كن صحابيًا - (10) الصحابة والأخوة

منذ 2014-05-02

الأخوة نعمة، ونعمة جليلة جدًا، وعظيمة جدًا، وأحيانا لا يدرك هذه النعمة إلا الذي فقدها، أمم الأرض جميعًا تحسد المسلمين على هذه المنة العظيمة، مَن في الأرض يضحي لأجل إخوانه، إلا المسلمين.

ما زلنا نبحث عن معالم الطريق الذي سار فيه الصحابة نسأل الله عز وجل أن يلحقنا بهم في أعلى عليين، نتحدث عن مفهوم جديد، مفهوم جديد من المفاهيم الإسلامية، وكيف تعامل الصحابة مع هذا المفهوم، مفهوم لا يستقيم لأمة الإسلام أن تقوم بغيره هذا هو مفهوم الأخوة.

 

دور النبي صلى الله عليه وسلم في إقامة الحب والأخوة

مما لا شك فيه أن الأخوة من دعامات المجتمع الصالح، ولبنة أساسية من لبنات إقامة الأمة الإسلامية الصالحة، فأي مجتمع صالح لا بد أن يقوم على أساس الأخوة.

ويروى البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا».

وهذا من بلاغته، وجمال تشبيهه صلى الله عليه وسلم، بنيان الأمة الإسلامية كالعمارة الضخمة الكبيرة، فمن المستحيل أن تبني عمارة كبيرة، وضخمة، وتضع طوبة، بجوار أخرى، فوق طوبة، دون أن يكون بينهن رابط، وإذا كنت تسطيع عمل ذلك في ارتفاع متر، أو مترين، فلن تسطيع عمله في عمارة ضخمة، فالأسمنت الذي بين طوبة، وطوبة، والخراسانة التي بين طابق، وآخر هي الأخوة.

فكذالك الأمة الإسلامية فلن تسطيع بناء أمة من غير أخوة؛ لذلك قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10].

 

على سبيل الحصر، فلا ينفع أن تكون هناك أمة للمؤمنين من غير أخوة، ولهذا السبب فإن أول الأساسات التي أنشأها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة عندما هاجر إليها من مكة، كان أساس الإخوة، آخى بين الأوس والخزرج، وفَكّ النزاع القديم الأصيل في المدينة، وليس فك نزاع فقط، بل عمل على زرع الحب بين الطرفين، أخوة، ومودة، وحب، هذا العمل ما تعودت عليه المدينة من قبل، الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد مجرد التعايش السلمي، بل أراد أن تكون أخوة في الله، وحبا في الله، ثم عمل على المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين التي وصلت إلى حد الميراث، مثلها كمثل أخوة النسب تمامًا، بل هي أشد من الأخوة في النسب، الأوس والخزرج قحطانيون من اليمن، وقريش عدنانيون من مكة، لكن الإسلام جمع بينهم، ولم يقم الإسلام بهم دولة فقط، بل عمل على أن يكون الحب في الله سمة بارزة بين الأفراد في هذه الدولة، هذا ما قام الإسلام بعمله في المدينة المنورة.

 

ومعظم شعائر الإسلام تقوم على الجماعة، وتحض عليها، تقوم على المجتمع، ولا بد لهذا المجتمع أن يقوم على أواصر الحب والمودة.

فصلاة الجماعة، الله سبحانه وتعالى يعطيك في صلاة الجماعة أكثر مما يعطيك وأنت تصلي نفس الصلاة في بيتك سبعة وعشرين ضعف من أجل أن ترتبط بجماعة المسلمين.

والزكاة لا بد أن تكون من واحد لمجموعة، أو واحد لواحد، وما كانت الزكاة أمرًا فرديًا.

أما الحج فمؤتمر جماعي كبير جدًا من كل أقطار الأرض، يجتمع المسلمون ويقيمون هذا المؤتمر كل عام.

والجهاد لا يقوم به إلا مجموعة، فلن يخرج جيش فيه فرد، أو فردان أو ثلاثة، لأن هذا العمل يشمل كل الأمة من كل الأقطار.

والدعوة لا بد وأن يوجد داعية ومدعوين، والعلم كذلك عالم، ومتعلمين، والشورى لا تكون إلا بين مجموعة من المسلمين، وكل شيء يحتاج مجموعة، وكل شيء في الإسلام يحتاج عملًا جماعيًا.

 

فقضية الاستخلاف على الأرض لن تكون إلا بعمل جماعي، فلا بد أن يكون هناك من يزرع، ومن يبني، ومن يبيع، ومن يعالج، ومن يخترع، ومن يحارب، ويدافع، ولا بد من تفاعل، وتنسيق بين كل هؤلاء، ومن المستحيل أن يخرج عملًا نافعًا وناضجًا إذا لم توجد بين كل هؤلاء ألفة بين قلوبهم، ورابطة قوية تجمعهم.

وهناك صراع حتمي سيحدث بين أهل الحق، وأهل الباطل، سنة من سنن الله في الأرض، وهذا الصراع سيحتاج إلى وحدة بين أهل الحق في مواجهة أهل الباطل، فهل من الممكن أن يتصارع أهل الحق، مع أهل الباطل، ويكون بين أهل الحق وبين بعضهم غل وشحناء وبغضاء، ثم بعد ذلك يستطيعون محاربة أهل الباطل، والانتصار عليهم.

 

وإذا تصارع أهل الحق لن تكون هناك شرائع، ولا جهاد، ولا شورى، ولا استخلاف؛ لذلك أوجب الله عز وجل الأخوة بين أفراد المجتمع المسلم الصالح، أوجب الحب في الله، ونهى عن الشحناء، والبغضاء، والكراهية، وبذلك يستطيع المؤمنون بالله أن يقوموا بأمر الاستخلاف كما أراد الله عز وجل.

 

مفهوم الأخوة عند الصحابة

ولقد فقه الصحابة أهمية الأخوة بين بعضهم البعض دون ارتباط بنسب، ولا مال، ولا مصلحة، فهِموا أنهم لن تكون لهم أمة، ولن يعبدوا الله حق عبادته، ولن يقوموا بأمر الاستخلاف كما ينبغي أن يكون، إلا بأخوة بينهم، ولا ينكر أحد قيمة الأخوة، والألفة في بناء المجتمعات الصالحة كل البشر، لا ينكرون قيمة الأخوة، والمحبة بين أفراد المجتمع الواحد، لكن كل مجتمع له نظرة خاصة جدا لموضوع الأخوة، وموضوع المحبة، كلٌّ يفهمها بطريقة، فما هي نظرة الصحابة لمعنى الإخوة؟

 

وكيف كان فهمهم لقضية الحب في الله؟

ما مفهوم مجتمع الصحابة عن قضية الحب بين أفراد المجتمع، أو الأخوة بين أفراد المجتمع؟

سنذكر أربع مفاهيم أعتقد أنها كانت تميز نظرة الصحابة في مسألة الأخوة.

 

المفهوم الأول: الأخوة طريق للجنة

الصحابة كانت تفهم أن الأخوة طريق للجنة، وهذا كان يعطيها قدرًا عاليًا مهيبًا من القيمة، كانوا يفهمون الإخوة على أنها طريق من طرق الجنة، مثل الصلاة، والصوم، والجهاد، والدعوة، ومثل كل هذه الطرق، واستمدوا فهمهم لهذا الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وتأكيدًا لهذا المعنى الجميل لأهمية الحب، والأخوة يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه الإمام مسلم، والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا».

الرسول يقسم أن البشر لن يدخلوا الجنة حتى يؤمنوا، وهذا أمر معروف ولكن ما يثير عجب كثير من الناس قول صلى الله عليه وسلم: «وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحابُّوا».

إذن هذا شرط من شروط الإيمان.

 

ويوجد كثير من الناس ليست لديهم مشكلة في قطع علاقاتها مع الآخرين، ولا يدري أنه يخاطر بقضية الإيمان، وبدخول الجنة، فالموضوع ليس هينًا أو سهلًا: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا».

وثم يمنحك أحد الطرق بزيادة المحبة، أو تأصيل المحبة بين المسلمين: «أَلَا أَدُّلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ، أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ».

وهذا حديث آخر يرويه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقَيَامَةِ: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي، الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي».

 

تخيل في هذا اليوم الصعب العسير، وعندما تدنو الشمس من الرءوس قرابة ميل، لا يدري رسول الله صلى الله عليه وسلم المقصود بالميل، هو ميل المسافة، أو الميل الذي تكتحل به العين، الشمس تدنو إلى هذه الدرجة، ومع ذلك، فهناك طائفة من الناس سينجيها الله من هذا الحر، وهم المتحابون بجلال الله عز وجل، الذين كان يحب بعضهم بعضًا، دون نسب، ودون مصالح، ودون منافع.

ويروى الترمذي، وقال: حديث صحيح. عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ».

 

فكم صديق أو جار يحب أن يكون صديقه أو جاره ينال مثل ما عنده من أموال، أو يحب أن ينال ابن جاره عملًا كعمل ابنه، أو أولاد صديقه، فهل هناك من يشعر بتلك العواطف وهذه المشاعر، أم الكل يتمنى، ويحب دائمًا أن يكون أحسن، وأعظم، وأغنى، وأمهر من كل من حوله؟

فالقضية خطيرة جدًا لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وهذا الكلام صعب، بل شديد الصعوبة، ومن أجل صعوبته فثوابه أكبر من أن تتخيله.

 

ويعظم لنا النبي صلى الله عليه وسلم من ثواب أولئك الذين غمرهم الحب إلى هذه الدرجة التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه، روى أبو داود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى».

الأنبياء، والشهداء يغبطون هؤلاء الذين أعطوا درجة عالية جدًا يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى، فمكانتهم قريبة من الله سبحانه وتعالى لدرجة أن الأنبياء، والشهداء يغبطون هؤلاء الناس، فما العمل الضخم الذي رفع هؤلاء من درجتهم إلى هذه الدرجة، فتشوق الصحابة لمعرفة هؤلاء، فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: تخبرنا من هم؟

قال: «هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا ِبرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بِيْنَهُمْ وَلَا أَمْوَالٍ يَتَعَاطُونَهَا، فَوَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ، وِإِنَّهُمْ عَلَى نُورٍ، لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ».

ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62].

 

هؤلاء هم أولياء الله عز وجل، ليس الولي الذي يمشي فوق الماء، ويطير في الهواء، بل هؤلاء الأولياء، هم الذين يتحابون بروح الله على غير أنساب بينهم، أو على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، وهذه هي المكانة العالية التي منحها الله عز وجل لقيمة الأخوة، ومفهوم الأخوة.

وعلى الجانب الآخر التشاحن بين الإخوة، يمنع مغفرة الله عز وجل للعباد، فلقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا».

فقد تُحْرم مغفرة الله لك، أو تؤخر عنك بسب شحناء، أو بغضاء، أو غل مع جارك، أو صاحبك، أو قريبك إلى أن تصطلحوا.

وعلاقتك مع إخوانك هي التي تحدد تلك الأمور لذلك كان الشافعي يقول:

أُحِبُّ الصَّالِحِينَ وَلَسْتُ مِنْهُمْ *** لَعَلِّي أَنْ أَنَالَ بِهِمْ شَفَاعَه

وَأَكَرَهْ مَنْ تِجَارَتُهُ الْمَعَاصِي *** وَإِنْ كُنَّا سَوَاءً فِي الْبِضَاعَه

يقول إن حبه للصالحين قد يكون سببًا في دخول الجنة، مفهوم راقي عند الشافعي رحمه الله، أحمد بن حنبل رحمه تلميذ الشافعي سمعه يقول هذين البيتين فقال له:

تُحِبُّ الصَّالِحِينَ وَأَنْتَ مِنْهُمْ *** وَمِنْكُمْ سَوْفَ يَلْقَوْنَ الشَّفَاعَه

وَتَكْرَهُ مَنْ تِجَارَتُهُ الْمَعَاصِي *** وَقَاكَ اللَّهُ مِنْ شَرِّ الْبِضَاعَه

هذا المعنى معنى الأخوة، والحب في لله، وحب كل المسلمين زرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلوب أصحابه، ورباهم على ذلك، مستغلًا لكل حديث ليوضح للصحابة أمور دينهم، بأسلوب بسيط جدًا، وبرقة معهودة منه صلى الله عليه وسلم.

ومازلنا في المفهوم الأول للأخوة عند الصحابة، وهو أن الأخوة هي طريق من طرق الجنة، ويكلمهم النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل من أهل الجنة في الحديث الذي يرويه الإمام أحمد بسند صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:

كنا جلوسًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ».

وانظر، الصحابة في منتهى الاشتياق، فمن هو الصحابي الذي يمشي على وجه الأرض وهو من أهل الجنة؟

فيقول أنس بن مالك راوي الحديث:

فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه، قد تعلق نعليه في يده الشمال.

 

ووصف سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه عن الرجل يدل على أن الرجل بسيط جدًا، وغير معروف بين الصحابة، مجرد رجل من الأنصار كما يقول أنس، ولو كان معروفًا لكان سماه باسمه، لكنه رجل غير معروف.

فلما كان الغد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، قال نفس الكلمات: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة.

وانتظر الصحابة، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، نفس الرجل الأنصاري، وطلع بنفس الهيئة، فلما كان اليوم الثالث، قال الني صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضًا:

يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة.

فطلع ذلك الرجل على مثل حالته الأولى، فكان بإمكان الرسول أن يقول لهم في منتهى الوضوح عمل هذا الرجل، لكن أراد الرسول أن يشوقهم إلى أن يعرفوا قصة هذا الرجل، وما أرجى عمل عمله؛ ليكون من أهل الجنة وهو رجل بسيط لا يعرفه أحد؛ ليكون ذلك أبلغ في استيعاب الدرس، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص، وقال له:

إني لاحيت أبي -يعني خاصمت أبي- فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تئويني إليك، حتى تمضي فعلتَ.

قال: نعم.

قال أنس: وكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث.

 

فأنس رواي الحديث رضي الله عنه وأرضاه يحكي أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يحكي حكايته مع هذا الرجل العجيب، فيقول أنس بن مالك يروي رواية عبد الله بن عمرو بن العاص أنه لم يره يقوم من الليل شيئًا غير أنه إذا تعار استيقظ من نومه، وتقلب في فراشه ذكر الله عز وجل، وكبر، يذكر الله، ويكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا، فلما مضت الثلاث اليالي، وكدت أن أحتقر عمله، هو لا يقصد الاحتقار بمعناه، ولكن استقله، فالرجل يصلي، ويذكر الله عز وجل، ولا يقول إلا خيرًا ككل الصحابة، فلماذا خص الرسول هذا الرجل بالذات، ويؤكد ثلاث مرات أنه من أهل الجنة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، كان من عباد الصحابة، كان يصوم معظم الأيام، ويقوم معظم الأيام، ويقرأ القرآن، ويختمه في ثلاثة أيام، ولم يرى عملًا للأنصاري يرفع درجاته في الدنيا إلى الدرجة التي أكدها الرسول صلى الله عليه وسلم مرة واثنتين وثلاثة، فبدأ يصارحه، فقلت:

يا عبد الله، إني لم يكن بيني وبين أبي غضب، ولا هجر، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول لك ثلاث مرات: «يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ».

فطلعت أنت الثلاث مرات، فأردت أن آوي إليك؛ لأنظر ما عملك، فأقتضي بك، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال: ما هو إلا ما رأيت.

يقول عبد الله بن عمرو العاص: فلما وليت دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غِشًا، ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه.

فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق.

من الصعب جدًا أن تحب الخير لكل الناس، لكن مع صعوبتها، فإن أجرها الجنة، حتى ولو كنت رجلًا بسيطًا، لست عالم من العلماء، أو عظيم من العظماء.

 

فإذن ترسخ في أذهان الصحابة أن دخول الجنة مقرون بحبك لأخيك، دون مصلحة، أو رحم، وترسخ لديهم أن الشحناء، والبغضاء، والهجر، معوقات واضحة لدخول الجنة، وعلى قدر حبهم للجنة، أحبوا بعضهم البعض، وعلى قدر اشتياقهم للجنة غفر بعضهم لبعض، فهذا هو المفهوم الأول في أذهان الصحابة عن مسألة الإخوة في الله، أو عن معنى الإخوة في الله، أنها طريق واضح للجنة.

 

المفهوم الثاني: الأخوة مسؤولية

وهذا المفهوم في منتهى الخطورة، وفيه تميز شديد عند الصحابة، وأشعر أن هناك نقص شديد في زماننا في هذا المفهوم.

فلابد أن تعرف عن الأخوة أنها مسؤولية، فالأخوة ليست مجرد كلمة تقال، أو إحساس يشعر به الإنسان، الأخوة ليست أخذًا بلا عطاء، ليست مصالح تقضى لك كلما ازدادت معارفك، ليست قوة في سلطانك كلما ازدادت علاقاتك، بل الأخوة تبعات، على العكس من مفهوم كثير من الناس تمامًا عن الأخوة.

 

فالأُخُوّة مسؤولية، وتضحية، وبذل، وعطاء، وإنفاق بلا مردود، أو بلا طلب مردود، الأخوة إيثار على النفس، وحب خالص من القلب، لا يراد به إلا وجه الله تعالى، عمل الرسول صلى الله عليه وسلم على تربية الصحابة على معاني الأخوة، أو معاني الحب في الله، أو التعاون في المجتمع الذي تعيش فيه مع إخوانك.

 

والحديث الذي جاء بروايات كثيرة متكاملة، وكلها في البخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، وغيرها من كتب، وهذا الحديث يوضح تلك المعاني التي غرسها الرسول صلى الله عليه وسلم في أصحابه، والحديث في رواية البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ سُلَامَى عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ يُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ يُحَامِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ، وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَدَلُّ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ».

والسلامى هو العظم، أو المِفْصَل.

وعند أبي داود وأحمد، واللفظ لأبي داود حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، قَالَ سَمِعْتُ أَبِي، بُرَيْدَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «فِي الْإِنْسَانِ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَسِتُّونَ مَفْصِلًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْ كُلِّ مَفْصِلٍ مِنْهُ بِصَدَقَةٍ».

 

عدد المفاصل في الجسم ثلاثمائة، وستون، فعليك كل يوم ثلاثمائة وستون صدقة، ويوضح صلى الله صلى الله عليه وسلم مفهوم الصدقة، فيقول: «كُلَّ يَوْمٍ يُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ يُحَامِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ». وهذا أول مثل ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو مساعدة الناس، تعين الرجل ليركب دابته، أو ترفع متاعه عليه، ثم يقول: «وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ».

والكلمة الطيبة حتمًا ستكون بينك وبين إنسان، فالكلمة الطيبة صدقة،

«وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ». وهذا عمل، وإن كان من الأعمال الفردية، إلا أنه يلتقي بالمسلمين في صلاة الجماعة.

«وَدَلُّ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ». فدلك الطريق لمن لا يعرفه صدقة.

 

وهذه إحدى الروايات للحديث في البخاري، وهناك روايات أخرى متكاملة كثيرة جدًا، ففي رواية يقول: «يعدل بين الاثنين صدقة».

الإصلاح بين الناس، وبين المتخاصمين صدقة. وفي رواية: «ويميط الأذى عن الطريق صدقة» ،  فيها مساعدة الناس.

وفي رواية: «يعين ذا الحاجة الملهوف».

وفي رواية: «فليعمل المعروف، وليمسك عن الشر، فإنها له صدقة، فهو إما خير تفعله في الناس، أو شر تكفه عنهم».

وفي رواية: «تسليمه على من لقي صدقة».

وفي رواية: «وتبسمك في وجه أخيك صدقة».

وفي رواية: «وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة».

وفي رواية: «وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة».

 

الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يوضح لنا مفهوم الصدقة الحقيقية التي تدفعها عن أعضائك، وعن النعم التي مَنّ الله بها عليك، وهي مساعدتك لغيرك، وهي أن تشعر بالمسؤولية تجاة الناس في المجتمع الذي تعيش فيه، أو الأمة التي تحيا فيها.

 

فلو أن المجتمع يفقه الأخوة كما فقهها الصحابة على أنها اختبار، وامتحان، وبذل، وعطاء، ومجهود، وأنها مسؤولية، وليست منافع، ومصالح أكتسبها من معارفي، وكلما ازدادت معارفك ازدادت مكاسبك، بل العكس على ذلك تمامًا، فكلما ازدادت معارفك كثرت أعمالك وتضحياتك من أجل إخوانك. وهذا المعنى وضحه النعمان بن مقرن رضي الله عنه وأرضاه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب خطبته المشهورة في موقعة نهاواند وقال للصحابة في هذه الموقعة في خطبته قال لهم: ولا يكل أحدكم قرنه إلى أخيه.

فلا يُلقي أحد مسؤوليته على إخوانه، بل عليه أن يحمل عن من لا يستطيع. ثم قال كلمة في منتهى الصعوبة: فإن الكلب يدافع عن صاحبه.

 

شيء صعب جدًا أن يتدنى المؤمن إلى درجة أقل من الحيوان، فالحيوان يدافع عن أصحابه، فأولى بالمؤمن أن يدافع عن إخوانه، هذا مفهوم المسؤولية عند النعمان بن مقرن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند عموم الصحابة.

روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ».

 

فالجزاء من جنس العمل، لكن لو نفست عن مؤمن كربة، فربنا سبحانه وتعالى بنفسه هو الذي ينفس عنك يوم القيامة، وإذا يسرت على معسر، فربنا سبحانه وتعالى بنفسه هو الذي ييسر عليك في الدنيا، وفي الآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا وفي الآخرة.

 

ثم يقول صلى الله عليه وسلم جملة في منتهى الجمال، وتشمل كل ما مضى: «وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ».

فمساعدتك لإخوانك، وبَذْلِك لهم، وقضاؤك لحوائجهم، ولو كان شيئًا بسيطًا، ومحدودًا إلا أن الله يكون في عونك كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم «وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ».

 

فمهما ألمت بك أزمات، أو وقعت بك ضائقات، أو نزلت نازلة، كان الله في عونك، ولهذا كان الصحابة يبذلون حياتهم كلها لنفع الآخرين، لمساعدة الآخرين، وللتضحية من أجل الآخرين، يقومون بكل هذه الأشياء؛ لأن المردود عندهم أعلى، وأعظم؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يعطيهم، فالأخوة عند الصحابة مسئولية وتضحية.

 

وتجد هذه المعاني راسخة في طائفة من الصحابة، وهي قبيلة الأشعريين، القبيلة التي منها أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، هذه القبيلة كان لها عادة جميلة جدًا، فالرسول عليه الصلاة والسلام علق على هذه العادة، وشكر في هذه العادة، روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ - يعني فني زادهم وطعامهم- أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ- سواء كانوا في سفر أو في غزو أو حتى وهم داخل المدينة- جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيِّةِ».

ويعلق الرسول فيقول: «فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ».

الأشعريون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو منهم، ومع أن الأشعريين من اليمن، لكن فعلتهم هي التي رفعت درجتهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

ذكر ابن عباس رضي الله عنها أن الناس قحطوا في زمان أبي بكر، وفي هذا الوقت جاءت قافلة لعثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه إلى المدينة المنورة، جاءت هذه القافلة فتسارع التجار لشراء هذه القافلة الكبيرة، فسألهم عثمان: كم تربحوني؟

قالوا: العشرة اثني عشر.

قال: قد زادني على هذا الربح.

قالوا: فالعشرة خمسة عشر.

وهذا ربح ضخم جدًا، أمام كل عشرة دراهم سيكون المكسب خمسة عشر درهم، قال:

قد زادني.

قالوا: من الذي زادك ونحن تجار المدينة؟

قال: الله عز وجل زادني بكل درهم عشرة، فهل لديكم أنتم المزيد. ثم قال: اللهم إني وهبتها فقراء المدينة.

بلا ثمن، وبلا حساب تبرع بكل القافلة الضخمة إلى فقراء المدينة.

 

فلو لم يكن لديه مشاعر تجاه المسلمين، فقد يخرج الزكاة 2.5%، ثم بعد ذلك لا يهتم بأمر المسلمين، لكن سيدنا عثمان فَقِه أن الأخوة تضحية، وبذل، وعطاء لفقراء المسلمين، ولعموم المسلمين، ولأمة الإسلام، ولجيش الإسلام، وهذا هو ديدن عثمان بن عفان في كل عمره، وهذه حياة الصحابة.

 

وليست المسؤولية مادية، وفقط، بل كان الصحابي يعين إخوانه على الطاعة، على طاعة الله عز وجل، روى البخاري أن معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه كان يقول للرجل من إخوانه: "اجلس بنا نؤمن ساعة".

وليس كل الأعمال انغماس في الدنيا، لكن أنا أساعد إخواني في الدروس، وأساعدهم في طاعة الله، هذا هو المعنى الذي ذكره الله عز وجل على لسان موسى عليه السلام في سورة طه قال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي . هارُونَ أَخِي . اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي . وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي . كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا . وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} [طه:29-34].

 

هكذا فالمؤمن يتعاون مع أخيه، يعين أخاه، وأخوه يعينه، في يوم من الأيام كل واحد يتبادل مع أخيه منفعة المعاونة على الطاعة، وهذا هو العون الحقيقي، ولم يكن الصحابي سلبيًا أبدًا في تعليم إخوانه الخير الذي عرفه، والقصة الجملية التي يرويها البخاري توضح لنا أنهم كان لا يدخرون وسعًا في نصح إخوانهم، فعن وهب بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان، وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة -أي رثة الهيئة والثياب- وكان ذلك قبل فرض الحجاب، فقال لها: ما شأنك؟

قالت: أخوك أبا الدرداء ليس له حاجة في الدنيا.

فأبو الدرداء صوام للنهار، قوام في الليل.

فلما سمع سيدنا سلمان ذلك الكلام قرر أن ينصح أخاه ويعلمه.

فيقول الراوي وهب بن عبد الله رضي الله عنه يقول: وجاء له أبو الدرداء، فصنع له طعاما، فقال له سلمان: كل.

قال: فإني صائم.

فقال سلمان: ما أنا بآكل حتى تأكل.

فقطع صيامه وأكل، وهذا الصيام صيام تطوع، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم الليل من أول الليل، فقال سلمان: نم.

فنام، وأبو الدرداء لا يستطيع النوم؛ لأنه قد تعود على القيام {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ} [السجدة:16].

ثم ذهب ليقوم، فأمره سلمان بالنوم، فلما كان من آخر الليل، قال سلمان: قم الآن.

فصليا، فقال له سلمان بعد ما صلى ينصحه ويعلمه درس في منتهى الرقي.

فيقول له: إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا -وفي رواية الترمذي: وإن لضيفك عليك حقًا- ثم قال: فأعط كل ذي حق حقه.

ولم يقتنع أبو الدرداء، فذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يشكو سلمان، وذكر له كل هذه القصة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صَدَقَ سَلْمَانُ، صَدَقَ سَلْمَانُ».

فأقر سلمان على التعليم اللطيف الذي عمله لأبي الدرداء رضي الله عنهم أجمعين.

 

والشاهد أن سلمان الفارسي رضي الله عنه فرغ من وقته يوما وليلة؛ ليعلم آخاه درسًا ينفعه؛ ليحافظ على بيته، قد يوقف الإنسان أشغاله، وحياته، ونظامه، كله من أجل أن يحافظ لأخوه على بيته، وقد يرى الإنسان مشاكل طاحنة في بيت أخيه، ولا يسعى لحلها وتمر حياته بصورة طبيعية، وهذا لم يفهم الأخوة على أنها مسؤولية، توجب عليه التناصح، وبذل نفسك له، وقضاء حوائجه، حتى لو اضطررت إلى أن تقطع من وقتك، وتسافر لأخيك، أو تدخل معه في قضية من القضايا، تساعده في حلها، وهذا ما فقهه الصحابة عن الأخوة.

 

وأخرج الطبراني، والبيهقي، والحاكم، وقال: صحيح.

عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان معتكف، في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأمر الاعتكاف أمر هام جدًا، وأمر خطير جدًا، والمؤمن لا يخرج من الاعتكاف إلا لضرورة شديدة.

فآتاه رجل، فسلم عليه، ثم جلس، فقال له ابن عباس -الرجل قاعد جنب ابن عباس، لم يتكلم، لكن شكله مكتئب جدًا، شكله حزين-، فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: يا فلان أراك حزينًا.

قال: نعم يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لفلان علي حق، وحان أجله، وليس معي ما يقضيه.

فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: إن أحببت أن أكلمه لك.

ولم يكن معه مال ليساعده بالإنفاق، ولكن أكلم الرجل ليصبر عليك، فقال الرجل: نعم.

فخرج ابن عباس رضي الله عنهما من اعتكافه ليقضي حاجة الرجل، فقال الرجل: أنسيت ما كنت فيه؟

فقال ابن عباس رضي الله عنهما: سمعت صاحب هذا القبر، الكلام والعهد به قريب، فدمعت عين ابن عباس رضي الله عنهما فدمعت عيناه وهو يقول، وهذا الكلام للرسول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ مَشَى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ، وَبَلَغَ فِيهَا -أي قضاها- كَانَ خَيْرًا لَهُ مِنْ اعْتِكَافِ عَشْرِ سِنِينَ».

فقه عال جدًا لمعنى الأخوة، والبذل من أجل الآخرين، فالاعتكاف يعود على الفرد، أما خدمة الآخرين فتعود على المجتمع بأسره.

 

والرسول صلى الله عليه وسلم يقدم خدمة الناس على اعتكاف عشر سنين، وفي مسجده صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث صحيح رواه الحاكم والطبراني، والبيهقي، وكذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، يقول: «السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلِةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ كَالَّذِي يَصُومُ النَّهَارَ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ».

 

كثير من يعظم أمر الجهاد في سبيل الله، وهو أمر عظيم حقًا، ويعظم الصيام، ويعظم القيام، لكن كم فرد يعظم السعي على الأرملة، والسعي على المسكين.

والسعي على الأرملة والمسكين ليس مرة في العام، بل الساعي المتكفل بأرمله، أو المتكفل بمسكين، يسعى عليه إلى أن يبلغ رشده، وهذا هو المجتمع المسلم، وهذه أسس راسخة لبناء المجتمع المسلم القوي، وما كان هذا كلام وفقط، بل كان أفعال متكررة، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءه نعي جعفر يقول برقة مشاعره المعهوده: «اصْنَعُوا لِأَهْلِ جَعْفَرَ طَعَامًا، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ».

 

وهذا فقه الشعور بالآخرين، يغرسه النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه، وليس كما يحدث الآن أن أهل الميت هم الذين يصنعون الطعام، ويستقبلون الناس، وهذا الأمر على خلاف السنة.

فالأخوة مسؤولية، وبذل، وعطاء، وليست مكاسب، ومنافع تعود عليك من أخيك.

 

ومن عظم مسؤليتها تجد الصحابي لا يقبل أن يقال في حق أخيه كلمة فيها قدح، أو فيها جرح، وهو غائب ويرد غيبة أخيه، ويدافع عنه، وروى أبو داود، وأحمد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وعن أبي طلحة بن سهل الأنصاري رضي الله عنه أنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ امِرِئٍ يَخْذِلُ امْرَأً مُسْلِمًا في مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتَهُ، وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتِهِ، وَمَا مِنِ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نَصْرَتَهُ».

 

وهذا ما ترسخ فهمه لدى الصحابة، فلهذا لم يقبل الصحابي أبدًا أن أحدًا من الصحابة يُجْرح إلى جواره بكلمة، أو بقدح، أو بطعن، ولا يرد، وروى البخاري ومسلم موقفًا يوضح ذلك الأمر، فعن كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، وكعب بن مالك من الثلاثة المخلفين في غزوة تبوك، وهو نفسه كان يحكي هذه القصة في صحيح البخاري، فيقول رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اكتشف غيابه في الغزوة، قال: «مَا فَعَلَ كَعْبٌ».

يطمئن على أصحابه، فقال رجل من بني سَلِمة: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم حبسه برداه -يعني ثيابه، أي حبسته ثيابه- ونظره في عطفه.

أي حسن وبهاء الثوب الذي عليه، أي شغلته الدنيا عن القدوم إلى الغزوة، قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: بئس ما قلت، والله يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما علمنا عليه إلا خيرًا. يدافع عن أخيه كعب، حتى وكعب متخلف عن غزوة من أهم غزوات في حياة المؤمنين، لكن يعذر أخاه إلى أن يعرف ما السبب الذي خلفه عن هذه الموقعة، أو عن هذه الغزوة، هذه هي الأخوة، والمعنى الذي ترسخ في أذهان الصحابة عن قضية الأخوة.

 

ولما وقع الناس في عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في حادثة الأفك المشهورة قالت أم أيوب لزوجها أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنهما: يا أبا أيوب أما تسمع ما يقوله الناس في عائشة؟

قال: نعم وذلك الكذب.

يدافع وهو في بيته مع زوجته، ثم قال لزوجته: أكنتِ فاعلة ذلك يا أم ايوب؟

قالت: والله ما كنت لأفعله.

قال: وعائشة والله خيرًا منك.

أبو أيوب الأنصاري يدافع عن السيدة عائشة في غياب كل الناس، وهو مع زوجته، لكن من حق السيدة عائشة رضي الله عنها على أبي أيوب الأنصاري أن يدافع عنها في غيبتها، وهذا ما يحفظ فعلًا حرمة المؤمنين ويحفظ حرمة المؤمنات.

 

والكلام في هذا المفهوم كثير، مفهوم أن الأخوة مسؤولية، والأخوة تضحية، ولن نستطيع أن نستفيض في كل الروايات في هذا الموضوع؛ لأن هذا معناه أننا نتكلم عن حياة الصحابة من أولها لآخرها، وهذا كان المفهوم الثاني للصحابة عن قضية الأخوة، أو عن معنى الأخوة، الأخوة مسؤلية، وبذل وعطاء.

 

المفهوم الثالث: الأخوة لكل من آمن بالله

الأخوة لكل من آمن بالله العظيم ربًا، وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم نبيًا، وبالإسلام دينًا، ولمن قَرُب، ومن بَعُد، لمن كان عربيًا، أو كان أعجميًا، لمن كان حديث الإسلام، أو سابقا بالإيمان، لمن تعرف ومن لا تعرف، فأي مسلم من المسلمين يستحق كل حقوق الأخوة، حتى وإن كنت لا تعرفه من قبل، شمول رائع في مفهوم الأخوة.

 

عمر بن الخطاب كلنا نعرف قصة إسلامة يطرق الباب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم يوم أن أسلم يطرقه، وله تاريخ طويل مؤلم مع المسلمين، تعذيب، وإيذاء، ومعاداة، وكراهية، وفي آخر لحظة من لحظات كفره، كان ذاهبا ليقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، يطرق الباب، ولما نظروا من ثقب الباب، وقالوا: عمر.

قال حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه: افتحوا له الباب، فإن كان يريد خيرا، بذلناه له، وإن جاء يريد شرا قتلناه بسيفه.

ثم دخل عمر وآمن عمر، وبعد إيمانه انقلب كل البغض، وتحولت كل الكراهية الشديدة التي كانت لعمر بن الخطاب في قلوب المؤمنين إلى حب لعمر رضي الله عنه، وكيف ارتضوا أن يخرجوا خلف عمر بن الخطاب، وخلف حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما في صفين إلى الكعبة، مع أنه كان من وقت قريب يعذبهم، ويحاربهم، وهذه هي معجزة هذا الدين، أصبح عمر أخًا لكل المسلمين، يدافع عنهم، ويدافعون عنه، هذه هي الأمة التي رضي الله عنها، والتي أنعم عليها بهذه النعمة، نعمة الأخوة، استفاد عمر رضي الله عنه وأرضاه من هذا الدرس الذي فعله معه المؤمنون، فأصبح مقياس الحب، والكره في قلب عمر مربوطًا بالإيمان، والإيمان فقط.

 

ويروي الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عندما أسلم ثمامة بن أثال رضي الله عنه قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، أسلم ثمامة بن أثال في أواخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد حياة طويلة من محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول عمر بن الخطاب: لقد كان والله في عيني أصغر من الخنزير، وإنه في عيني الآن أعظم من الجبل.

 

اختلفت النظرة بمجرد أن دخل ثمامة بن أثال رضي الله عنه وأرضاه في دين الإسلام بمجرد أن آمن، أصبح له كل حقوق الأخوة، وأولها الحب في الله، الحب الخالص لهذا الأخ في الله لأنه آمن، وقد تحدث هذه العاطفة الأخوية الراقية مع مؤمن لم يره الإنسان من قبل مطلقًا، وتشعر ناحية هذا الرجل بهذه العاطفة القوية، وذلك في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: آتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرجل لا يعرفه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابني الجهد.

بلغ به الجوع مبلغًا حتى أصابه الجهد، فأرسل صلى الله عليه وسلم إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والرسول، لم ينسى القضية فهو يشعر بأخوة حقيقية له مع أنه لم يره من قبل، قال: «أَلَا رَجُلٌ يُضَيِّفُهُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ».

فقام رجل من الأنصار، فقال: أنا يا رسول الله.

فذهب إلى أهله، فقال لامراته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخري شيئًا.

قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية.

قال: فإذا أرادت الصبية العشاء فنوميهم، فأطفئ السراج وأريه أنّا نأكل، ونطوي بطوننا الليلة.

ففعلت، ثم غدى الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم الثاني، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا الكلام في البخاري: «لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ مَنْ صَنِيعِكُمَا بَضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ».

مع أن الأنصاري لا يعرف هذا الرجل من قبل، ولكن ترسخ هذا الفهم لدى الصحابة، حتى وإن لم يكن يعرفه، أو قابله من قبل، لكن المهم أن هذا الإنسان مؤمن بالله عز وجل.

 

ومن أجل هذه الإخوة في الإيمان دون سابق معرفة، فإن الله عز وجل أوجب على المسلمين أن ينفروا لنجدة إخوانهم المسلمين في البلاد الأخرى، إن إحتاج أهل هذه البلاد إلى مساعدة، واتفق الفقهاء على أنه لو سبيت امراة من أهل المشرق، امرأة من أهل المشرق لا تعرفها، ولن يستطيع أهل هذه البلاد تخليصها، وجب ذلك على أهل المغرب، كل المسلمين عليهم تحرير امرأة واحدة فقط، فكيف لو سبي شعب من المسلمين؟

 

أجلى الرسول صلى الله عليه وسلم بني قينقاع من المدينة دفاعًا عن رجل مسلم واحد قتل، وعن امرأة مسلمة واحدة كشفت عورتها، هذا هو المفهوم الذي زرعه الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحابة، قد لا يعرف جيش المسملين الذي ذهب لمحاربة بني قينقاع من المدينة المنورة الرجل الذي قتل أو المرأة التي كشفت عورتها.

 

وخرّج المعتصم جيشًا لإنقاذ امرأة واحدة في بلاد الروم، امرأة مؤمنة واحدة صفعت في بلاد الروم لم تقتل في بلاد الروم، بل صُفِعت، فخرّج جيشًا كاملًا لفك أسر هذه المرأة، وكان المعتصم على رأس الجيش من أجل امرأة قد لا يعرفها أحد، وقد لا يعرفها المعتصم نفسه.

 

وخرّج الحاجب المنصور وكان في الخلافة الأموية في الأندلس خرج جيشًا لفك أسر ثلاث نساء مؤمنات، ثلاث نساء فقط، هذا هو مفهوم الإسلام عن الإخوة في الإيمان، لا فرق بين مصري، ولا سوري، ولا فلسطيني، ولا شيشاني، ولا كشميري، ولا بوسنوي، ولا أي أحد من المسلمين، لا فرق، الكل إخوة في الله، إخوة في الإيمان، إخوة في الإسلام، والله عز وجل سائلك عن أي تقصير في حقوق من ارتبطوا معنا برباط عقائدي واحد.

 

المفهوم الرابع: الأخوة نعمة من نعم الله

والمفهوم الأخير بإيجاز سريع هو أن هذه الأخوة في الله، هي نعمة من الله عز وجل، نسعد بها في دنيانا، وكذلك نسعد بها في آخرتنا، فأنا أقوم بهذه الأعمال ليس للثواب في الآخرة وفقط، بل يعطيني الله عز وجل في الدنيا سعادة، وقد يتصارع أهل الأرض جميعا على الدنيا، ولا يجدوا هذه السعادة التي أجدها مع أخي المسلم، نعمة حقيقية، يقول الله عز وجل: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103]، نعمة كبيرة جدًا من الله عز وجل، وهذه النعمة والله لا تعدلها أموال الأرض جميعًا، فكل أموال الدنيا، وكل نعيم الدنيا لا يساوي هذه النعمة، وهذا الكلام ليس فيه مبالغات؛ لأنه كلام ربنا سبحانه وتعالى، ويقول في كتابه سبحانه وتعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63]. فهذه نعمة واحدة أغلى من كل ما في الأرض.

 

الأخوة نعمة، ونعمة جليلة جدًا، وعظيمة جدًا، وأحيانا لا يدرك هذه النعمة إلا الذي فقدها، أمم الأرض جميعًا تحسد المسلمين على هذه المنة العظيمة، مَن في الأرض يضحي لأجل إخوانه، إلا المسلمين، قال الله عز وجل في حق اليهود: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [الحشر:14].

 

وقال في حق النصارى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:14].

 

لكن أمة الإسلام تعيش فعلًا في نعمة، تعيش فعلا في سعادة في الدنيا بسبب هذه الأخوة.

فمن المستحيل أن يضحي المؤمن الفاهم العاقل بهذه السعادة ويطلب أي نعيم في الدنيا، أو أي مال في الدنيا في نظير هذه الأخوة، إن أعلى معدلات الاكتئاب النفسي توجد عند الرجال، والنساء أو الأطفال الذين يعانون من الوحدة، وراجعوا إحصائيات الاكتئاب النفسي الموجودة في أمريكا، والموجودة في إنجلترا، والموجودة في السويد، وفي الدانمارك، وفي البلاد التي يقال عنها بلاد راقية جدًا، راجعوا معدلات الاكتئاب النفسي تجدوا أنها عالية جدًا، وكلها مربوطة بموضوع الوحدة، وهو انعدام هذه النعمة التي حبانا الله به، الابن أول ما يبلغ 16-17 سنة يترك بيت أبيه، وأمه، ولا يسأل عنهم، وكأن الأمر لا يعنيه.

 

وعلى النقيض تخيل مجتمع الإسلام بهذه الصورة التي شرحناها سعادة ما بعدها سعادة في الدنيا قبل الآخرة، هذه نعمة الإسلام الكبرى.

هذا بإيجاز هو المفهوم الرابع للصحابة عن معنى الأخوة، وعن قضية الأخوة، إن الأخوة تورث السعادة في الدنيا، قبل الآخرة، ولذلك كان من المستحيل أنهم يضحوا بهذه السعادة من أجل أي شيء في الدنيا، أي شيء مهما كان كبيرًا في عين الناس، هذه هي مفاهيم الصحابة عن الأخوة، وكيف تعاملوا مع هذه المسألة الهامة في بناء الأمة الإسلامية.

 

فالأخوة طريق للجنة.

الأخوة مسؤولية.

الأخوة لكل مؤمن مهما بعد أو قرب عرفته أم لم تعرفه.

الأخوة تورث السعادة في الدنيا وفي الآخرة.

 

أختم حديثي بالحديث القدسي الذي رواه الإمام أحمد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَقَّتْ -وفي رواية: وَجَبَتْ- مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ».

 

نسأل الله عز وجل حبه، وحب من يحبه، وحب عمل يقربنا إلى حبه.

راغب السرجاني

أستاذ جراحة المسالك البولية بكلية طب القصر العيني بمصر.

  • 31
  • 3
  • 126,443
المقال السابق
(9) الصحابة واتباع الرسول
المقال التالي
(11) الصحابة والدعوة

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً