقت قيلولته"؛ حتى يكون متأكدًا من وجوده ببيته، وقد ينتظر ساعة، أو اثنين حتى يخرج الصحابي، فيسأله عن الحديث، يقول: "وتوسدت ردائي عند عتبة داره، فتسفي عليه الريح من التراب ما تسفي"، والمدينة كما نعرف بلد صحراوي، فيأتي التراب على وجه عبد الله بن عباس، وهو متوسد رداءه أمام بيت الصحابي؛ ليسأله عن الحديث، يقول: "ولو شئت أن أستأذن عليه لأذن لي".

فهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله منزلة عالية في قلوب جميع الصحابة، وجميع المسلمين، يقول: "وإنما كنت أفعل ذلك لأطيّب نفسه، فإذا خرج من بيته رآني على هذه الحالة، فيقول: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما جاء بك؟ هلا أرسلت إليَّ فآتيك". فأقول: "أنا أحق بالمجيء إليك، ثم أسأله عن الحديث"، لأجل هذا أصبح عبد الله بن عباس حبر هذه الأمة، كان يبذل مجهودًا كبيرًا، وعظيمًا لأجل أن يحصل العلم، فما كان ليصبح هكذا من فراغ.

قد يتكاسل بعضنا أن يذهب إلى المكتبة في الحجرة المجاورة ليعرف حديثًا من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، بينما عبد الله بن عباس ينام في الريح، والتراب لكي يعرف هذا الحديث، ومن دون هذا التعب، وهذا الجهد، وهذا العناء لم يكن عبد الله بن عباس ليصل إلى ما وصل إليه، وليتنا نقرأ هذا الكلام للقدوة، والاعتبار، واقتفاء الأثر، وحتى نسير في نفس الطريق الذي سار فيه الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. فهذا هو مجهود الصحابة في تحصيل العلم، واحترام الصحابة لقيمة العلم.

ضوابط تحصيل العلم عند الصحابة:
بعض الناس يبذل جهودًا ضخمة، وكبيرة في تحصيل العلم، ومع هذا كله لا يصل إلى ما وصل إليه الصحابة من العلم، والسبب في ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتعلمون العلم وفق ضوابط وقوانين معينة، وقد حافظ جيل الصحابة كله على هذه الضوابط، ومن ثَم تعلم هذا الجيل، ووصل إلى هذه الدرجة من العلم، فما هي إذًا هذه الضوابط؟ في الحقيقة هذه الضوابط كثيرة جدًا وفي نفس الوقت هي مهمة جدًا جدًا، وقد حرص عليها الصحابة تمامًا في تحصيل العلم، ونوجز بعض هذه الضوابط في الصفحات القادمة..

الضابط الأول:
وحدة المصدر فالمصدر الرئيس والأول لعلم الصحابة هو الكتاب والسنة، ولأن جميع الصحابة أخذوا من هذا المصدر، فقد تكوّن لديهم ما يعرف بوضوح الرؤية، لقد أخذوا علمًا نقيًا طاهرًا مضمون الصحة والصواب، إن أيّ علمٍ في الدنيا قد يكون صحيحًا، وقد يكون خطأ، وبالتجربة نستطيع أن نحدد ما إذا كان صوابًا أو خطأ، ونحاول مرة بعد مرة، لكن العلم الذي جاء في القرآن الكريم، أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم علم صحيح، تمام الصحة وبنسبة مائة في المائة، وهذا هو ما نقيس عليه غيره، وليس في كلام الله عز وجل، ولا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم -إن صح عنه- أي أخطاء، فهو بلا ريب منهج صحيح تمامًا، وإذا اعتمد عليه المسلمون فلن يضلوا أبدًا.

روى الإمام مالك في موطأه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي»، فهذا هو أول الضوابط، أن يكون المصدر الرئيسي للعلم هو الكتاب والسنة، سواء في العلوم الشرعية، أو غير العلوم الشرعية..

كيف يمكن أن يكون القرآن، والسنة هما الضابط في علوم الحياة؟
في القرآن الكريم، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم وضعت الضوابط، والأسس التي تنظم عملية التحصيل، والاستفادة من العلوم في كل المجالات، ولا بد أن يعرف هذه الأصول كل العلماء من أطباء، ومهندسين، وفلكيين، وجيولوجين، وغيرهم، حتى لا يخترعوا شيئًا أو يبتكروا أساليب، أو يؤمنوا بنظريات تتعارض مع القرآن والسنة، لا يصح أن يقول من يدعي العلم أن أصل الإنسان قرد، مدعيًا أنه أحد علماء الأحياء، لا يصح أن يقول ذلك من يعلم أن الله عز وجل أخبرنا في القرآن الكريم أن آدم عليه السلام هو أول إنسان، وأنه لم يكن قردًا أو حشرة كما يدعي علماء التطور، وإنما خلقه الله إنسانًا، وأي علم يتعارض مع الكتاب والسنة، فليس له أي قيمة، وليس له أي وزن، ولا يصح لعالم مسلم أن يسير في طريق هذا العلم؛ لأنه تعارض مع المصدر الرئيس.

عندما كان الصحابة رضي الله عنهم، وفي أحيان قليلة جدًا يخرجون عن هذا الضابط، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يغضب غضبًا شديدًا، ولنتدبر هذه الرواية في سنن الدارمي، وعند الإمام أحمد، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنُسْخَةٍ مِنْ التَّوْرَاةِ، فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ نُسْخَةٌ مِنْ التَّوْرَاةِ، فَسَكَتَ فَجَعَلَ يَقْرَأُ وَوَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ يَتَغَيَّرُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ مَا تَرَى مَا بِوَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَنَظَرَ عُمَرُ إِلَى وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، وَغَضَبِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي»".

فهم الصحابة رضوان الله عليهم من هذا الموقف ومن غيره، أنه لا شيء يُقدم على هذين المصدرين، ولا تصح قاعدة، أو قانون، أو مفهوم يتعارض مع هذين المصدرين العظيمين: (الكتاب والسنة)، حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنه وعن أبيه، تعلم هذا الدرس جيدًا، وكان يعلمه للأمة، في البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَكِتَابُكُمْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْدَثُ الْأَخْبَارِ بِاللَّهِ؟ تَقْرَءُونَهُ لَمْ يُشَبْ -أي لم يخلط ولم يحرّف- وَقَدْ حَدَّثَكُمْ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَدَّلُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ، وَغَيَّرُوا بِأَيْدِيهِمْ الْكِتَابَ، فَقَالُوا: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، َفَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ الْعِلْمِ عَنْ مُسَاءَلَتِهِمْ؟ وَلَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا قَطُّ يَسْأَلُكُمْ عَنِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ"، كان هذا هو مفهوم عبد الله بن عباس رضي الله عنه، ومفهوم الصحابة جميعًا حول وحدة المصدر، فهذا هو الضابط الأول في تحصيل العلم.

الضابط الثاني:
العلم النافع وهو أن يكون ما يتعلمه الإنسان نافعًا، فالعلم المرغوب فيه شرعًا يوصف بكونه نافعًا، وقد روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ، إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»، فلا يصح إذًا أن يصرف الإنسان عمره ووقته وجهده في تعلّم علمٍ لا يعود بالفائدة والنفع على أمته، بل على البشرية بصفة عامة.

لا يصح أن يضيّع الإنسان عمره ووقته في تفصيلات لا قيمة لها، أو لا ينبني عليها عمل في قصص الأنبياء والسابقين، كمن يبحث عن طول سفينة سيدنا نوح عليه السلام، وكم ظل الطوفان، وكم ظل هابيل بعدما قتله قابيل قبل أن يدفنه؟! فهذه تفصيلات لا ينبني عليها أي عمل، وليس لها أي معنى. أيضًا في علوم الحياة، لا يصح أن يضيّع الإنسان وقته في أشياء لا تنفع، بل ربما تضر، مثل بعض العلوم الفلسفية، وتضييع الأوقات في قراءة القصص والروايات غير النافعة، وكتابة، أو قراءة الشعر الإباحي، وغير هذا من العلوم التي لا تقبل الفطرة السليمة أن يعيش الإنسان حياته، وعمره لكي يدرسها. وهذا الأمر يعود بنا إلى قضية المناهج التعليمية في المدارس والجامعات، لا بد أن يكون المنهج معدّا لينفع الطالب، ومن ثَم ينفع أمته بعد ذلك، فلو أحس الطالب أن ما يدرسه من علوم إنما هي مجرد حشوٍ يملأ فراغ السنة الدراسية، فهو بلا شك لن يستفيد مما يدرسه على الإطلاق، ولن يستطيع أن يحصّل علمًا.

لو لم يتوفر عند الطالب النية الصالحة والصادقة والمخلصة لتعلم العلم لنفع نفسه وأمته، فلن يستفيد أيضًا من هذا العلم، لا بد إذًا أن يكون العلم نافعًا، ولا بد أن أتعلمه بنية نفع الأمة، والبشرية كلها، والعلم الذي لا تتحقق فيه صفة النفع هذه هو علم ضارّ، وشر يجب الاستعاذة منه، ومن هنا نستطيع أن نفهم الحديث اللطيف، والدعاء الجميل للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى الإمام مسلم بسنده عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: "لَا أَقُولُ لَكُمْ إِلَّا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا»"، فالنبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله تعالى من أن يضيع وقته في علم لا ينفع.

الضابط الثالث:
أن ينقل كلُّ متعلّمٍ العلمَ إلى غيره، العلم لا يقف عند المتعلم فحسب، بل لا بد من نقله إلى الغير، يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه: "وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة"، تعليم العلم لمن لا يعلمه صدقة، فنقل العلم النافع مهم جدًا لخير الأرض كلها، فلو أن كل عالم سواء من علماء الشرع، أو من علماء الحياة كتم ما عنده من العلم، ولم ينقله إلى غيره، لكانت كارثة عظيمة في الأرض، ولصارت الأرض مدمرةً بلا محالة، لأجل هذا لا يصح أن يقال على إنسان ما أنه عالم دون أن يعلم غيره، ودون أن يبذل علمه للناس، فالعلم الحقيقي هو الذي يقضي حياته ين التعلم والتعليم، خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ.

ولننظر ونتأمل كلام جابر بن عبد الله أحد صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ونرى مدى فهمه، وحكمته، وهو يقول: "إذا لعن آخر هذه الأمة أولها، فمن كان عنده علم فليظهره"، وهذا يعني أنه إذا جاء في القرون التي تلي الصحابة رضي الله عنهم من يسبهم، أو ينتقص من قدرهم، أو يشوّه التاريخ الإسلامي بصفة عامة، فلا بد أن يتكلم من عنده علم، ولا يحتفظ بالمعلومات التي عنده لنفسه، ويكتفي أنه يعلم أن الصحابة رجال أعاظم، وأفاضل، ويحفتظ بهذه المعلومة دون أن ينقلها لغيره، فيكون كتمانه لهذا العلم الذي عنده فيه خطر عظيم عليه وعلى الأمة، وعلى الناس أجمعين، بعد هذا الكلام ينطق جابر بن عبد الله رضي الله عنه بكلام في غاية الخطورة يقول: "فإن كاتم ذلك العلم، ككاتم ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم"، أي فكأنما أنزلت عليه الرسالة وكتمها، فمعنى هذا أن من سمع أحدًا يسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرد عليه فقد ارتكب هذا الإثم العظيم، لماذا؟

لأن هذا الدين كله جاءنا عن طريقهم، فهم الذين نقلوا لنا القرآن الكريم، وهم الذين نقلوا لنا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون الأمر إذًا إذا رأينا من يطعن في أبي بكر، أو عمر، أو عثمان، أو غيرهم من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم جميعًا، فنقل العلم إلى الغير إذًا من أهم الضوابط التي يجب أن يُلتفت إليها، ولا يصح أن يحتفظ الإنسان بالعلم لنفسه، بل لا بد من أن تسعى إلى تعليم الغير ما تعلمته، ولو كان آية واحدة والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» (صحيح البخاري:3461).  

الضابط الرابع:
عدم الفتوى بغير علم هذه مشكلة كبيرة، وإن شئت فقل كارثة عظيمة يقع فيها كثير من الناس، وهي الفتوى بغير علم، سواء في أمور الدين، أو في أمور الدنيا، كارثة بالفعل أن يُفتى بدون علم في أمور الإسلام، أو الطب، أو الصناعة، أو التجارة، حتى في وصف الطريق، فمجرد التخمين في وصف طريق ما لأي إنسان إنما هو تضييع لوقته، ليس من العيب أن يقول الإنسان لا أعرف، وإنما العيب أن يفتي الإنسان بغير علم.

وقد تعلم الصحابة رضي الله عنهم هذا الأمر من الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، فهو عليه الصلاة والسلام مع عظمته، وحكمته، وعلمه، وفضله لا يستحيي أن يقول عن شيء لا يعرفه لا أعلم، روى الإمام أحمد بسنده عن جبير بن مطعم رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْبُلْدَانِ شَرٌّ؟ فَقَالَ: «لَا أَدْرِي»، فَلَمَّا أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام، قَالَ: «يَا جِبْرِيلُ، أَيُّ الْبُلْدَانِ شَرٌّ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، حَتَّى أَسْأَلَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ»،فَانْطَلَقَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: «يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ سَأَلْتَنِي: أَيُّ الْبُلْدَانِ شَرٌّ؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ: أَيُّ الْبُلْدَانِ شَرٌّ؟ فَقَالَ: أَسْوَاقُهَا».

الأسواق لأنها تلهي الناس عن ذكر الله، ويكثر فيها الكذب، والحلف على غير الحقيقة، والشحناء، والبغضاء بين المسلمين، والفتنة بالمال، والاختلاط، ومثل هذه الأمور، فالرسول صلى الله عليه وسلم مع كونه أحكم البشر وأعلمهم صلى الله عليه وسلم لم يتجرّأ على الفتوى بغير علم، بل كان شديد الإنكار على من أفتى بغير علم من صحابته رضي الله عنهم، ففي سنن أبي داود عَنْ جَابِرٍ قَالَ: "خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ، فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ، فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً، وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: «قَتَلُوهُ، قَتَلَهُمْ اللَّهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَيَعْصِرَ -أَوْ: يَعْصِبَ-».

شَكَّ مُوسَى وهو أحد الرواة عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا، وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ، الشاهد من هذه القصة أن الرسول صلى الله عليه وسلم اتّهم هؤلاء بقتل هذا الرجل؛ لأنه أفتوا بغير علم، فالقضية في منتهى الخطورة، فهذا الضابط الرادع المهم جدًا هو أن تتعلم أن تقول: لا أعلم. إذا كنت لا تعرف، وهذا بإذن الله من فضائل العلماء، وليس من العيب كما ذكرنا أن تقول لا أعلم، بل العيب أن تقول بغير علم.

الضابط الخامس:
العمل بالعلم في الحقيقة بدون هذا الضابط لا قيمة للعلم، ولا فائدة لكل ما سبق في هذه الصفحات عن قيمة العلم وفضله، ما الفائدة في أنّ إنسانًا ما جمع خبرات كثيرة، وتراكمت لديه خبرات طويلة، وقرأ كتبًا عظيمة، وحضر من الدروس والمجالس الكثير، ثم هو لا يعمل بما علم، أين قيمة العلم إذًا؟!

روى الدارمي بسنده عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: "يَا حَمَلَةَ الْعِلْمِ اعْمَلُوا بِهِ، فَإِنَّمَا الْعَالِمُ مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ، وَوَافَقَ عِلْمُهُ عَمَلَهُ، وَسَيَكُونُ أَقْوَامٌ يَحْمِلُونَ الْعِلْمَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يُخَالِفُ عَمَلُهُمْ عِلْمَهُمْ، وَتُخَالِفُ سَرِيرَتُهُمْ عَلَانِيَتَهُمْ، يَجْلِسُونَ حِلَقًا فَيُبَاهِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا"، أي أنهم إنما يتعلمون العلم ليشار إليهم، ويُقال هؤلاء هم العلماء، يتعلمون للفخر، والمباهاة، ويحاول كل منهم أن يجعل حلقته من الطلاب أكبر الحلقات، وأعظمها، فهؤلاء ليسو علماء.

يقول سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَغْضَبُ عَلَى جَلِيسِهِ أَنْ يَجْلِسَ إِلَى غَيْرِهِ وَيَدَعَهُ"، فهو يريد الفخر والتباهي، وأن يكون العلم عن طريقه هو، وليس عن طريق غيره، وهذا والعياذ بالله من أول من تُسعر بهم النار يوم القيامة؛ لأنه تعلم العلم لغير الله تعالى، يقول سيدنا علي: "أُولَئِكَ لَا تَصْعَدُ أَعْمَالُهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ تِلْكَ إِلَى اللَّهِ، فقد حبط عمله؛ لأنه فقد الإخلاص، فلا يرفع له عمل".

وأختم بكلمات بليغه عميقة رائعة للعالم الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه، يوضح فيها قيمة العلم يقول: "تعلموا العلم، فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، وهو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة".

نعم هذا هو العلم في منظور معاذ بن جبل رضي الله عنه، ورضي الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين، نسأل الله عز وجل أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

راغب السرجاني

أستاذ جراحة المسالك البولية بكلية طب القصر العيني بمصر.

  • 25
  • 2
  • 65,748
المقال السابق
(4) الصّحابة والإخلاص
المقال التالي
(6) الصحابة والعمل

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً