كن صحابيًا - (4) الصّحابة والإخلاص

منذ 2014-05-02

في هذه الفصل نحاول أن نضع أيدينا على أول الطريق الذي سار فيه الصحابة

المقصود من هذا البحث أن نكون عمليين، وكيف يكون ممكنًا أن نقلد جيل الصحابة؟

كيف نسلك نفس الطريق الذي سلكه هؤلاء الصحابة ونقتفي أثرهم ونسير على دربهم؟

في هذه الفصل نحاول أن نضع أيدينا على أول الطريق الذي سار فيه الصحابة، وهذا هو الفصل الرابع من (كن صحابيًا) تحدثنا في الفصول الثلاثة السابقة عن جيل صحابة رسول الله، تحدثنا في الفصل الأول عن صفة هذا الجيل العظيم، خير الناس خير القرون، تحدثنا عن هذا الجيل الذي رأى رسول الله صلى اله عليه وسلم، وعاش معه، وتحدث إليه، وتعلم منه مباشرة، ثم نقل الرسالة بأمانة إلى من بعده بعد ذلك بعد وفاة رسول الله، وما زلنا إلى اليوم ننعم بنقل صحابة رسول الله للدين إلينا، وتحدثنا في الفصل الثاني عن إمكانية تقليد جيل الصحابة، بعض الناس تحبط من تقليد جيل الصحابة؛ لأن مستوى هذا الجيل عالي جدا، نحن نقول: "إن هذا الجيل جيل قدوة، ونستطيع أن نقلد هذا الجيل".

نعم الذي يقلده هو الذي يعمل بسيرته كأنه يقبض على الجمر، لكنه في المقابل كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ مثل أجر خمسين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون من الممكن تقليد هذا الجيل.

 

والفصل الثالث تحدثنا فيه عن صناعة الإنسان، صناعة الإنسان في الإسلام ماذا يعني إنسان في الإسلام؟ وكيف يتحول الصحابي من إنسان ليست له أية طموح في الدنيا غير ملذاته الشخصية، وغير حياته الخاصة إلى إنسان يحمل هَمّ هذا الدين على عاتقه، يحمل هذه الدعوة إلى كل ربوع الأرض؟

تحدثنا عن أمثلة الصحابة الكرام، كيف أسلموا؟

وكيف انتقلوا من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام؟

وذكرنا أن بدايات الصحابة كانت صعبة، بل هي أصعب من بداياتنا بلا شك، الصحابة كانوا يعبدون إله غير الله عز وجل، ونحن بحمد الله وُلدنا مسلمين، الأب والأم عند الصحابة كانوا كفارًا، والحمد لله الآباء والأمهات عندنا من المسلمين المؤمنين، وانتقال الصحابة من الكفر إلى الإيمان اختبار صعب جدًا، الحمد لله نحن لم نُعَرّض لهذا الاختبار، فبالتبعية انتقالنا من عدم الالتزام بهذا الدين إلى الالتزام به، لا شك أنه أسهل من انتقال الصحابة مما كانوا عليه إلى ما وصلوا إليه، نحن سنتحدث الآن ونبين كيف نكون عمليين؟ وكيف نقلد هذا الجيل الفريد من الصحابة؟

 

في الفصل الرابع، وما يستجد بعد ذلك من فصول، سنتكلم في كل فصل عن صفة من صفات الصحابة، أو معنى من المعاني التي عاشها الصحابة، ومارسوه في حياتهم، وسنعرف كيف كان فهمهم، وتحركهم في حياتهم بهذا المعنى، وهذا هو الطريق الذي سلكه الصحابة ووصلوا فيه إلى ما وصلوا إليه من علم الله عز وجل في الآخرة، كما قال الله عز وجل {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ} [التوبة:100] في هذا الفصل نعرف كيف نكون عمليين، وبهذا الفصل نضع أيدينا على أول طريق سلكه الصحابة، وساروا فيه، حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه.

 

سنتكلم على صفة من أهم صفات الصحابة، أمر هام جدًا كان يميز جيل الصحابة، وأَعْتَبِرُ هذا الشيء هو أهم شيء في حياة الصحابة مطلقًا، لا يمكن أن يكون هناك مؤمن بغير هذه الصفة، لا يمكن أن يُقبل عمل بغير هذه الصفة، هذا يدل على أن هذه الصفة فعلًا خطيرة، هذه هي صفة الإخلاص لله عز وجل.

أعرف أن كثير منا ممكن أن يطلق على نفسه لقب مخلص، أو يعتقد اعتقادًا جازمًا بأنه مخلص تمام الإخلاص، لكن كيف كان مفهوم الصحابة عن الإخلاص؟

كيف استوعب الصحابة هذه الصفة؟

وكيف مارسوا هذه الصفة في حياتهم؟

 

من أهم القضايا في حياة المسلم

وقبل أن أبدأ في وصف فهم الصحابة لصفة الإخلاص، أحب أن أذكر لكم أن هذا الفصل، وبكل صدق أعتبره من أهم الفصول في حياة المسلمين، ومن أخطر الدروس فعلًا، لذا أريد منكم فهم هذا الدرس بعمق، فهذه القضية خطيرة، بل من أخطر القضايا، فمن يرسب في امتحان الإخلاص يكن مصيره لا محالة إلى النار، ومن ينجح فيه فهو الفائز الذي زُحْزِح عن النار وأُدخل الجنة، فالقضية فعلًا خطيرة، يقول سبحانه وتعالى في كتابه عن قضية الإخلاص آية في منتهى الخطورة يقول ويخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ} [الزُّمر:65] لو لم يوجد إخلاص {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِين} [الزُّمر:65].

قضية خطيرة جدًا، هذا الكلام يوجه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومفهوم أن الرسول مستحيل أن يشرك بالله عز وجل، ولكن هذا لتعظيم الجرم؛ لتقبيح الفعل، والشرك هو عكس الإخلاص، فمن أشرك بالله عز وجل ما أخلص لله عز وجل، نعلم أن معنى الإخلاص أن يكون العمل خالصًا تماما من كل شائبة، والشوائب هي الشركاء، فلو أشركت مع الله عز وجل شريكًا آخر أيَّ شريك بنسبة (25%) مثلًا، فهل سيكتب لك خمسة وسبعين في المائة من الأجر، ويضيع عيك خمسة وعشرون في المائة، أم سيذهب العمل كله؟

هل سيحبط العمل كله لنسبة بسيطة من الإشراك؟

 

الله يقول: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} [الزُّمر:65].

واقرأ هذا الحديث الذي يفسر هذا الموضوع، روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله: «قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكِهِ».

يحبط العمل كله.

 

وحديث يوضح هذا المعنى بصورة أكبر، روى البخاري، ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن أعرابيًا آتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر -حتى يشتهر أمره بين الناس- والرجل يقاتل ليرى مكانه -لكي يقال عنه شجاع-، ويسأله الرجل: من منهم في سبيل الله؟

الرجل يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن من هؤلاء الثلاثة قاتل في سبيل الله؟

الرسول صلى الله عليه وسلم أعرض عن كل هؤلاء الثلاثة، حتى لم يناقش قضيتهم، وقال: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».

أما هذه الأغراض الثلاثة، أوغيرها من الأغراض، فليست في ميزان الله عز وجل، ولا يصح أن توضع في جانب الإخلاص، فكلها إشراك بالله عز وجل، غرض واحد هو الذي يوضع في جانب الإخلاص، هو من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله، إن الغنيمة ليست حرامًا، بالعكس الله عز وجل شرع في كتابه أن توزع أربع أخماس الغنيمة على الجيش، فالمغنم ليس حرامًا إذًا، والذكر بالخير ليس حرامًا، وصفة الشجاعة ليست حرامًا، لكن هذا للعبد، هذا للنفس، وليس لله عز وجل، فلو أنت قاتلت لهذه الأغراض، ومن أجلها، فهذا حظ نفسك، وقد حصلت عليه في الدنيا، فلا يحسب عند الله عز وجل، لكن من يقاتل لإعلاء كلمة الله عز وجل في الأرض، فهو المقاتل في سبيل الله.

 

وحديث آخر أخطر من هذا الحديث يوضح المعنى بصورة أكبر، وأكبر، روى النسائي بإسناد جيد أن أبا أمامة رضي الله عنه وأرضاه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجل غزى يلتمس الأجر والذكر.

هذا الرجل يريد الأجر من الله سبحانه وتعالى، فهو خارج في سبيل الله عز وجل، لكن إلى جانب هذا الخروج هو يلتمس أيضًا الذكر حتى يقول عليه الناس فلان الذي قاتل، وحارب، وانتصر، إلى غير ذلك من صفات المجاهدين، فهو يريد الاثنين: الأجر والذكر.

أرأيت رجل غزى يلتمس الأجر والذكر، ما له؟

الرجل يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم: ما له؟ يقصد من الأجر، كم له من الأجر عند الله عز وجل؟

فقال صلى الله عليه وسلم كلمة في منتهى الخطورة، قال صلى الله عليه وسلم: «لَا شَيْءَ».

سبحان الله، لا شيء، حتى نسبة الأجر خمسين في المائة، ولا خمسة وسبعون في المائة، ولا خمسة وتسعون في المائة، أُحْبط كل العمل، فأعادها عليه ثلاثا، الرجل يستعجب، ورسول الله كما يقول أبو أمامة يرد عليه في كل مرة: «لَا شَيْءَ». ثم قال صلى الله عليه وسلم لكي يوضح له الصورة، قال: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهَهُ». سبحانه وتعالى.

 

وحديث آخر من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث فعلا شديد الخطورة، وفيه معنى عميق جدًا، روى مسلم، والنسائي، وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ».

وأول ما تقرأ أول هذا الحديث تظن أنه من أهل الجنة وسيدخلها بغير حساب.

«فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا». ظل يقول له أعطيتك كذا وكذا من النعم الضخمة الكثيرة التي لا تحصى من الله عز وجل.

فقال: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتَ».

فقد بلغ أقصى الأعمال رفعة عند الله عز وجل، ذروة سنام الإسلام، الجهاد في سبيل الله.

«قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ».

هذا الرجل كان يقاتل للذكر، كان يقاتل من أجل أن يشتهر بين الناس بأنه مقاتل جريء شجاع، «لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ».

الناس قالت ما تريده، وقد أخذت حظك من الدنيا.

«ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ».

هذا أول من قُضي عليه يوم القيامة، الرجل الثاني الذي يقضى عليه يوم القيامة: «وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: مَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ الْقُرْآنَ فِيكَ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِأَنْ يُقَالَ: عَالِمٌ. وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِأَنْ يُقَالَ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ».

ما كنت تعمل من أجل وجه الله سبحانه وتعالى، بل فعلتها للناس؛ ليقول الناس: عالم وقارئ. وقد قيل، أخذت ما تمنيت، وما أردت.

«ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ» .

الرجل الثالث: «وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ. فَقَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ. فَقَدْ قِيلَ».

تحدثت الناس بما أردت فعلًا، وقالوا عنك جواد، وكريم، وأخذت حظك من الدنيا.

«ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ».

 

لا بد من وقفة مع هذا الحديث الخطير، كان من الممكن أن يسعر الله عز وجل جهنم أول ما تسعر بزانٍ، أو قاتل، أو مرتكب لكبيرة من الكبائر، أو لمعصية ضخمة من المعاصي، كان من الممكن ذلك، ولكن أراد الله أن يسعرها أولًا بهؤلاء لإثبات أن عملهم الذي أشركوا فيه غير الله عز وجل قد أحبط تمامًا، كأنه لم يعمل، وكل هذا لأجل تعظيم قدر الإخلاص لله عز وجل.

والصحابة أدركوا هذا الأمر، وفهموه جيدًا؛ لهذا عاشوا حياتهم كلها لله عز وجل، عاشوا حياتهم بكاملها مخلصين لله عز وجل، وبإدراكنا لهذه الأحاديث والآيات، ومعرفة فهم الصحابة لهذه الآيات، نستطيع أن نفهم مواقف غريبة جدًا في حياة الصحابة.

 

إن تصدق الله يصدقك

موقف عجيب لصحابي من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم رواه النسائي عن شداد بن الهاد رضي الله عنه وأرضاه وشداد بن الهاد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به، واتبعه، ثم قال: أهاجر معك.

ولنتعلم الإخلاص من هذا الأعرابي البسيط الذي ما زال حديث عهد بالإسلام، وبإيمانه بالرسول صلى الله عليه وسلم ينال لقب صحابي لتحقيقيه شروط الصحابي، والصحابي هو من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ورآه، أو اجتمع به، ومات على هذا الإيمان، فهذا الاعرابي يدخل في نطاق الصحابة مع أنه حديث عهد بالإسلام، فالرسول صلى الله عليه وسلم أوصى به بعض أصحابه حتى يعلموه الدين، وعلموه بعض أمور دينه، ثم جاءت غزوة مباشرة بعد هذا التعليم البسيط لأمور الدين، جاءت غزوة، فلما كانت هذه الغزوة غنم النبي صلى الله عليه وسلم سبيًا فقسمه، والسبي هو النساء، وقسم لهذا الأعرابي الجديد الذي أسلم حديث، لكنه دخل في الموقعة وانتصر، وقسمت الغنيمة على الناس، فقسم السبي على الصحابة، وهذا الصحابي لم يكن موجودًا، فالأعرابي كان في مكان بعيد، فلما قسم صلى الله عليه وسلم الأقسام على الصحابة جعل له قسمًا، وقال لأصحابه لما يأتي هذا الرجل أعطوا له قسمه، فجاء الرجل، فدفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم.

والرسول هو الذي يقسم هذا يعني أنه حلال خالص، وما قسمه له النبي صلى الله عليه وسلم هو سبي، يعني نساء، فهناك ميل فطري له، ومع ذلك انظر إلى رد فعل الصحابي الأعرابي البسيط الذي أسلم منذ أيام قلائل، يا ترى ماذا كان رد فعله؟

وماذا فعل؟.. أخذ السبي وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: ما هذا؟

من يقرأ الحديث يظن أن هذا الصحابي قد استقل هذا العطاء.

قال: «قَسَمْتُهُ لَكَ».

الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «قَسَمْتُهُ لَكَ» قال: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمِى إِلَى هَا هُنَا.وأشار إلى مكان في رقبته مكان في الحلق مكان مميت لو ضرب فيه بسهم قتل لا محالة.

وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَا هُنَا بِسَهْمٍ فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ.

نريد أن نقف وقفة طويلة هنا في هذا الموقف، هذا الفعل من الصحابي قد يستغربه البعض، يعتقد أن هذه مبالغة، وهي فعلا مبالغة، لكن لا مبالغة في الخير، وهذا الصحابي مع أن عمره في الإسلام قليل جدًا جدًا، لكن فهمه عميق جدًا، رؤيته واضحه جدًا، الجنة عظمت في عينه، أصبح الجهاد عنده يساوي الدنيا كلها، يخاف أن يأخذ شيئًا يشغله عن الجهاد، ومن ناحية أخرى يخاف أن تتغير نيته، أحيانًا يبدأ أحدنا عملًا بنية خاصة لله عز وجل، وبعد أن تكثر أمواله، ومنافعه من العمل تتغير نيته، مثل من يقيم مدرسة مثلا بنية أن هذا مشروع تربوي إسلامي سيفيد به الأمة الإسلامية كلها، عمل جليل جدًا، وبعد أن تزداد الأموال يبدأ في تغيير نيته، وتكون الدنيا هي همه، يرفع أسعار المدرسة، يعمل رحلات بأسعار عالية، ويكسب من ورائها، يُغَير لبس المدرسة كل سنة؛ ليضطر أولياء الأمور شراء الملابس كل عام، يبدأ في زيادة عدد الطلاب في كل فصل، بدلًا من عشرين أو خمسة وعشرين حتى تسير الأمور التربوية في مسارها، يكونون ثلاثين، أو أربعين، وخمسين؛ لتزداد أمواله، وهو يعرف أنه لن يستطيع أن يقوم بمثل هذه الأبعاد التربوية التي كان سيقوم بعملها في الفصل مع العدد الكبير، وتغيرت النية، الصحابي الأعرابي البسيط لم يرد أن يدخل في كل التجربة، يريد أن يعيش حياة مخلصة لله عز وجل، وإن قصرت هذه الحياة، لهذا رفض المغنم الحلال، وقرر أن يشتغل لله عز وجل بدون أجر، وطبعًا هذا وإن لم يكن فرضًا فهو من فضائل الأعمال، والرسول صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه ذلك، ولم يذكر أن هذا تشدد منه، بل قال: «إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ».

 

وفعلا لو أنت صادق في نيتك، سيحقق لك الله كل ما تريد، لهذا السبب لا بد وأن يكون لكل واحد منا أعمال خير كثيرة، ولا يأخذ عليها أجرًا من أحد، ويثبت إخلاص نيته لله عز وجل، فالمدرس من الممكن أن يدرس من غير أموال يأخذها لمن يحتاج، والطبيب يعالج من غير تقاضيه أجرًا للمحتاجين، المحامي بإمكانه أن يترافع عن مظلوم محتاج من غير مال يأخذه، هو محامي يعمل لله عز وجل، هذا ليس فرضًا، لكن هذه وسيلة لإثبات الإخلاص لله عز وجل.

 

ما الوسيلة التي من الممكن أن تعرف بها أنك مخلص تمامًا لله عز وجل، في عملك كلنا نقول: إننا مخصلين لله عز وجل. لكن أحيانًا يكون هناك أجر على عملك، فهل كل من أخذ أجرًا على العمل يصبح غير مخلص؟

بالطبع لا، فالصحابة أخذوا أجرًا على أعمالهم، وبقية الصحابة في نفس الغزوة أخذوا الغنيمة، وأخذوا السبي، فأين تكمن المشكلة إذًا؟

وإخلاصهم عالي جدًا، فكيف تفهم أنك مخلص أو غير مخلص؟

 

المقياس الحقيقي في الإخلاص: أن تعمل العمل بصرف النظر تقاضيت أجرًا أم لا، أما إذا ربطت عملك بالأجر، فهذا يدل على ضعف الإخلاص، أو غيابه أصلًا، ولنرجع لقصة الصحابي الأعرابي، الصحابي الذي لم يأخذ شيئًا من السبي، وقال أنا لم أدخل معك في الإسلام إلا لأُقْتل في سبيل الله، فقال له صلى الله عليه وسلم: «إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ».

فلبثوا قليلًا كما يقول شداد بن الهاد رضي الله عنه وأرضاه راوي الحديث: فلبثوا قليلًا، ثم نهضوا في قتال العدو، في غزوة ثانية، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم يُحمل، وهو مقتول شهيد رضي الله عنه وأرضاه، الأعرابي قد أصابه سهم حيث أشار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَهُوَ هُوَ؟»

حتى الرسول صلى الله عليه وسلم يستعجب، جاء له السهم في نفس المكان الذي أشار إليه، قالوا: نعم.

قال: «صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ اللَّهُ».

هذا الصحابي وقف على حقيقة الإخلاص، ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته، ثم قدمه، فصلى عليه فكان فيما ظهر من صلاته: «اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ، فَقُتِلَ شَهِيدًا، أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ» (صحيح النسائي). هل هناك مكافأة أفضل من تلك، لعلك تعمل عملا خالص لله عز وجل تمامًا وتكون النهاية في هذا العمل فتموت على هذا الإخلاص، فيكون هذا العمل هو سبب السعادة في الدنيا والآخرة، هذا الاخلاص هو ما نريده.

 

وسيجنبها الأتقى

ولنرى الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وهو يعتق العبيد في بدء الدعوة كان يشتري العبيد بكميات كبيرة، ويدفع أموالًا ضخمة في شراء العبيد، وكان يشتري العبيد ضعفاء فقراء بسطاء من الرجال، ومن النساء على السواء، فقال له أبوه أبو قحافة، وكان ما زال مشركًا، قال له: يا بني أراك تعتق رقابًا ضعافًا، فلو أنك أعتقت رجال جلدًا يمنعونك. فقال الصديق رضي الله عنه وأرضاه: يا أبتي، إنما أبتغي وجه الله عز وجل.

لا أريد غير رضا ربنا سبحانه وتعالى: إنما أبتغي وجه الله عز وجل.

هذه حقيقة الإخلاص، فأنزل الله قوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} [الليل:17]

هذه من أعظم مناقب الصديق رضي الله عنه وأرضاه الله عز وجل يشهد له بأنه الأتقى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى . الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى . ومَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى . إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى . وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:17-21].

هذه نيتجة الإخلاص أن يرضى الله عنه عز وجل.

 

كيف تغرس الإخلاص في قلبك

قد يقال: إن الكلام سليم وسهل، لكن التطبيق صعب، بل عسير.

هذا الكلام في منتهى الصدق والحق، فعلًا شيء صعب، أحد التابعين يقول: ما عالجت شيئًا أشد عليَّ من نيتي.

أكثر شيء في شدة الصعوبة هو النية، هو الإخلاص، لكن لا بد أن تكون هناك طريقة لغرس الإخلاص، لن يطلب الله منا أمرًا، إلا وهو يعرف أننا نقدر على فعله، قد يطلب أحدنا طريقة عملية للإخلاص، يقول: اذكر لي أمرًا واحدًا إذا فعلته زرعت الإخلاص في قلبي.

أقول له: أعط لله قدره تكن مخلصًا له.

ولتضع هذه الكلمة في مخيلة عقلك، فحتى تكون مخلصًا لله عز وجل أعط لله قدره تصبح مخلصًا له، والله لو عرفتم قدر الله عز وجل لن تشتغلوا لغيره، مستحيل أن يأتي الإشراك، وعندما لا تعطي لله عز وجل قدره يقول سبحانه وتعالى وفكر في كل كلمة في هذه الآية: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزُّمر:67]، هذا هو المرض، فالناس لم تعط لله عز وجل قدره

{وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزُّمر:67] .

وهذه بعض علامات قدرة الله عز وجل {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزُّمر:67] وهو المفروض أن نقوم به، وهو تعظيم وتقدير وإجلال لله عز وجل {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزُّمر:67] فمن هم الذين أشركوا، الذين لم يعطوا لله عز وجل قدره {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزُّمر:67].

 

يأتي الإشراك عندما لا يعطي العبد لله عز وجل قدره، الصحابة عرفوا هذا القدر لله عز وجل، ولذلك علموا أن من يعمل لإرضاء غير الله عز وجل فهو سفيه، هذا نوع من السفه، نوع من الحماقة أن تعرف قدر الله عز وجل، ثم تعمل لغيره، وكيف نعطي لله عز وجل قدره أكثر من النظر والتدبر في كتاب الله عز وجل المقروء، وفي كتاب الله عز وجل المنظور، ما هو كتاب الله المقروء؟

وما هو كتاب الله المنظور؟

الكتاب الأول، الكتاب المقروء القرآن الكريم، واقرأ أي سورة، أو أي آية لابد أنك ستتعرف على قدره سبحانه وتعالى، أي آية، تدبر في كل آية، وقف على كل كلمة، الرسول صلى الله عليه وسلم كان أحيانًا يقوم الليل كله بآية واحدة، يصلى طول الليل بآية، قام ليلة كاملة بقوله سبحانه وتعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [المائدة:118].

لو فكرت في الآية لن تُشْغَل بغير الله سبحانه وتعالى، إن كل شيء بيده فكيف الاشتغال بغيره؟

مع أن الرزق بيد الله سبحانه وتعالى، وقلوب العباد بيده سبحانه وتعالى، والمقادير كلها بيده سبحانه وتعالى، والحياة بيده، والموت بيده، والجنة بيده، والنار بيده، ولن يحاسبك أحد غيره يوم القيامة، فلماذا تشتغل بغيره سبحانه وتعالى؟

وهو الأول، وهو الآخر، هو المحيي، وهو المميت، هو النافع، وهو الضار، هو المبدئ، وهو المعيد، هو الملك الذي يملك كل شيء، إن أي ملك من ملوك الأرض ملكه نسبي غير مطلق، وإن كان يطلق عليه لقب ملك، لكن في النهاية هو ملك نسبي يملك أشياء، ولا يملك أشياء أخرى، قد يعتريه الفقر، قد يعتريه المرض، قد يعتريه الضعف، قد يعتريه الألم، وسيعتريه الموت لا محالة، لا يستطيع أن يسعد نفسه، ولا يملك سعادة الناس، ولا حب الناس، ولا أعمار الناس، ولا أرزاق الناس، ملكه نسبي، ملك بسيط حقير تافه، وفي نهايته سيتركه، فإما يزول الملك، وإما هو نفسه يموت، ويترك الملك، فكل هذا ملك نسبي، لكن الله سبحانه وتعالى ملكه مطلق، فكيف تشتغل لغيره؟

 

اقرأ في كتاب الله عز وجل: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} [الأنعام:13].

هذا كتاب الله عز وجل المقروء القرآن الكريم.

{وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ . قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ} [الأنعام:13-14].

وهذا هو الإخلاص أتسألني أن أتخذ وليًا غير الله سبحانه وتعالى.

{قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الأنعام:14] هذا سبب الإخلاص، غيره سبحانه وتعالى يُطْعَم ولا يُطِعم.. رئيس المصلحة، مدير المدرسة، الملك، السلطان، الشرطي، أي فرد يُطْعَم ولا يُطِعم، إن الله عز وجل يُطِعم سبحانه وتعالى ولا يُطْعم {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ} [الأنعام:14]

إن من يشرك بالله عز وجل هو الذي يتخذ وليًا غير الله عز وجل.

{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15]

وهذا سبب آخر للإخلاص، كل الناس تملك أشياء بسيطة في الدنيا، لكن لا تملك شيئًا مطلقًا في الآخرة، الله عز وجل يملك الآخرة بكاملها، يقول سبحانه: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الفَوْزُ المُبِينُ . وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:16-17].

سبب ثالث للإخلاص: لن ينفعك غير الله عز وجل، فهو الذي يُطْعِم ولا يُطْعَم، فالرزق كله من عنده، يملك يوم القيامة ولا أحد من البشر أو الخلق يملك هذا اليوم إلا الله عز وجل، هو الذي ينفع ويضر سبحانه وتعالى، هو القاهر فوق عباده، فإن لم يكن بإرادتك سيكون رغمًا عنك أخلصت أم لم تخلص، ما أراده الله سيكون {وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ} [الأنعام:18].

فكيف تقرأ هذه الكلمات في كتاب ربنا سبحانه وتعالى، ولا تخلص لله عز وجل.

 

اقرأ ما يقوله سبحانه وتعالى: {للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ . وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان:26-27]، قف لحظة، وتدبر هذه الآية، كل أشجار الأرض تخيل كل الغابات التي سمعت عنها في أمريكا، وفي أوروبا، وفي مصر، سبحان الله أشجار لا نهائية، تخيل إن كل هذه الأشجار أقلام، {وَالبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} [لقمان:27] البحر عبارة عن حبر، مداد ليكتب آيات الله عز وجل، الشجر أقلام، والبحر مداد، ومع ذلك {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ} [لقمان:27] ما نفدت آيات الله في الأرض.

{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لقمان:27-28] لا شيء صعب عند الله سبحانه وتعالى، خلق البشر كخلق إنسان واحد، لا يوجد شيء صعب وآخر سهل، شيء ممكن وآخر غير ممكن، كله كن فيكون {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ . ألَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [لقمان:28-29].

 

هذه آية نراها كل يوم، كل يوم الكون كله يسير بنظام معين، لو أن الأرض غيرت من سرعتها بدرجة بسيطة جدًا، أو الشمس غيرت من سرعتها بدرجة بسيطة جدًا لن ترى الليل في ميعاده، ولا النهار في ميعاده، لكن ما حدث هذا يومًا، وما تأخر الليل، وما تأخر النهار {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ . ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ البَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ} [لقمان:29-30].

هذا هو الإخلاص، {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ البَاطِلُ} [لقمان:30] هذا هو الإشراك {وَأَنَّ اللهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ} [لقمان:30].

 

اقرأ القرآن بتدبر، اقرأ، وقف على كل كلمة، وكل آية، اقرأ كلام ربنا سبحانه وتعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ} [سبأ:22] يخاطب أولئك الذين لا يعملون لله عز وجل، يخاطب من يقول أنا عبد المأمور، ويمارس المنكر، ويمارس الظلم، ويمارس الخطيئة؛ لأن هناك من البشر من أمرهم بذلك.

{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ} [سبأ:22] ثم يُظْهر ضعف هؤلاء الذين يُدْعَوْن من دون الله عز وجل {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ} [سبأ:22]

أول أمر لا يملكونه مثقال ذرة، سبحان الله انظر إلى مدى هذا الضعف.

{لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ} [سبأ:22] أول أمر {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} [سبأ:22] لا يشركون في حكم أي جزء في السماوات، ولا في الأرض، ولا له سبحانه وتعالى، {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:22] لا يوجد مساعد، أو معين، ولا حتى يساعد الله سبحانه وتعالى في حكم الله عز وجل في السماوات والأرض، الأمر الآخر {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23] فهؤلاء يوم القيامة لن يستطيعوا أن يشفعوا، حتى إن لم يحكموا، ولا يملكوا، ولا يساعدوا في الحكم، لن يستطيعوا الشفاعة لأحد يوم القيامة، لا يملكون شيئًا في المقدمة، ولا يملكون شيئًا في المؤخرة، لا يملكون شيئًا في الدنيا، ولا شيئًا في الآخرة {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الحَقَّ وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ} [سبأ:23] وتمر الآيات وراء الآيات، ويأتي قول الله:

{قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [سبأ:27].

 

واقرأ مثلًا قول الله عز وجل: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ} [البقرة:255] تخيل الكرسي الذي وسع السماوات والأرض، روى البيهقي، وقال: صحيح. وكذلك قال ابن كثير عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا السَّمَاواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُونَ السَّبْعُ عِنْدَ الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلَقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ».

السماوات السبع، تخيل السماوات السبع، وكل ما نراه في الكون، ولم نصل للسماء الدنيا، تخيل السماوات السبع، والأرضون السبع، عند الكرسي كحلقة في فلاة، كحلقة ملقاة في فلاة، حلقة حديد ملقاة في صحراء واسعة، هذا الكرسي، فكيف يكون العرش عرش الرحمان سبحانه وتعالى؟

يقول صلى الله عليه وسلم: «وَإِنَّ فَضْلَ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلَاةِ عَلَى تِلْكَ الْحَلَقَةِ».

يا سبحان الله العرش بالنسبة للكرسي مثل الصحراء بالنسبة للحلقة الصغيرة الملقاة، يعني كل السماوات، وكل الأرض، كلها لا تساوي أي شيء في كرسي الله عز وجل، وفي عرش الله عز وجل، وهذا ما دلنا عليه ربنا، وعرفناه في القرآن الكريم، فكيف تتجرد من الإخلاص لربنا سبحانه وتعالى، وكيف تبيح لك نفسك أن تطلب من غيره، ولا تطلب منه؟

كيف تخاف من غيره، ولا تخاف منه؟

كيف يكون ممكنًا أن تتوكل على غيره، ولا تتوكل عليه؟

كيف تلجأ إلى غيره ولا تلجأ إليه؟

 

كل ما قيل إلى الآن سبع أو ثمان آيات، تخيل إلى أي مدى سنكون مخلصين لو قرأنا كتاب الله كله بتدبر وبفهم وبوعي، يكفي أنك تفكر فقط في أن هذا الكلام هو كلام الله عز وجل، شيء مهول، القرآن رسالة من الله عز وجل إليك، فاهتمامك بقراءة الرسالة بتدبر، يكون تعظيم وتقدير للذي أرسل إليك الرسالة، وبالتالي لكي نبحث عن الإخلاص لا بد من قراءة الرسالة القادمة، نقرأ من الله سبحانه وتعالى، نقرأ كتاب الله المقروء.

 

وهذا هو الكتاب الأول، أما الكتاب الثاني فهو كتاب الله المنظور، وكتاب الله المنظور، هو الكون، هو الخلق، تفكر في خلق السماوات والأرض، خلق مِنْ خلق الله عز وجل يقول فيه سبحانه: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غافر:57].

هذا الكون الفسيح جدًا لدرجة يتوه العقل فيها تمامًا، ولن يستطيع أن يتخيلها، وتفكر في الكون، وتخيل أن هناك طائرة خيالية لم تُخْتَرع بَعْدُ، طائرة خيالية تسير بسرعة (300000) كيلو متر في الثانية الواحدة، ترى كم من الوقت تحتاج للتجول في أرجاء الكون؟

تحتاج لألف مليون سنة، وفي النهاية لن تسطيع؛ لأن الكون يتمدد ويتوسع، كما قال الله عز وجل: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47].

وفكر معي، الأرض تبعد عن الشمس مسافة (150) مليون كليو متر، تخيل.. وهي تدور، أي الأرض، تدور في محورها بسرعة ألف وستمائة كيلو متر في الساعة، الدائرة التي تدور الأرض فيها قطرها (300) مليون كيلو متر، تخيل الأرقام، وتكمل الدورة في سنة كاملة، الأرض مع ثمان كواكب أخرى مع الشمس، المجموعة الشمسية كما تعرفون تسع كواكب، أبعد كوكب فيها هو كوكب بلوتو، يدور في دائرة قطرها (12) مليون مليون كيلو متر، يدور حول الشمس في الدائرة (12) مليون مليون كيلو متر، كل هذا في المجموعة الشمسية، والشمس نفسها ليست ثابتة، الشمس نفسها تدور في فلك، ومعها كل الكواكب التي من حولها، ومنها الأرض، سرعة دوران الشمس (960000) كيلو متر في الساعة، وهذه الشمس أحد الشموس في مجرة هائلة اسمها مجرة درب التبانة، الشمس معها كم شمس مثلها، وحولها كواكب مثل الأرض.. وأكبر.. وأصغر حولها أيضًا، كم شمس في مجرة درب التبانة؟ أربعمائة ألف مليون شمس مثل شمسنا في مجرة درب التبانة، أكيد الكون كله عبارة عن مجرة درب التبانة، أبدًا، بل مجرة درب التبانة واحدة من مجرات هائلة في الكون، يبلغ عدد المجرات في الكون مائتي ألف مليون مجرة، تشبه مجرة درب التبانة.

 

ارجع، راجع هذه المعلومات، وتلك الأرقام، وهل هذا ملكوت ربنا سبحانه وتعالى، أو جزء من ملكوت ربنا سبحانه وتعالى؟

كل هذا جزء من الكون الذي رأيناه بالتلسكوبات، وكل ما يُخْترع تلسكوب أكبر، كل ما نرى أكثر، كل هذه المليارات تدور في الكون دون تصادم، وبعض المجرات تدخل مجرات أخرى كاملة، دون أن تصطدم، هذا الكون عظيم من صنع الله عز وجل، {هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [لقمان:11].

فكيف بك بعد معرفة كل هذه المعلومات، وتلك الحقائق، ولا تعبده سبحانه وتعالى حق العبادة، ولا تعمل لله عز وجل، أو تعمل لغيره، أو تشرك بالله عز وجل شيئًا.

ما سبق كان أكبر ما في الكون، السماوات والأرض، فلنتدبر شيئًا صغيرًا جدًا في الكون، نتدبر في الذرة، سبحان الله، الذرة صغيرة جدًا في الحجم لدرجة إننا لا نستطيع بالمناظير الكبيرة جدًا التي تكبر ملايين المرات، لا نستطيع أن نرى هذه الذرة، هذه الذرة العجيبة تحتوي على نفس نظام الكواكب السيارة حول الشمس، نفس نظام النجوم الدائرة في المجرة، سبحان الله، هذا يثبت أن خالق هذا الكون هو خالق واحد؛ لأن الكون متشابه، كل الكون فيه أشياء متشابهة جدًا، هذه الذرة الدقيقة جدًا تحتوي على إلكترونات تدور حول برتون، مثل الأرض والكواكب تدور حول الشمس، هذه الإلكترونات التي تدور حول البرتون، فكم حجم الإلكترون في الذرة؟

نسبة الإلكترون إلى الذرة تساوي -لقد قلنا إن الذرة لا نستطيع رؤيتها لأنها صغيرة جدًا جدًا- واحد على ألف مليون من حجم الذرة، يا سبحان الله، واحد على ألف مليون من حجم الذرة، الإلكترون يدور حول البرتون بلايين المرات، بلايين المرات في الثانية الواحدة، الإلكترون أصغر من الذرة بكثير لهذا نستطيع أن نفهم كلام ربنا سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ:3].

 

العلماء السابقون كانوا يعتقدون أن هذه صيغة مبالغة {وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ} [يونس:61] لأن في اعتقادهم أنه لا يوجد شيء أصغر من الذرة، يعني سبحان الله هذا بعض ما مّن الله به علينا من العلم، العلم يثبت أن الإلكترون أصغر من الذرة ألف مليون مرة، ولا ندري ماذا يحدث غدًا، مؤكد سيكتشف العلم بعد ذلك أن الإلكترون هذا الجسيم الصغير جدًا داخل الذرة، بداخله عالم ضخم جدًا من الأحداث لا نعرفها بعد.

 

لو نفكر في أنفسنا، في حياتنا نفسها {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] الإنسان قد ينبهر بنظام الاتصالات، اتصالات العصر الحديث: التليفونات، وأقمار صناعية، أشياء كثيرة، لكن سبحان الله، تعالى انظر في جسدك، وانظر لنظامك العصبي، لنظام الاتصالات داخل النظام العصبي في الإنسان يضم ألف مليون خلية عصبية بداخل الطفل، والشاب، والشيخ الكبير، ألف مليون خلية عصبية داخل نظام الاتصالات الرهيب الذي خلقه ربنا سبحانه وتعالى داخلنا، من كل خلية تخرج أسلاك تنتشر في أنحاء الجسم المختلفة؛ لكي تتحكم في كل وظائف الجسم، فتوجد خلايا ذاهبة للرئة، خلايا للعين، للقلب لكل عضو في الجسم، الأخبار تمشي في الأسلاك بسرعة أكبر من مائة كيلومتر في الساعة داخل جسمك، تخيل الأخبار تمشي بسرعة أكبر من مائة كيلو متر في الساعة، لكي تتدوق يوجد لديك عشرة آلاف شُعَيرة في لسانك للتذوق سبحان الله، لكي تسمع عندك في كل أذن عشرة آلاف خلية سمعية، عندك في كل عين مائة وثلاثون مليون خلية ملتقطة للضوء؛ لكي تبصر، مائة وثلاثون مليون خلية في العين الصغيرة، في العين الواحدة، عندك (3) مليون غدة عرقية تفرز لك عرقًا باردًا لتلطف حرارة الجسم، عندك ربع مليون خلية تلتقط الأشياء الباردة، وترسلها للمخ فينتج عن ذلك توسيع الشراين؛ ليكثر الدم، والحرارة تزداد في الجسم، هذا جزء من الجسم، جزء من الجهاز العصبي، ويوجد الجهاز الهضمي، والبولي، والتنفسي، والدوري، وغيره ،عالم ليست له نهاية، وكل هذا داخل جسمك {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصِّلت:53].

هذا هو الإله الذي نعبده، هذا هو الإله الذي يجب أن نخلص له، فكيف نطلب رضا غيره بسخطه؟

كيف نخشى غيره؟

 

سبحان الله، هؤلاء المتكبرون المتجبرون الظالمون، ما هم إلا أجسام بسيطة جدًا لا ترى على وجه الأرض، الأرض فقط، فكيف إذا تخيلت الكون الفسيح كيف يخشى المؤمن رجل يعلم أنه خلق لفترة مؤقتة ثم هو حتمًا سيموت؟ وكيف لا يخشي المؤمن الله الحي الذي لا يموت؟

كيف يحب المؤمن أحد ينهاه أن يسير في طريق هذا الإله العظيم الجليل القدير سبحانه وتعالى؟

هذا هو إلهنا الذي من المفروض أن نخلص له، ونتجرد من كل شيء لأجله، سبحانه ما أسهل أن يفني الله الخلق أجمعين إلى فئة من الناس اغترت وأعتقدت أنها ملكت شيئًا، فإذا بهم يناطحون الله عز وجل في ملكه، ويحاربونه في شرعه، ويعذبون أولياءه ويتقربون إلى أعدائه، إليهم أهدي قول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ . وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم:19-20].

 

يا أهل الأرض أجمعين، والله لو أبطأت الكرة الأرضية من سرعتها قليلًا، لقُذِفَ الخلق كلهم أجمعون من فوق سطحها، ولقُذِفت معهم أبنيتهم، وأدواتهم، وأسلحتهم، وكل ما يملكون، لكنه سبحان وتعالى يؤخرهم إلى أجل مسمى، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل:61].

 

الصحابة رضوان الله عليهم عرفوا قدر الله عز وجل، عرفوا قدر الله بمعطيات أقل بكثير من المعطيات التي معنا، لم يكن عندهم كل هذه العلوم التي تعطي كل هذه التفاصيل، لكن أي تفكر في خلق الله عز وجل يقود إلى الإيمان به والإخلاص له، أي تفكر، حتى ولو كان بسيطًا، يقول الله في كتابه: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية:17].

فقط انظرعلى الإبل من غير أن تعرف تفاصيل الجهاز التنفسي، والدوري، والهضمي، والبولي، وكل هذه التفاصيل التي قلناها {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ . وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الغاشية:17-18] بدون الدخول في تفاصيل الأرض وحجمها، والسموات وحجمها، والشمس وحجمها، والمجرات، {وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ . وَإِلَى الجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ . وإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:18-20] سطحت هذه أمور معجزة نحن تعودنا على هذه الأمور، لكن هذا التعود لا يمنع هذا الإعجاز الرهيب في هذه الأشياء إن تدبرت فيها على ضحالة العلوم، فإنك لا شك ستعظم الله عز وجل الذي خلق هذه الأشياء، فما بالك لو تبحر الناس في علومهم.

 

التفكر عامل من عوامل تثبيت الإخلاص

التفكر شيء في غاية الأهمية؛ لتثبيت الإخلاص في نفس المؤمن؛ لذلك سئلت أم الدرداء رضي الله عنها وأرضاها، قالوا لها: ما كان أكثر شأن من أبي الدرداء؟ -أكثر عمل كان يعمله-، قالت: كان أكثر شأنه التفكر.

قيل لأبي الدرداء: أفترى التفكر عملًا من الأعمال؟ قال: نعم، هو اليقين في الله عز وجل.

إذا تفكرت في خلق الله عز وجل لا شك أنك ستخلص له، لذلك كان الحسن البصري رحمه الله يقول: "تفكر ساعة خير من قيام ليلة".

الأعرابي الذي عرف وجود ربنا سبحانه وتعالى بمعلومات بسيطة جدًا، قال: "البَعْرة تدل على البعير".

بمعني لو رأيت روث بعير فمن المؤكد أن بعيرًا مر من هنا.

"البعْرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير".

أثر الأقدام يدل على سير أحد في هذا المكان.

أفسماء ذات أفلاك، وأرض ذات فجاج، ألا تدلاني على العليم الخبير.

سبحانه وتعالى، الأعرابي بمعلومات بسيطة جدًا عرف ربنا سبحانه وتعالى، فما بالك بمن عرف كل هذه المعلومات التي ذكرنا طرفًا قليلًا منها في هذا الفصل.

 

من عرف الإخلاص صغرت الدنيا في عينيه

عندما فقه الصحابة قدر الله عز وجل عن طريق القراءة في كتابي الله عز وجل المقروء والمنظور استصغروا كل ما دون الله عز وجل، عملوا لله عز وجل، ولم يعملوا لغيره، خافوا منه، ولم يخافوا من غيره، اعتصموا به، ولم يعتصموا بغيره، والكلام يفسر لنا مواقف كثيرة جدًا في حياة الصحابة نتعجب لها كثيرًا، ولنرى موقف عبد الله بن حذافة رضي الله عنه وأرضاه أمام هرقل، عبد الله بن حذافة وقع أسيرًا في يد هرقل ملك الروم في سنة (19) من الهجرة، وهرقل سمع كثيرًا عن ثبات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمع عن عزوفهم عن الدنيا، وسمع عن استهانتهم بكل قوى الأرض سواء الفرس، أو الرومان، أو غيرهم، فهرقل يريد أن يختبر هذا الأمر بنفسه، يريد معرفة طبيعة هؤلاء الناس الذين هزموا كل جيوش الأرض بهذه الصورة الغريبة جدًا.

فهرقل أُحضر عنده عبد الله بن حذافة، وبدأ يسأله، قال: إني أعرض عليك أمرًا. فقال عبد الله: ما هو؟

فقال هرقل: أعرض عليك أن تتنصر.

ولكن ما هو ثمن أن أترك هذا الدين؟

قال هرقل: فإن فعلت خليت سبيلك، وأكرمت مسواك.

فقال عبد الله في ثبات وإخلاص لربنا سبحانه وتعالى قال عبد الله: هيهات إن الموت لأحب إلي ألف مرة مما تدعونني إليه.

فلم ييأس هرقل، وقال له: إني لأراك رجلًا شهمًا، فإن أجبتني إلى ما أعرضه عليك -يعني النصرانية- أشركتك في أمري، وقاسمتك سلطاني.

سأعطيك نصف الإمبراطورية الرومانية، تخيلوا حجم العرض، عرض رهيب جدًا، إننا نتكلم في دولة ملكت نصف الأرض، يعني عبد الله بن حذافة في لحظة سيكون عنده ربع الأرض، وكم من أناس تبيع دينها في أشياء تافه حقيرة لا تساوي واحد على ألف مليون مما عرض على عبد الله بن حذافة رضي الله عنه وأرضاه!

ويرد عليه عبد الله، وهو يبتسم ابتسامة سخرية سخرية كبيرة جدًا من هرقل ملك الروم: والله لو أعطتيتني جميع ما تملك، وجميع ما ملكته العرب على أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما فعلت ولو للحظة واحدة، ثم بعد ذلك أرجع للإسلام مرة أخرى.

لن أترك هذا الدين بكل ملك الأرض، فهرقل استخدم معه السلاح الأخير الذي عنده، قال: إذن أقتلك.

آخر سلاح في يد هرقل، فقال عبد الله في منتهى البساطة: أنت وما تريد.

افعل ما تريد، فأمر به هرقل، فصلب، ثم أمر القناصة الرومان، فقال: ارموه قريب من يديه ورجليه.

نوع من الإرهاب، لا نريد موته، هرقل يريد أن يكسر إرادته، ويكسر إخلاصه لله عز وجل، وهو لا يستطيع كل ذلك، وهو يعرض عليه النصرانية، الجنود يرمونه عن يمينه، وعن شماله، قريب من يديه، وقريب من قدميه، وفي كل مرة يعرضوا عليه النصرانية، وهو يرفض، ويقول لهم: أنتم وما تريدون، لن أرجع عن دين الإسلام.

فانتقل هرقل إلى خطوة إرهابية أعظم من ذلك، طلب قِدْرًا كبيرة، ثم فرغ فيها الزيت، ورفعت على النار، حتى أخذ الزيت يغلي، ثم أحضر اثنين من أسارى المسلمين أمام عبد الله بن حذافة، ورمى واحدًا منهما في الزيت المغلي، وعبد الله بن حذافة رضي الله عنه وأرضاه يقف، ويرى كل هذه الأحداث، يقول: فإذا بعظامه عارية -عظام هذا الأسير الذي ألقي في الزيت المغلي- فإذا بعظامة عارية، وقد تفتت لحمه.

ثم عرض هرقل على عبد الله بن حذافة النصرانية من جديد، فكان عبد الله رضي الله عنه أشد لها رفضًا، لما يأس هرقل من عبد الله بن حذافه أمر رجاله أن يلقوه في القدر المملوء بالزيت المغلي، فلما ذهبوا بعبد الله بن حذافة دمعت عيناه، ففرح رجال هرقل، وقالوا إنه قد بكى، بدأ يتأثر، فظن هرقل أنه قد جزع من الموت، فقال هرقل: ردوه إليَّ.

فلما جاءه عرض عليه النصرانية من جديد، فأبى عبد الله بن حذافة من جديد فقال هرقل: ويحك فما الذي أبكاك إذن.

فقال عبد الله: أبكاني أني قلت في نفسي الآن في هذه القدر، فتذهب نفسك، وقد كنت أشتهي أن يكون لي بعدد ما في جسدي من شعر أنفس، فتلقى كلها في هذا القدر، في سبيل الله.

يا خسارة سأموت مرة واحدة، كنت أتمنى أن أعيش مرة ثانية لأموت في سبيل الله عز وجل، هذا هو الإخلاص لله سبحانه وتعالى، هو لا يرى هرقل بالمرة، هو يرى عمله لربنا سبحانه وتعالى، أحبط هرقل تمامًا، فعرض على عبد الله حذافة عرضًا جديدًا، عرضًا يبين مدى الإحباط الذي وصل إليه هرقل ملك الروم قال: هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك؟

فقال عبد الله بن حذافة ويشترط في هذا الموقف، ويقول: وعن جميع أساري المسلمين أيضًا؟

سأقبل رأسك، وتطلق سراحي، وسراح كل أسارى المسلمين، فقال هرقل: وعن جميع أسارى المسلمين أيضًا.

فقال عبد الله: فقلت في نفسي عدو من أعداء الله، أقبل رأسه فيخلي عني، وعن أساري المسلمين جميعًا، لا ضير في ذلك عليّ، فقمت، فقبلت رأسه، فأطلق هرقل عبد الله بن حذافة، وأطلق معه جميع أسارى المسلمين.

عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه لما سمع بهذه القصة سُرَّ أعظم السرور، وقال: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ بذلك.

وقام بنفسه أمير المؤمنين رضي الله عنه وأرضاه يقبل رأس عبد الله بن حذافة.

 

في هذا الموقف إن عبد الله بن حذافة فقه قدر الله عز وجل، وجلال الله عز وجل، فلم ير هرقل إلى جوار الله عز وجل، لم يهتم بجيوش هرقل، ولا قناصة هرقل، ولا وزراء هرقل، ولا أمراء هرقل، ولا سهام هرقل، ولا الزيت المغلي عند هرقل، كل هذه الأشياء لم يرها.

 

بيت القصيد أن تعرف لله قدره، فإن عرفت ذلك لم تشرك بالله شيئًا، وهكذا يا إخواني فإن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عرفوا قدر الله عز وجل، فأخلصوا، ولم يطلبوا إلا منه، ولم يرجوا إلا إياه، ولم يعتمدوا إلا عليه، ولم يلجأوا إلا إليه، هكذا وَحَدّوا الله عز وجل التوحيد الكامل، وأخلصوا له الإخلاص الصادق، ولذلك وصلوا.

 

الإخلاص طريق هام جدًا من طرق الوصول إلى الله عز وجل، نسأل الله عز وجل أن يبصرنا بمعالم الطريق المستقيم، وأن يطهر نوايانا من أي شائبة، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يعظم قدره في قلوبنا، حتى لا نرى أحدا سواه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

راغب السرجاني

أستاذ جراحة المسالك البولية بكلية طب القصر العيني بمصر.

  • 13
  • 0
  • 20,994
المقال السابق
(3) صناعة الرجال
المقال التالي
(5) الصحابة والعلم

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً