حكم الغناء

منذ 2014-05-12

إن الله قد خلق الإنسان على أحسن تقويم، وجعل له السمع والبصر، وجعل له الفؤاد، وجعل كل ذلك مسؤولًا عنه يوم القيامة..


الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الله قد خلق الإنسان على أحسن تقويم، وجعل له السمع والبصر، وجعل له الفؤاد، وجعل كل ذلك مسؤولًا عنه يوم القيامة، ومن نظر إلى خلقه الذي أمره الله بأن يتفكر فيه؛ وجد عجبًا من عظيم خلق الله عز وجل، وحسن صنعه، وتمام إبداعه، ولذلك قال الله عز وجل: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَإِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الذاريات:21].

السمع والبصر هما أعظم الحواس التي خلق الله الإنسان عليها، ومن أعظم نعم الله عليه.
يقول الله في كتابه العظيم: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2].
من نظر إلى هذه الآية، وتأملها، وجد فيها من المعاني، العظيمة من تقديم السمع على البصر، وأنها من أعظم النعم التي يستوعب فيها الإنسان دين الله، ويدرك فيها تشريعه.

ذكر الله سبحانه وتعالى السمع والبصر في تسعة عشر موضعًا من كتابه الكريم، وقدّم السمع على البصر في سبعة عشر موضعًا، مما يدل على مكانة السمع، وجلالة قدره، وعِظَم نعمته على سائر النِعَم التي وُهِبها الإنسان، ومن لطائف تقديم السمع على البصر في كلام الله، ما ذكره أهل الطب أن سمع الإنسان يتكون تكوينًا تامًا قبل البصر، وهذا تظهر الحكمة فيه من تقديم السمع على البصر، وذلك أن الإنسان بسمعه يكون من أهل التكليف بالجملة، وينفذ إلى عقله وقلبه الأحكام الشرعية والتكاليف.


والأعمى أقل الناس ضررًا في دينه وأكثر ضررًا في دنياه، وأحسن الناس عاقبة يوم القيامة من أهل الأضرار في الحواس، ومن فقد السمع فإنه أقلهما ضررًا في دنياه، وأقلهما نفعاُ في دينه، وذلك أنه بالسمع يفقه التشريع، ويكون من أهل التكليف والامتثال، ولذلك كان السمع بالمقام المحمود في خِلقة الإنسان، والإنسان رزق الصوت الحسن، وأعطي سمعًا يتلذذ بالحسن وينعم به، يقول الله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1]، قال ابن جرير الطبري: في تفسيره عند قول الله سبحانه وتعالى: {يزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1]. إنه حُسْنُ الصوت، مما يتلذذ به الإنسان من جميل القول.
وقد امتدح الله سبحانه وتعالى المنطِق وحُسْنَ المقال، باعتبار وصوله إلى المسامع، فلا يمدح القول إلاّ لأنه مسموع، ولذلك امتدح الله الصوت الحسن، وذمّ المنكر منه، واستنكر الله صوت الحمير: {إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19]. مما يدل على أن ثمّة أصواتًا حسنة تتشنًفَّ بها الأسماع وتتلذّذ بها، وهو من نعيم أهل الجنة، كما قال تعالى: {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم:15].

 

جاء في التفسير: أنه السماع، كما روى ابن جرير عن الأوزاعي عن يحي ابن أبي كثير قال: السماع.
وكان من فطرة الإنسان أن يتلذذ بالصوت الحسن الجميل، وهذا من الطِباع التي لا ينكرها أحد، فإن الطفل يأنس بصوتٍ حسنِ يتلذّذ به. وكما أنه في بني آدم، فإنه في البهائم، فإن الرحل إنما تشد في مسيرها إذا كان صاحبها من أهل الحداء الحسن، وهذا معلوم. ولذلك يقول ابن عليّة: "كنت أمشي مع الإمام الشافعي رحمه الله فسمعنا صوتًا فمِلنا إليه، فقال لي: أيطربك هذا؟ قلت: لا، قال: مالكَ"! (حسن).

وفي معناه أشعار الحداء في السفر كقولهم في طريق مكة:

بشَّرها دليلُـهـا وقـالا *** غدًا ترين الطّلْحَ والحبالا

وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتحسين الصوت بالقرآن، فقال «ليس منّا من لم يتغنَّ بالقرآن».
وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: «ما أَذِنَ الله لشيء إذنه لنبي يتغنّى بالقرآن يجهر به».
وقوله صلى الله عليه وسلم: « زينوا القرآن بأصواتكم». ولذلك اتفق العلماء قاطبة: أن تحسين الصوت من المستحبات، بل قال بعضهم بوجوبه لظاهر قوله  صلى الله عليه وسلم: ليس منّا من لم يتغنَّ بالقرآن.
ذهب جماهير العلماء -ممن نص على تأويل هذا الخبر إلى أن المراد بالتغني هنا: تحسين الصوت.
قال الإمام الشافعي فيما رواه عنه الربيع-: "المراد بذلك تحسين الصوت بالقراءة".

قال ابن عيينة: أن المراد بذلك: الاستغناء بالقرآن عن غيره من المعاني.
وصوب ذلك أبو عبيد القاسم بن سلام في وجه. وكلها لها وجةٌ في لغة العرب، والأظهر والمشهور أن المراد بذلك تحسين الصوت، وظاهره يعضده قوله  صلى الله عليه وسلم: زينوا القرآن بأصواتكم.
وأما حمله على الاستغناء، فقد استنكره الإمام الشافعي -رحمه الله- فقال: أما قول النبي  صلى الله عليه وسلم: «ليس منّا من لم يتغنَّ بالقرآن».

لو كان على الاستغناء لكان يقول: ليس منا من لم يتغن.
وقيل: أنهما يحملان على الوجهين كما نص عليه أبو عبيد القاسم بن سلاّم.
وقد استدل بعضهم بقول الأعشى:

وكُنْتُ امْرًَا زَمَنًا بالعِراق *** عَفِيفَ المُناخِ طَويلَ التَّغَنْ

أي: الاستغناء عن الناس وعدم الحاجة إليهم.

وما زال العرب في الجاهلية والإسلام يستحبون الشعر وإنشاده وحتى أصحاب رسول الله  صلى الله عليه وسلم ويتلذذون بذلك، وقد روى البيهقي في سننه بإسناد حسن عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالًا يقولون الشعر، ويتلذذون به، فإذا أُرِيدَ أحدٌ منهم على دينه دارت حماليق عينيه".
وذلك أنهم إنما كان يغضبهم فاحش القول والبذيء منه، وما يخرج عن الطِباع من الطرب وغيره.
ومن نظر إلى لغة العرب واستعمالهم للغِناء وجد أنهم يريدون به الشعر، والكلام المسجوع، فيسمونه غِناءً.
يقول حميد بن ثور:

عجبت لها أنّى يكون غناؤها *** فصيحًا ولم تفغر بمنطقها فَمَا

وذلك أن الغناء هو ما خرج من الفم مجردًا، ولا يلحق به غيره، فإن خرج مع المنطق، وسُمِع غيره من آلات اللهو، لم يكن من الغِناء المجرد، ولذلك يسمى (الحداء) و(الشعر) و(الكلام المسجوع) وكلّه من الغناء، إذا حسن الصوت به، ويظهر هذا في قوله  صلى الله عليه وسلم: ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن، وفي قوله  صلى الله عليه وسلم: ما أذِنَ الله لشيء أذنه لنبي أن يتغنَّ بالقرآن أي: يحسن صوته به، وجلُّ القرآن مسجوع، ولذلك دخل في هذا الباب.

 

ومن نظر إلى النصوص من أفعال الصحابة وكذلك أشعار العرب وجد أنهم يطلقون الغناء ويريدون به الشعر والحداء، حتى اشكل ذلك على كثير من المتأخرين، وظنّوا أن ما يطلق من أقوالهم يراد به الغناء باصطلاح المتأخرين، وهذا غاية الجهل وسوء الفهم، فإن هذا لم يكن عندهم مطلقًا.

 

وقد طرأ سوء الفهم عند بعضهم في إطلاقات بعض السلف، وما جاء في النصوص من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة عند بعض الأئمة من الفقهاء، ولذلك؛ لما ذكر ابن رجب -رحمه الله-  في"ذيل طبقات الحنابلةعند ترجمته لعبد الرحمن بن نجم الشيرازي المشهور بـ(ابن الحنبلي) وهو من كبار الفقهاء في مذهب الإمام أحمد، حتى لما قدِم إلى ابن قدامة عليه في العام الذي توفي فيه، قال له ابن قدامة: لقد سررت بمقدمك، فإني خشيت أن أموت فيقع وهَنٌ بالمذهب ويقع الخلافٌ بالأصحاب.

 

لما استشكل وخلط بين الغِناء والحداء أي الغناء الذي وقع عند المتأخرين وبين الحداء الذي جاء عن بعض السلف والصحابة وغيرهم وكتب ابن الحنبلي في ذلك كتابًا عنّف عليه ابن قدامة بقوله: "وشرع بالاستدلال لمدح الغناء بذكر الحداء، وهذا صنيع من لا يفرق بين الحداء والغناء ولا قول الشعر على أي وجهٍ كان، ومن كان هذا صنيعه فليس أهلًا للفتيا". والذي قال هذا القول هو نفسه الذي قد ذكر في كتابه "المغنيأن الغناء محلُّ خلاف عند العلماء من الأصحاب، فأي غناءٍ أراد؟

الجواب: أراد الحداء، فإنه قبل وفاته بعامٍ قد شنّع على ابن الحنبلي وذكر اتفاق العلماء على تحريم الغناء.
قال الإمام ابن الجوزي: "كان الغناء في زمانهم إنشادَ قصائدَ الزهدِ إلا أنهم كانوا يُلحِّنونها.
ولذا قال بعض الفقهاء بحضرة الرشيد لابن جامع: الغناء يفطر الصائم، فقال: ما تقول في بيت عمر بن أبي ربيعة إذ أنشد:

أمِن آل نُعْمٍ أنتَ غادٍ فمُبْكِرُ *** غداة غـد أم رائح فـمـهـجـر!

أيفطر الصائم؟
قال: لا. قال: إنما هو أن أمد به صوتي، وأحرك به رأسي.
وانظر إلى قول عطاء بن أبي رباح، قال: لا بأس بالغناء والحداء للمحرم.
ومن نظر إلى النصوص من الكتاب والسنة، وكذلك ما جاء عن الصحابة وجَدَ أنه ينبغي أن يفهم الوحي بلغة العرب الفصيحة، مما لم يدخلها عجمةٌ أو لحن.

ولذلك استنكر ابن قدامة على من خلط بين هذا وهذا، وجعله ليس أهلًا للفتيا.
ولم يظهر الغناء باستعمال آلات الطرب واللهو إلا في أواخر القرن الثالث.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "لم يكن في القرون الثلاثة المفضلة؛ لا في الحجاز ولا في الشام ولا في اليمن ولا في مصر ولا في العراق ولا في المغرب ولا في خرسان عند أهل الصلاح، وأهل الزهادة، وأهل العبادة الاجتماع على مثل المكاء والتصدية، إنما نشأ ذلك في أواخر المائة الثانية".


ولذلك يُعلم أن ما يطلق من أقوال بعض الصحابة وأشعار العرب من ذكر الغناء، فالمراد به الأشعار، وما يسمى في وقتنا بالأناشيد. وقد نص على هذا التعريف غير واحد من الأئمة؛ من أئمة اللغة وغيرهم؛ كأبي عبيد القاسم بن سلاّم، بل نص عليه الإمام الشافعي، ويأتي الكلام عليه بإذن الله. والمراد من ذلك أنه ينبغي أن يفرّق بين اصطلاح أهل العصر واصطلاح الأوائل، وإن كان اللفظ واحدًا، ويشمل عند التنظير في اللغة كِلا الأمرين، لكنّه لا بد من النظر لظاهر الحال، وما يُطلقُ عليه ذلك الاستعمال وما اقترن به.

 

ولذلك لما ظهر الغناء في مصر، من نحو أربعين سنة، وأحتج بعضهم ببعض الألفاظ التي جاءت عن بعض السلف، من ذكر الغناء، والمراد به الألحان والحداء وأمثاله المجردة، واستدلوا بتلك النقول، قال الغماري -وهو من علماء المغرب-: "حتى إبليس داخل في إجماع العقلاء على حرمة ذلك". أي: أن ما فعله أُولئك بعيد عما نُقِل عن الصحابة والتابعين من ذلك اللفظ، ولذلك وقع اللبس عند كثير ممن غلب عليه هواه، وعند قِلّة ممن ينتسب إلى العلم.

 

وقد جعل ابن قدامة رحمه الله من خلط بين هذه المفاهيم ليس أهلًا للفتيا.
ومن نظر إلى الأدلة من الكتاب والسنة وجد أن الله سبحانه وتعالى قد نص في غير ما آية على حرمة الغناء واللهو، وقد جاءت في ذلك آيات كثيرة، وذلك صيانةً للقلب، وحمايةً له من مداخل الشيطان، وقد حرّمة الله على عباده بمكة وهذا يدل على عِظَم خطر الغناء، وأثره على العباد، وقد أنزل الله تحريمه في سورة النجم وفي سورة لقمان وهما سورتان مكيتان، يقول الله في كتابة العظيم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان:6]. وهذا في سورة لقمان وهي سورة مكية.


من نظر إلى تأويل السلف من الصحابة وغيرهم؛ وجد أن ثمّة اتفاقًا على أن الغناء داخل في جملة المعاني التي تأتي على هذا الآية، واتفقت تفاسير الصحابة على هذا.

يقول الحاكم في مستدركه: في أوائل كتابه التفسير: "وتفسير الصحابي الذي شهد الوحي هو عند الشيخين يعني البخاري ومسلم كالحديث المسند". وقال في موضع آخر: (إنه في حكم المرفوع).
وقد روى ابن جرير الطبري والبيهقي في "سننهوغيرهم من حديث سعيد بن جبير عن أبي الصهباء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال في تأويل هذه الآية: "واللهِ الذي لا إله إلا هو إن لهو الحديث لهو الغناءثم ذكرها ثلاثًا. وابن مسعود وهو من أعلم الصحابة بالتفسير، إن لم يكن أعلمهم على الإطلاق.


وروى البخاري ومسلم من حديث ‏الأعمش ‏عن ‏مسلم ‏عن‏ ‏مسروق ‏‏عن ‏ ‏عبد الله‏ ‏قال: ‏والذي لا إله غيره‏ ‏ما من كتاب الله سورة إلا أنا أعلم حيث نزلت، وما من آية إلا أنا أعلم فيما أنزلت، ولو أعلم أحدًا هو أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه‏، بل قال مجاهد بن جبر، إمام المفسرين من التابعين، ومن قد عرض القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة، كما روى الترمذي بسند صحيح عن ‏سفيان بن عيينة ‏عن ‏الأعمش‏ ‏قال: قال‏ ‏مجاهد: ‏ ‏لو كنت قرأت قراءة ‏ابن مسعود ‏لم أحتج إلى أن أسأل ‏ ‏ابن عباس ‏ ‏عن كثير من القرآن مما سألت.
كيف وقد أقسم -مع ذلك- ابن مسعود على هذا التفسير، وهو يتلو: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} [الزمر:60].


وجاء ذلك عن عبد الله بن عباس، كما رواه البخاري في "الأدب المفرد وابن جرير الطبري، وكذلك ابن أبي شيبة وغيرهم، من حديث عطاء عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس قال: نزلت في الغناء وأشباهه.
وروي تأويل ذلك عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه حيث رواه ابن جرير الطبري من حديث قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن جابر بن عبد الله أنه قال: هو الغناء.

وكذلك رواه ابن جرير الطبري من حديث ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر أنه قال: هو الغناء.
وروي تفسير ذلك بـ (أنه الغناء) عن جماعة من السلف من المفسرين وغيرهم.
فقد روي تفسير ذلك عن مكحول وعكرمة وعطاء الخراساني وقتادة وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وعمر بن شعيب وعلي بن بذيمة وعن غيرهم، كلّهم قالوا (أنه الغناء).


وقال الله سبحانه وتعالى في سورة النجم: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ وأنتم سامدون} [النجم:59،60]. السمود هو: اللهو بالغناء، كما جاء تفسيره عن عبد الله بن عباس كما رواه ابن جرير الطبري من حديث عكرمة عن عبد الله بن عباس قال: السمود هو: الغناء.

وجاء تفسيره أيضًا عن عكرمة مولى عبد الله بن عباس كما رواه ابن جرير الطبري من حديث سفيان بن عيينة عن بن أبي نجيح عن عكرمة أنه قال: "السمود هو: الغناء في لغة حِمْيَرأي: لغة أهل اليمن.
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم مخاطبًا إبليس اللعين: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء:64].
قد جاء عن غير واحد من المفسرين من السلف أن المراد بصوت إبليس هو الغناء.
فقد روى ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم وابن المنذر كلّهم في "التفسيرمن حديث ليث بن أبي سليم عن مجاهد بن جبر أنه قال: إن صوت إبليس هو الغناء.

وقد يشكل على البعض الاستدلال بهذا الأثر وفي إسناده (ليث بن أبي سليم)؟
فيقال أن (ليث بن أبي سليم) وإن كان ضعيفًا بالاتفاق إلا أن روايته عن مجاهد بن جبر في التفسير خاصة صحيحه، وذلك أن ليث بن أبي سليم ضعيفٌ من قِبَل حفظه، ولكنّه يحدّث عن مجاهد بن جبر من كتاب، كما نص على ذلك ابن حبان في "الثقاتوفي مشاهير علماء الأمصار قال: ما سمع التفسير عن مجاهد أحد غير القاسم بن أبي بزة، نظر الحكم بن عتيبة وليث بن أبي سليم وابن أبي نجيح وابن جريج وابن عيينة في كتاب القاسم ونسخوه، ثم دلسوه عن مجاهد.

إذًا فقد ائتمن من جهة روايته من حفظه، فإنه يروي من كتاب.
ومن ضعّف هذا الأثر فقد وَهِمَ وغَلِط، وليس له معرفة بمناهج الأئمة النّقاد.
وقال الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72].


قال بعض المفسرين أن المراد بالزور هنا: هو الغناء.
فقد روي ذلك عن مجاهد بن جبر إمام أهل التفسير من التابعين كما رواه ابن جرير الطبري من حديث محمد بن مروان عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد بن جبر أنه قال: الزور هو الغناء.
وفي محمد بن مروان كلام معروف، ففي حديثه نظر. وفي هذا التأويل نظر أيضًا.
ومن نظر إلى توافق المفسرين من الصحابة والتابعين على ذمّ الغناء الفاحش واللغو؛ وجَدَ أن ذلك من صرائح السنة وظواهر الأدلة.

ومن نظر إلى بعض المحرمات التي قد أطبق العلماء على تحريمها، ووجد قِلّةً في النصوص الواردة في السنة وجد أن قلّة النصوص إنما كانت لأجل أن ذلك كان من المسلّمات، وحينما دخلت العجمة وأبعد الناس عن مصطلحات السلف استشكل كثير من الناس ما ورد عن السلف من هذا التفسير، وما جاء عن بعضهم من ذكر الغناء، والمراد بذلك الشعر والحداء، وجعلوا ذلك من المتضادات، وهذا لا شك أنه من البُعْدِ عن لغة العرب وعدم الفهم.

 

وقد جاء في النهي عن الغناء والمعازف أحاديث كثيرة عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم، نذكر ما صحّ منها.
منها ما رواه الإمام البخاري في الصحيح فقال: قال هشام بن عمّار: حدثنا صدقة بن خالد، قال: حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: حدثنا عطية بن قيس، عن عبد الرحمن بن غَنْمٍ، قال: حدثني أبو مالك أو أبو عامر، ووالله ما كذبني أنه سمع رسول الله  صلى الله عليه وسلم يقول: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ. والمراد بالمعازف: آلات اللهو والطرب».
يقول ابن قدامة وغيره: آلة اللهو كالطنبور والمزمار والشبابة آلة للمعصية بالإجماع.

 

وقد أعلّ ابن حزم الأندلسي، وكذلك ابن طاهر ابن القيسراني هذا الحديث وحكما عليه بالضعف، وذلك أنه في حكم المعلّق في (صحيح الإمام البخاري). فيقال: أن هذا فيه نظر، ولا يجري على قاعدة ابن حزم بنفسه، وذلك أن ابن حزم قد صرّح في غير ماموضع من كتبه منها في كتاب الإحكام أن الراوي إذا حّدث عن راوٍ عدلٍ مثله وكان قد سمعه بأي صيغة كانت سواء بالتحديث، أو بإنباء، أو قوله عن فلان أو قوله قال فلان، أن ذلك محمول على السماع، وهذا منها.

 

إضافةً إلى ذلك أن هشام بن عمّار من شيوخ الإمام البخاري المعروفين، وقوله: قال لا يُردُّ إلا إن كان البخاري من أهل التدليس، وليس كذلك. وعلى القول بأنه معلّق وأن البخاري لم يسمعه منه، فقد جاء موصولًا عن هشام بن عمّار من طُرقٍ عدّه، رواها نحو عشرة من الرواة عن هشام بن عمّار موصولةً. فقد رواه أبو ذرّ راوِيَةُ صحيح البخاري فقال: حدثنا العباس بن فضل، قال: حدثنا الحسين بن إدريس، قال: حدثنا هشام بن عمّار، وساقه بتمامه.

 

وكذلك رواه الحسن بن سفيان ومن طريقه: أبو بكر الإسماعيلي في مستخرجه عن هشام بن عمار به.
وكذلك قد رواه الطبراني في معجمه من حديث جعفر بن محمد الفريابي، وموسى بن سهل الجوني عن هشام بن عمّار عن صدقه بن خالد به. وكذلك قد رواه أبو نعيم في مستخرجه من حديث أبي بكر الباغندي وعبدان بن محمد المروزي عن هشام بن عمّار به.

 

وكذلك قد رواه ابن حبان في الصحيح من حديث الحسين بن عبد الله القطان عن هشام بن عمّار به.
وكذلك قد رواه الطبراني في مسند الشاميين من حديث محمد بن يزيد بن عبد الصمد عن هشام بن عمار به.
وكلّها أسانيد صحيحة عن هشام بن عمار، وهذا الحديث صحيح بلا ريب. وأما من أعلّه بـ صدقة بن خالد فيجاب عنه بأنه قد تابعه بشر بن بكر عند أبي داود في سننه عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن عطية بن قيس عن عبد الرحمن بن غَنْمٍ عن أبي مالك أو أبي عامر.

 

وقد رواه البيهقي والإسماعيلي في الصحيح من حديث بشر بن بكر بتمامه، كما رواه الإمام البخاري.
وإن كان أبو داود قد رواه في سننه مختصرًا، إلا أنه بتمامه، وتمام سياقه قد جاء عند البيهقي، وعند أبي بكر الإسماعيلي بذكر المعازف.

 

وقد أعلّه ابن حزم أيضًا بالاضطراب في إسناده، وذلك أن الراوي قال: حدثني أبو مالك أو أبو عامر الأشعري.
قال: ولم يضبط اسمه، مما يدل على أنه مجهول، فهو مردود.
ومنهج ابن حزم الأندلسي أنه لا يقبل المجاهيل ممن لم يسمَّ من الصحابة، وهذا قول مردود، ولا حجّة به، ولا أعلم أحدًا من المعتبرين من الأئمة النّقاد من ردَّ مجاهيل الصحابة، بل هم مقبولون قاطبة.
ومازال العلماء قاطبة يحتجّون بمجاهيل الصحابة، كيف وقد سُمّو وعُرِفُوا؛ فأبو مالك الأشعري: صحابي مشهور.

 

والصواب أن الإسناد إليه، وأن الوهم من عطية بن قيس، ولذلك أخرج الحديث الإمام أحمد في مسنده وابن أبي شيبة في مصنفه، والبخاري في التاريخ الكبير من حديث مالك بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن غَنْمٍ عن أبي مالك الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ليشربنّ أُناس من أُمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، تغدو عليهم القيان وتروح عليهم المعازف، وجزم بذلك الإمام البخاري رحمه الله  كما في التاريخ وقال: إنما يُعْرف عن أبي مالك الأشعري أي: من غير شك وهو الصواب.


وعلى كلٍّ فردُّ ابن حزم الأندلسي لهذا الحديث بجهالة الصحابي وعدم الجزم به ليس في محله.
وابن حزم الأندلسي رغم جلالته وفضله وعلمه وحفظه وسعةِ إدراكه؛ إلا أنّه كثير الوهم والغلط في الرواة، ولذلك رد بعض الأحاديث الصحيحة، وحكم بالوضع على بعض الأحاديث في الصحيحين، وله رسالة ذكر فيها حديثين، وجعلهما موضوعَين، وحكم عليهما بالكذب على رسول الله  صلى الله عليه وسلم وهما في الصحيحين.
وقد نص الأئمة على وهم ابن حزم وغلطه في هذا الباب، كما نص عليه ابن عبد الهادي في كتابة طبقات علماء الحديث، وكذلك قد نص عليه الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابة التهذيب وكذلك في اللسان وكذلك في الفتح.
ولما ترجم الحافظ ابن حجر للإمام الترمذي في كتابه تهذيب التهذيب قال: "قال ابن حزم: محمد بن عيسى بن سَورَة الترمذي مجهول". قال ابن حجر: "وأما ابن حزم فقد نادى على نفسه بعدم الاطلاع".


وقد يقول قائل أنه لم يعرفه ولم يطّلع على شيء من كتبه، ولا على سعة حفظه، فإن ابن حزم قد حكم بالجهالة على أُناسٍ من الأئمة معروفين، كأبي القاسم البغوي، وإسماعيل بن محمد الصفار، وأبي العباس الأصم وغيرهم.
ومن قاعدة ابن حزم الأندلسي -رحمه الله -: أن من لم يعرفه بداهة يحكم عليه بالجهالة، وقد حكم على رواةٍ كُثُرٍ، وقد تتبّعها بعض الأئمة في مصنّف، وهو الحافظ قطب الدين الحلبي ثم المصري من المحلى، ولا أعلم أهو مطبوع أم لا؟

 

ومن نظر في كتاب المحلّى ونظر إلى من حكم عليه بالجهالة من الرواة المعروفين عرف ذلك، بل حتى من الصحابة، فقد حكم على يعلى بن مرّه أنه مجهول، وهو صحابي معروف.
ولذلك قال الزيلعي رحمه الله حينما علّق على أوهام بن حزم في ردّه للأحاديث الصحيحة الصريحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكمه على أحاديث بأنها معلولة وهي ظاهرة الصحة قال الزيلعي: "ولابن حزم من ذلك مواضع كثيرة جدًا من الوهم والغلط في أسماء الرواة".

 

يقول ابن القيم في كتابه الفروسية:" تصحيحه للأحاديث المعلولة، وإنكاره لتعليلها نظير إنكاره للمعاني والمناسبات، والأقيسة التي يستوي فيها الأصل والفرع من كل وجه، والرجل يصحح ما أجمع أهل الحديث على ضعفه، وهذا بين في كتبه لمن تأمله".


وقول ابن القيم هذا ظاهر جلي لكل منصف، عرف كتب ابن حزم، وما أعلّ به ابن حزم الأندلسي هذا الحديث فإنه ليس بمعتبر مطلقًا، مع ظهور الأدلة، ووضوح الإسناد، ونقاوته، فهو كالشمس صحةً عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم.
قوله- صلى الله علبه وسلم: «يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ» قوله: يَسْتَحِلُّونَ: قد حمل الاستحلال بعض العلماء على معانٍ عدّه:


* منهم من حمله على إباحة المحرم صراحةً، أي أنه يكابر في ذلك ويعلم أنه محرم، وينص على أنه حلال مكابرةً للنص.
ومن أحلّ المعازف والغناء المحرم فقد نص بعض الأئمة على تكفيره.
نص بعض أصحاب أبي حنيفة على تكفيره فقالوا: إن سماع الغنى فسوق، والتلذّذ به كفر.
وكذلك القاضي عياض، وكذلك إمام الحنابلة ابن قدامة حكاه عنه ابن الحنبلي، حكم بكفر من أباح الغناء، ومن حكم بكفر مستحل الغناء كذلك البزازي وزين الدين الكرماني من الحنفية.
وقد تعقّب ابن الحنبلي -رحمه الله - كما في ذيل طبقات الحنابلة ابن قدامه، وذكر أنه غلوّا.


* وحمل بعضهم الاستحلال في حديث أبي مالك الأشعري- رضي الله عنه- على المبالغة فيه بالسماع حتى يُظن أنه ممن يرى إباحته.


* وحمله بعضهم وممن نص على هذا شيخ الإسلام ابن تيمية على أن المراد بالاستحلال: الأخذ بالتأويل وبالشبهات لإباحة الغناء، كمن يقول إن الغناء إنما هو أصوات وألحان، كأصوات الطير وأصوات الريح وأصوات الإنسان، حينما يمشي في الأرض، وكطرق الأبواب والضرب على الحديد، فإنما هي تُجمع ويؤلف بينها لا غير، فهي أصوات من الطبيعة.
أو من يحمل بعض النصوص في الشرع في تحليل المحرم، والترخيص فيه في موضع، على أنها إباحة له وتهوين لأمره، كمن ينظر إلى تحريم الشارع للبس الحرير؛ فيقال: أن الشارع قد رخّص فيه -على قول كثير من الفقهاء- في الجهاد في سبيل الله كما جاء عن ابن سيرين وعطاء، وجاء بالنص الترخيص بالأصبع والأصبعين من الحرير.
وهذه التأويل الثلاثة كلّها موجودة عند الأصناف الثلاثة التي قد ذكرها ابن المبارك في قوله:

وهل أفسد الدين إلا الملوك *** وأحبار سوء ورهبانها

ثم إن قول النبي صلى الله علبه وسلم: «يأتي أقوام يستحلّون الحر والحرير والخمر والمعازف».
من علامات نبوته صلى الله علبه وسلم، وليس بجديد وكل ما حدث فهو من علامات نبوته صلى الله علبه وسلم كالذين صنّفوا في إباحة المعازف وغيرها من المحرمات.

 

وينبغي للإنسان أن يستبشر بهذا القول من جهة، أعني استحلال المعازف وغيرها؛ لأنه تصديق لخبر أخبر به النبي  صلى الله علبه وسلم، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال لعمّار: تقتلك الفئة الباغية.
فَرِحَ من فرِح من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا لذات القتل؛ لأن قتله جريمة، ولكن لصدق إخبار النبي صلى الله علبه وسلم، وبيان الحق وظهوره، وهذا من دلائل صدقه وعلامات نبوته عليه الصلاة والسلام.
ومما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من النص على تحريم الغناء:

ما رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه من حديث عبد الكريم الجزري، عن قيس بن حبتر عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ وَالْكُوبَةَ». والكوبة: قيل: هي الطبل، وقيل: نوع من أنواع المعازف، وقيل: إنها اسم يطلق على سائر أنواع المعازف. وإسناده صحيح. وفي إسناده عبد الكريم الجزري، وقد تابعه علي بن بذيمه عند الإمام أحمد في مسنده؛ عن قيس عن عبد الله بن عباس.

وجاء في ذلك: ما رواه أبو عبيد القاسم بن سلاّم والبيهقي أيضًا من حديث حبيب بن الشهيد وهشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة: أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم نهى عن كسب الزمارة وإسناده صحيح.
ومن نظر إلى هذه النصوص وجدها صريحة في تحريم المعازف.
وليُعْلم: أن ثمّة أمرين:
الأول: هو الغناء.
الثاني: المعازف، وهي آلات اللهو والطرب.


ويخلط كثير من الناس بينها، فالغناء باب واسع يدخل فيه الأناشيد والألحان والحداء والكلام المسجوع.
وأما آلات الطرب فلم يرد من وجه يثبت القول بجوازها عن الصحابة، ولا عن أحدٍ من التابعين، ولا من أتباع التابعين، ولا من الأئمة المتبوعين. ولذلك يحمل بعض الجهلة ما جاء من بعض النصوص في إباحة الحداء، وما جاء في بعض النصوص من الغناء المرادِ به الأشعار يحملها على آلات المعازف واللهو، وهذا جهل شنيع، ومخالفة صريحة، ومكابرة عظيمة لنصوص الشرع. وهو وضوحًا عند الأئمة بالمكان البين، حتى قال ابن قدامة: ما ظننت أن الجهال يخفى عليهم هذا. وقد وقع في ذلك كثير من المتأخرين ممن حرمه الله البصيرة والنظر النافذ في كلام الله سبحانه وتعالى، وكلام رسول الله  صلى الله عليه وسلم ولغة العرب. لقد اتفق الأئمة من الصحابة على تحريم ذلك، ولهذا لم ينقل عن أحد منهم القول بجوازه، بل قد نصوا على التحريم.

 

فقد روى البيهقي وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي وال آجري وغيرهم؛من حديث حماد بن زيد، عن إبراهيم النخعي، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "الغناء ينبت النفاق في القلب كما بنبت الماء البقل".
وكذلك جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ما رواه ابن أبي الدنيا من حديث يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، عن نافع، عن عبد الله بن عمررضي الله عنه: أنه مرَّ عليه قوم محرمون وفيهم رجلُُ يتغنىَّ، فقال: "ألا لا سمع الله لكم، ألا لا سمع لله لكم".

 

وما رواه البخاري في الأدب المفرد والبيهقي في السنن من طريق عبد العزيز الماجشون، عن عبدالله بن دينار قال: مر ابن عمر بجارية صغيرة تغني، فقال: "لو ترك الشيطان أحدًا ترك هذه."


وكذلك جاء عن عائشة رضي الله عنها ما رواه البيهقي في سننه من حديث بكير بن الأشجّ عن أم علقمة مولاة عائشة أنها قالت: "إن بنات أخي عائشة خُفِضن فتألمنَ، فقيل لعائشة: لو جئنا بأحدٍ يلهيهن، فقالت: لا بأس، ائتوا بالمغني فلان، فجيء به. قالت: فأخذ يتغنى، فدخلت عليه عائشة وهو يتغنى، ويحرك رأسه، وله شعرٌ طويل.
فقالت عائشة عليها رضوان الله تعالى: أُفٍ! شيطان! أخرجوه أخرجوه".


وعائشة عليها رضوان الله هي التي دخل عليها رسول الله  صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح، وعندها جاريتان تغنيان بغناء بُعاث. هنا قالت: الشيطان، وهنا عندها جاريتان تغنيان بغناء بعاث؟ فذلك غِنَاءٌ وهذا غِنَاء آخر، فذاك شيءٌ وذاك شيءٌ آخر، ولا علاقة بآلات اللهو والطرب فيه مطلقًا. وقد جاء عن عبد الله بن عمررضي الله عنه كما رواه أبو داود في سننه من حديث نافعٍ، عن عبد الله بن عمر: "أنه سمع مزمارًا فوضع أصبعيه في أذنيه، فقال لابنه نافع: أتسمع صوتًا؟ فقال: لا، فقال: إني كنت مع رسول الله  صلى الله عليه وسلم ففعل ما فعلت.
وإسناده قد تكلم فيه، وصححه ابن رجب رحمه الله في رسالته السماع".

وكذلك قد جاء عن غيرهم من الصحابة، جاء عن عبد الله بن عباس وغيره في ذلك.
ولا يزال العلماء على مرِّ العصور ينقلون إجماع السلف والخلف على تحريم الغناء وآلات اللهو والطرب، فمن نظر إلى العلماء في كل قرن وجد أنهم يتتابعون على نقل الإجماع مقرين له.
ولا أعلم قرنًا من القرون خلا من عالمٍ ينقل إجماع العلماء على تحريم الغناء والمعازف.


ولذلك قد نقله زكريا بن يحي الساجي في كتابه "اختلاف العلماءفي القرن الثالث إذ جل حياته فيه. ونقله الآجري رحمه الله في القرن الرابع. ونقله أبو الطيب الطبري وابن عبد البر في القرن الخامس. ونقله ابن قدامة وأبو القاسم الدولعي الشامي الشافعي في القرن السادس.

ونقله ابن الصلاح والقرطبي والعز بن عبد السلام في القرن السابع. ونقله شيخ الإسلام ابن تيمية والسبكي وابن رجب وابن القيم وابن مفلح وغيرهم في القرن الثامن. ونقله العراقي والبزازي الحنفي في القرن التاسع. ونقله ابن حجر الهيتمي في القرن العاشر. ونقله الآلوسي وأحمد الطحطاوي في القرن الثالث عشر. ونقله الغماري في القرن الرابع عشر. ولا يزال العلماء على شتى مذاهبهم؛ من المالكية والحنفية والشافعية والحنابلة مطبقين على تحريم الغناء والمعازف.

ولذلك فمن نظر إلى من حكى الإجماع وجد اختلاف بلدانهم، وتباين مذاهبهم.
فمن المالكية: ابن عبد البر في التمهيد، والقرطبي في تفسيره ، وابن القطان الفاسي في كتابه الإقناع في مسائل الإجماع.

ومن الشافعية: جماعة وخلق كثير كابن الصلاح، والعز بن عبد السلام، وابن حجر الهيتمي، والعراقي، والطرطوسي وغيرهم.

ومن الحنابلة: ابن قدامة، وابن رجب، وابن تيمية، وابن القيم، وابن مفلح، وغيرهم.
ومن الحنفية: الفقيه الحنفي محمد البزازي في المناقب، وزين الدين الكرماني، وشيخ الحنفية أحمد الطحطاوي في مصر في حاشيته على مراقي الفلاح، وكذلك أئمة المذاهب بأنفسهم: قد نصوا على التحريم، وحكى الإجماع من أهل المذاهب على اختلاف بلدانهم.

* فابن عبد البر والقرطبي في الأندلس.
* وابن القطان الفاسي والغماري في المغرب.
* وابن قدامة وابن الحنبلي وابن تيمية والعز بن عبد السلام وابن رجب وابن القيم في الشام.
* وابن حجر الهيثمي والطحطاوي الحنفي في مصر.
* والعراقي والآلوسي في العراق.
* وفي بلاد الترك والبلغار: الفقيه الحنفي محمد البزازي الكردي، في الفتاوى البزازية. وغيرهم خلق كثير على اختلاف بلدانهم، ومن حكى خلافًا في هذه المسألة فقد غلب عليه هواه.

يقول ابن حجر الهيتمي: في كتابه كف الرعاع: "ومن حكى خلافًا في الغناء فإنه قد وهِمَ وغَلِط، وغلب عليه هواه حتى أصمّه وأعماه".


ومن نظر إلى الأئمة الأربعة وجد نصوصهم متضافرة على تحريم الغناء بالنص.
فالإمام مالك: قد روى الإمام أحمد في كتاب العلل والخلال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من حديث إسحاق بن عيسى الطبّاع، قال: "سألت مالكًا عن سماع الغناء؟ فقال: إنما يفعل ذلك عندنا الفسّاق".
وأما الإمام أحمد: فقد نقل عنه ابنه عبد الله في كتابه المسائل قال: "سألت أبي عن الغناء؟ فقال: ينبت النفاق في القلب، لا يعجبني، ثم نقل قول الإمام مالك رحمه الله: "إنما يفعل ذلك عندنا الفسّاق".

قال أبو حنيفة رحمه الله: "وأما الغناء فهو محرّم عند سائر الأديان". ورد شهادة المغنّي الأئمةُ من أتباع مذهبهِ.
وأما الإمام الشافعي رحمه الله فقال: الغناء لهوٌ مكروه، ويشبه الباطل والمحال، وقد نص في كتابه أدب القضاء وكذلك في كتابه الأم على أن المغنّي ترد شهادته، وأعْجَبُ مِنْ قول من يقول: إن رد الشافعي لشهادة المغني مع قوله لهو مكروه يشبه الباطلليس بصريح في التحريم. وإن قول الإمام مالك: إنما يفعل ذلك عندنا الفسّاق ليس بصريح في التحريم.


وإن قول الإمام أحمد: ينبت النفاق في القلب ليس بصريح بالتحريم!! فأي تحريم يثبت في الشرع عنهم حينئذٍ إن لم يكن هذا القول صريحًا بالتحريم؟ وإن كنا نعلم بل نتيقن أن أقوال الأئمة من الأئمة الأربعة وغيرهم ليست نصوصًا من الوحي، وأن كلامهم ليس بحجه، وأنه بحاجة إلى أن يحتج له لا أن يحتج به، ولكن تساق أقوال الأئمة -رحمهم الله-  ليُعْلم الإجماع والإطباق، فإن الإجماع معتبر، ولا يكون إلا على نص.
ونقل تكفير من أباح الغناء عن أئمة من ثلاثة مذاهب متبوعة.

 

قال بعض أصحاب أبي حنيفة: سماع الغناء فسق، والتلذذ به كفر، والتصريح بكفر مستحل الغناء قال به من الحنفية: حافظ الدين الفقيه محمد البزازي في الفتاوى البزازية، وزين الدين الكرماني.
قال البزازي في فتاويه: ولما عُلِمَ أنّ حرمَتَهُ بالإجماع لزم أن يكفّر مُسْتَحِلَّه.
وقال به القاضي عياض المالكي، بل حكى الإجماع على كفر مستحله.

 

وحكاه ابن الحنبلي، كما نقله ابن رجبرحمه الله في كتابه ذيل طبقات الحنابلة عن ابن قدامه.
وإن كان هذا القول ليس على الصواب، بل أن فيه تشددًا، وذلك أن الكفر بعيد، وإنما هو هوى وجرمٌ وذنبٌ، وقد عدّه غير واحد من الأئمة من كبائر الذنوب كابن النحّاس في كتابه تنبيه الغافلين، وابن حجر الهيتمي في كتابه الزواجر عدّوا سماع الغناء من الكبائر.

 

ولا أعلم مسألة عدّها العلماء من الكبائر، ونٌقِل الإجماع فيها، فتكون مباحة على قول معتبر.
ومن نظر إلى كلام بعض المتأخرين ممن يتكلم على مسائل الغناء، وكذلك المعازف من الموسيقى وغيرها، ويستدل على إباحتها بما جاء عن بعض الأئمة من السلف أنهم كانوا يستمعون للغناء ونحو ذلك مما ورد عن أهل المدينة، فإنه قد اشتهر عنهم السماع، فالمراد بالسماع هو: الحداء والألحان والأناشيد، وليس المراد بذلك المعازف إطلاقًا.
ولذلك ينقل العلماء أن السماع هو مذهب أهل الحجاز، فأي سماع أرادوا؟


الجواب: أرادوا السماع الذي قد أطبق عليه الناس الآن في وقتنا عامّة، من المبالغة بسماع الحداء والأناشيد وغيرها. وقد سُئِل الإمام مالكرحمه الله عن الغناء فقال: "إنما يفعل ذلك عندنا الفسّاق".


وسُئِل الإمام الشافعي رحمه الله: حيث سأله يونس، فقال: "سألت الشافعي عن السماع الذي أراده أهل المدينة"، فقال الشافعي -وهذا نقل نفيس عنه-: "لا أعلم أحدًا من أهل المدينة كره السماع إلا ما كان على الأوصاف، وأما ما كان من إنشاد الشعر والحداء وذكر المرابع، فإنه مباح"، إذًا المراد بذلك كلّه لا يخرج عن الكلام الملحّن.


ويوهم كثير من النقلة أن المراد بالسماع عند أهل المدينة هو المعازف وآلات الطرب، وهذا جهل شنيع، فما قال بذلك أحدٌ معتبر، بل قال ابن حجر الهيتمي في كتابه كف الرعاع: لم يحفظ عن أحد ولم يرو عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من الأئمة المجتهدين من قال بإباحة المعازف، وقد لبس أو لُبِّس على كثير ممن صنّف في إباحة اللهو والغناء حيث أدخلوا عن هوى أو شبهة مسألة المعازف والموسيقى فيها، ولا علاقة لها فيه.


وقد نظرت في المصنفات التي صنّفت في هذا الباب، فرأيت أن من ذكر الموسيقى فيها لا دليل في كتابه كلّه على شيء من ذلك، وأنه يستدل ببعض الألفاظ التي جاء فيها ذِكر الغناء، وذلك لا يعدو كونه شعرًا وحداءً، ومن نظر إلى أشعار العرب وكتب اللغة وجد ذلك ظاهرًا.

 

ويستدلون ببعض الأحاديث التي جاءت عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم، فمنها ما جاء في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناءٍ بعاث، فدخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: أمزمار الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعهما»، مغنيتان تغنيان: المراد بالغناء هو الحداء، وهذا معلوم ولا ريب فيه، ولم يخالف في ذلك أحد من أهل اللغة، وإنما خالف فيه من جَهِل الاصطلاح ممن تأخر.

فيقال أولًا: إن ذلك ليس فيه دليل، فليس ثمّة آلة لهوٍ؛ لا مزمار ولا طبل ولا غيرها.
الأمر الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سامعًا، ولم يكن مستمعًا، ومعلوم أن ثمّة فرق بين السماع والاستماع.

فالسماع: هو أن ينفذ إلى سمع الإنسان شيء من غير اختياره ومن غير إنصات.
فإن الله عز وجل قد حرّم الغيبة والنميمة وحرّم الاستماع إليها، والجلوس عند من يخوض في كلام الله عز وجل استهزاءًا، وقد ينفذ إلى مسَامِعِهِ شيء من الحرام ولا يأثم بذلك.


وهذا نظير المُحرم حينما يأتي إليه من رائحة الطيب مما لا يتعمّده شمًّا، ولا يلحق في ملابسه فليس عليه شيء.
ويقول ابن قدامة رحمه الله: "ومن لا يفرّق بين السماع والاستماع فإن ذلك جاهل، وليس أهلًا للفتيا".
ويخلط كثير من الناس بين هذا وهذا، وقد أورد بعضهم في هذا الباب ما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ويأتي الكلام عليه، ووضع إصبعيه في أُذُنيه حينما سمع مزمارًا.

فسماع عائشة للمغنيتين اللتين تغنيان عندها بغناء بعاث ليس المراد بذلك المعازف بالإطلاق، وذلك أن عائشة تنكر الزيادة في الإطراب بالقول، فكيف بالمعازف أيضًا؟

فقد روى البيهقي كما تقدم من حديث بكير بن الأشج عن أم علقمة: "أن عائشة قد خُفِضت بنات أخيها القاسم بن محمد فتألمنَ، فقيل: نأتي بمغني يلهيهنَّ، فقالت: ائتوا بفلان، فجيء به فأخذ يغني، فرأته عائشة وهو يهز رأسه وشعره طويل، فقالت: أخرجوه! شيطان شيطان".


وبعضهم يستدل أيضًا بما جاء في الصحيح من حديث عائشة أنها قالت: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسترني وأنا أنظر إلى زفن الحبشة في المسجد". فيقال: أن الزفن هو الوثب بالسلاح. والحبشة ماذا كانوا يقولون؟ قد روى الإمام أحمد في المسند والسراج في مسنده من حديث أنس بن مالك أنهم كانوا يقولون: "محمد عبد صالح، محمدٌ عبد صالح".


فهذا ما كان يزفن به الحبشة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إضافة إلى أن الزفن هنا المراد به الوثب بالسلاح والرماح، وهذا جائز لشحذ الهمم لجهادٍ ومكارم الأخلاق، وغير ذلك، في الأعياد ونحوها، إذا خلا من المعازف وآلات اللهو، وكان بالمعاني الحميدة، لثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تقريرًا.

وربما استدل بعضهم بما جاء عن عبد الله بن عمر من وضع إصبعيه في أٌذٌنيه وقوله لمولاه نافع:" أتسمع شيئًا؟"، فقال: "لا". قالوا: "إنه أذِنَ لمولاه نافع أن يسمع!". فيقال: "إن ذلك سماعًا وليس استماعًا، وفرقٌ بينهما".
إضافة إلى أن أبا داود قال في سننه: (هذا حديث منكر)، قال ابن رجب رحمة الله: "تابعه ميمون"، أي: رواه سليمان بن موسى عن نافع عن عبد الله بن عمر، وتابعه ميمون.


وإنكار أبي داود له وجيه، فأين أصحاب نافع من الثقات؛ كمالك بن أنس، وأيوب بن أبي تميمة السختياني، وابن جريج، وعبيد الله بن عمر، وأيوب بن موسى، والليث، وغيرهم، أين هم عن رواية نافع لذلك الخبر؟! فلم يروه إلا سليمان وميمون، مما يدل على نكارته، وعلى التسليم به، فإن عبد الله بن عمر هو الذي قال عن تلك الجارية: لو ترك الشيطان لترك هذه، يعني: الجارية لمّا مر بها وهي تغنّي.

وحينما يستدل البعض ببعض المرويات مما جاء عن بعض السلف كعبد الله بن عمر، أو عبد الله بن أبي جعفر بن أبي طالب، أنه كان يستمع الغناء ونحو ذلك، فيقال: ما المراد بالغناء هنا؟ نص القشيري في رسالته: أن ما روي عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن أبي جعفر بن أبي طالب من جملة سماع الأشعار بالألحان.


ليس المراد بذلك قطعًا الغناء المحرم والمعازف.
ولذلك يقول ابن رجب في رسالته في السماع وقد روي عن بعض السلف من الصحابة وغيرهم ما يوهم عند البعض إباحة الغناء، والمراد بذلك هو الحداء والأشعار.

وابن قدامة رحمه الله قد عنّف على ابن الحنبلي إذ فَهِمَ منه غير ذلك الفهم.
وحينما ظهر الغناء في العصور المتأخرة، وتوسع الناس فيه توسعًا كثيرًا، حتى بلغ به مبلغًا لا يمكن لأحدٍ أن يجيزه، ولديه أُنْسٌ بنصوص الشرع من الكتاب السنة، ولما كتب أحد الكتاب من مصر كلامًا يستدل فيه ببعض النصوص من المرويات عن بعض السلف في إباحة الغناء، كعبد الله بن عمر وعبد الله بن أبي جعفر، وسعد بن إبراهيم وغيرهم من السلف.

قال أحمد ابن الصديق الغماري: وهو من علماء المغرب، وإن كان فيه لوثةٌ اعتقاديه وأما استدلالهم بذلك فعجيب فإن إبليس داخلٌ في إجماع العقلاء على تحريم ذلك الغناء.

وهذا قبل نصف قرن تقريبًا، فكيف بما أحدثه الناس اليوم من غلوٍّ في هذا الباب، استحداث وسائل الطرب وتنوع آلات الموسيقى، والتغني بالشعر الماجن، والكلام المائع الخبث، فتوسعوا فيه توسعًا لا يأنس به أحد من أهل الإيمان الحق.

ولذلك يقال: إن هذا محرّم بلا ريب، وإن من استدل بشيء من ذلك فقد لبّس وخدع، وقد وهّم الناس، ولبّس عليهم دينهم، وخلط ما جاء من النصوص في شيء وجعله في شيء آخر، وهذا هو غاية الظلم، ومن أعظم الظلم الكذب على الله عز وجل والافتراء عليه، والظلم هو: أن يوضع الشيء في غير موضعه، يقول الله تعالى في كتابه: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} [الزمر:60]. وقال: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36].

ومن ذلك: الكذب على الله، وأن يُجْعَل الحرام حلالًا بحجة ورود بعض الألفاظ العامة الموهمة ونحو ذلك.
ومن تأمل بعض الآراء الفقهية المعاصرة في هذا الباب من إباحة الغناء، وإباحة اللهو المعازف أو الموسيقى ونحو ذلك، علم أن هذه الآراء والأقوال صنيع من لا يفرّق بين الغناء والحداء وبين الشعر على أي وجهٍ كان.
ومن قال بهذا القول فهو داخل في قول ابن قدامة عليه رحمة الله حيث يقول: "ومن لا يفرق بين الغناء والحداء وبين الشعر على أي وجهٍ كان، وبين السماع والاستماع؛ فإنه ليس بأهل للفتيا".

وحينما علّق ابن قدامه على ابن الحنبلي، حينما دخل في هذا الباب والتبس عليه ذلك قال ابن قدامة: "ويغلب على الظن أن ذلك ليس بخافٍ عليه، وذلك أنه قد استدل للغناء بالحداء وبنصوصه، فإنه لما ضاقت عليه ممادح الغناء مال إلى ما يقاربه وهو الحداء"، قال: "فإن الأقرع يفتخر بجمّة ابن عمّه، وابن الحمقاء يذكر خالته إذا عيب بأمه".

وهذا ابن قدامة الذي قد ذكر عنه بعض المعاصرين محتجًا أنه قد ذكر الخلاف في مسألة الغناء في كتابه المغني فقال: اختلف أصحابنا في الغناء وقال عليه: إن الغناء مما يختلف فيه! وخطاب ابن قدامة لابن الحنبلي هو في العام الذي توفي فيه! وحكى عنه ابن الحنبلي تكفيره لمستحل الغناء، وقال بعدم صلاح ابن الحنبلي للفتيا وأنه ليس أهلًا لها؛ لأنه قد خلط في هذا، فكيف يأخذ منصف قوله حينما نصّ في المغني أن الغناء مما يختلف فيه، فأي غناءٍ أراد؟! إذًا كلامه يفسره كلامه، ويفسره كذلك لغة العرب الواردة في أشعارهم، وفي لسان الشارع: كلام النبي  صلى الله عليه وسلم.


وأما التغني والتطريب بالقراءة فقيل: إن أَول من قرأَ بالأَلحانِ عُبَيد الله بنُ أبي بَكرة، فَوَرِثَه عنه عَبَيدُ الله بنُ عمر، ولذلك يقال قرأْتُ العُمَرِيَّ، وأَخَذ ذلك عنه سعيد العَلاَّفُ الإباضيُّ، كما نص على ذلك ابن منظور رحمه الله.


* وأما المبالغة بالتلحين والتطريب لكلام الله سبحانه وتعالى، فقد ذكر الخلاف فيه ابن رجب في رسالته السماع.


وقال: "إن أكثر العلماء على منعه"، وذهب بعضهم إلى جوازه، وهو مروي عن أبي حنيفة والإمام الشافعي.
ومنهم من حكى الإجماع كأبي عبيد القاسم ابن سلاّم على المنع، وأما قراءة القرآن بالتلحين والإطراب، وعلى المقامات مما يسميه أهل الألحان مقامات فهو محلّ خلاف أيضًا، قد نص على الخلاف ابن القيم وابن رجب الحنبلي وغيرهما.

ويقال: "إن التغنّي بالقرآن وتحسين الصوت مقصود شرعًا، ما لم يخرج ذلك عن العادة، حتى وإن أطرب".
والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أبي موسى الأشعري فقال: "لقد أُوتي هذا مزمارًا من مزامير آل داود".


قال أبو عثمان النهدي رحمه اللهوهو من كبار التابعين قد أدرك الخلفاء الراشدين الأربعة: "قد دخلت دار أبي موسى فما واللهِ سمعت صوت صنج ولا ناي أحسن من صوته"، وهنا: معلوم أن ما في المزامير وآلات الطرب من الإطراب والمبالغة بالتلذذ وغير ذلك، فإن في قول أبي عثمان النهدي من ذلك أن فيها من الإطراب ما هو ألذّ من ذلك كلّه، وعليه يقال: أن هذا يحمل على معنيين:


المعنى الأول: أن كلام الله سبحانه وتعالى يطيب القول على أي وجهٍ كان، وأنه ألذّ من ذلك كله.

المعنى الثاني: أن المراد بذلك هو ذات الصوت، وهذا هو الظاهر، وذلك أنه قصد الصوت والتلحين به، وما قصد ذات المعاني، فإن المعاني تسمع عند كلِّ أحد، ولذلك خصّها بدار أبي موسى.


ومعلوم أن الصنج هو: نوع من أنواع اللهو، وقيل: هو دفتان من النحاس، يضربان ببعض فيصدران صوتًا مطربًا. والمزامير يدخل فيها آلات اللهو من الطبل والدف وغيرها، وهي بالعموم جميع ما أطرب حتى وإن كان صوتًا مجردًا.

  • 56
  • 3
  • 66,067

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً