خطبة الجمعة بين الإطالة والإقصار

إبراهيم بن محمد الحقيل

ورغْم اتِّصال خُطبة الجمعة من العهْد النَّبوي إلى يومِنا هذا، فإنَّها تباينت بتباين الخطباء والجوامع والأمْصار، في طولها وقصرها وموضوعاتها، وبنيتها اللُّغوية والبلاغيَّة، وطريقة إلقائها، واحتفَّ بها في بعض ديار المسلمين بدعٌ ومحدثات ما أنزل الله تعالى بها من سلطان

  • التصنيفات: الدعاة ووسائل الدعوة - خطب الجمعة -

من المعلوم ضرورةً في الإسلام أنَّ صلاة الجمُعة فريضةٌ على الرِّجال بشروطٍ ذكرَها الفقهاء، وأنَّ هذه الشَّعيرة العظيمة هي من أظْهر الشَّعائر وأجلِّها وأنفعها؛ ولذا كانت في يوم العيد الأسبوعي للمسلمين، وأفْضل الأيَّام؛ إذ اختصَّ عن سائر الأيَّام بخصائص كثيرة أفردَها العلماء بكتُب وأبواب في مصنَّفاتهم؛ لكثرتها وأهميَّتها.

وقد شرع الشَّارع الحكيم -جلَّ وعلا- جملةً من الواجِبات والسنن ليوم الجمعة، من الاغتِسال والطِّيب ولبْس أحسن الثِّياب والتَّبكير للمسجد وغيرها، أحسب أنَّ من مقاصدِها تهيِئة المصلِّين للاستِماع إلى موعظة الخطيب؛ فإنَّ التَّطهر والاغتسال والسواك والطيب ولبس النَّظيف من الثياب منعش لصاحبه، ويُسرُّ به سرورًا كبيرًا، ويكون متهيئًا للاستماع أكثر من غيره، وإنَّ الرَّوائح الكريهة تشغل صاحبها كما تشغل المجاورين له.

والعجيب أنَّ هذه السنن العظيمة في هذه الشَّعيرة الظَّاهرة بقِيت في المسلمين على اختلاف بلدانهم وأجناسهم ولغاتهم، رغْم تقصيرهم في بعض الواجبات والفرائض كصلاة الجماعة وغيرها، وأضْحت عنايتهم بالاغتِسال ليوم الجمعة والطِّيب ولبس النَّظيف من الثياب سمةً ظاهرة في شتَّى بلاد المسلمين في الجملة. 

بل إنَّ الشَّارع الحكيم جعل الاستِماع للخطبة واجبًا، ونُهي شاهدُ الجمعة عن الكلام والعبث والحركة التي لا حاجة لها، ومَن فعل ذلك ذهب أجر جمعته ولو حضرها؛ كما في حديث أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أنَّ رَسُولَ الله صلَّى الله عليْه وسلَّم قال: «إذا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يوم الجُمُعَةِ: أنْصِتْ، والإمامُ يَخْطُبُ - فَقَدْ لَغَوْتَ» (رواه البخاري [892]، ومسلم [851])، وعنه رضي الله عنْه، عن رسول الله صلَّى الله عليْه وسلَّم قال: «ومَنْ مَسَّ الحَصَى فَقَدْ لغا» (رواه مسلم [857])، ورُتِّب على حضور الجمعة على الصفة التي أمر بها الشَّارع الحكيم مغفِرة ذنوب الأسبوع وزيادة؛ كما في حديث أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه، عن النَّبي صلَّى الله عليْه وسلَّم قال: «من اغْتَسَلَ ثُمَّ أتى الجُمُعَةَ فصَلَّى ما قُدِّرَ له ثُمَّ أَنْصَتَ حتى يَفْرُغَ من خُطْبَتِه، ثُمَّ يُصَلِّي معه، غُفِرَ له ما بَيْنَهُ وبَيْنَ الجُمُعَةِ الأخْرَى وفَضْلُ ثَلاثَةِ أيَّامٍ» رواه مسلم [857]).

وصلاة الجمعة وخطبتها سنَّة باقية، وشعيرة ظاهِرة منذ أن خطَبَ النَّبيُّ صلَّى الله عليْه وسلَّم أوَّل جمعة إلى يومِنا هذا، وإلى أن يشاء الله تعالى، وهي في ازْدِياد، ومساجد الجمُعة في ازدياد أيضًا، والله تعالى وحْده يعلم كم من خُطْبة تُلقى كلَّ جمعة في الأرض، ولم تتوقَّف خطبة الجمُعة منذ شُرعت إلاَّ في بعض الأمْصار لظروف طارئة، كما توقَّفت الخُطبة في المسجد الأقصى زهاءَ تِسْعين سنة أيَّام الاحتِلال الصَّليبي، وفِي مساجد بغْداد أرْبعين يومًا أثناء الاجتِياح التَّتري لها، ونحو ذلك، لكنَّها كانت قائمة في الأمْصار الأخرى للمسلمين.

ورغْم اتِّصال خُطبة الجمعة من العهْد النَّبوي إلى يومِنا هذا، فإنَّها تباينت بتباين الخطباء والجوامع والأمْصار، في طولها وقصرها وموضوعاتها، وبنيتها اللُّغوية والبلاغيَّة، وطريقة إلقائها، واحتفَّ بها في بعض ديار المسلمين بدعٌ ومحدثات ما أنزل الله تعالى بها من سلطان، خُصَّت بأبواب في كتُب إحصاء البدع والتَّحذير منها.

وما هذا الاختِلاف والتَّبايُن في خطبة الجمُعة -مع أنَّها نُقلت بالتَّواتُر المتَّصل الَّذي لم ينقطع أبدًا من عهد النبوَّة إلى يومنا هذا- إلاَّ لاختلاف عقول البشر وثقافاتهم وعلومهم، والأحداث السياسية والاقتصادية والمتغيرات الاجتماعية المحيطة بهم.

ومن أهمِّ الموضوعات التي اختلف أهل العِلم والدعوة والخطابة في ضبطها: مقْدار طول الخطبة وقصرها، وهو موضوع هذه المقالة التي أسأل الله تعالى أن تكون نافعة.

الأحاديث الواردة في ذلك

نقل إليْنا أحاديث عدَّة تحثُّ على إقصار خطبة الجمعة وإطالة صلاتها، ومن هذه الأحاديث:
1. حديث أبي وَائِلٍ قال: "خَطَبَنا عَمَّارٌ فأوْجَزَ وأبْلَغَ، فلما نَزَلَ قُلْنا: "يا أبَا اليَقْظانِ، لقد أبْلَغْتَ وأوْجَزْتَ، فلَوْ كُنْتَ تَنَفَّسْتَ"، فقال: "إنِّي سمِعت رَسُولَ الله صلَّى الله عليْه وسلَّم يقول: «إنَّ طُولَ صَلاةِ الرَّجُلِ وقِصَرَ خُطْبَتِه مَئِنَّةٌ من فِقْهِه؛ فأطِيلُوا الصَّلاةَ واقْصُرُوا الخُطْبَةَ، وإنَّ من البَيَانِ سِحْرًا»، وفي رواية: قال عمَّار رضي الله عنه: "أمَرَنا رسولُ الله صلَّى الله عليْه وسلَّم بإقْصارِ الخُطَبِ"[1].

2. حديث جابِرِ بن سَمُرَةَ رضِي الله عنْه قال: "كنت أُصَلِّي مع رسولِ الله صلَّى الله عليْه وسلَّم، فكَانَتْ صَلاتُه قَصْدًا وخُطْبَتُه قَصْدًا"، وفي رواية: "كان رسولُ الله صلَّى الله عليْه وسلَّم لا يُطِيلُ المَوْعِظةَ يوم الجُمُعةِ إنَّما هُنَّ كَلِماتٌ يَسِيراتٌ" (رواه مسلم [866]، والرواية الثانية لأبي داود [1107]).

3. حديث الحَكَمِ بن حَزْنٍ الكلفي رضي الله عنه قال: "قَدِمْتُ على رسول الله صلَّى الله عليْه وسلَّم سابِعَ سَبْعَةٍ أو تَاسِعَ تِسْعَةٍ، قال: "فلَبِثْنا عِنْدَ رسولِ الله صلَّى الله عليْه وسلَّم أيَّامًا شَهِدْنا فيها الجُمُعةَ، فقامَ رسولُ الله صلَّى الله عليْه وسلَّم مُتَوَكِّئًا على قَوْسٍ أو قال: على عَصا، فحَمِدَ الله وأثْنَى عليه كَلِماتٍ خَفِيفاتٍ طَيِّباتٍ مُبَارَكاتٍ"[2].

4. حديث عَمْرَو بن العَاصِ رضي الله عنه قال يَوْمًا وقَامَ رَجُلٌ فأكْثَرَ القَوْلَ، فقال عَمْرٌو: "لو قَصَدَ في قَوْلِه لَكانَ خَيْرًا لهُ؛ سمعت رَسُولَ الله صلَّى الله عليْه وسلَّم يقول: «لقد رأيتُ أو أُمِرْتُ أنْ أتَجَوَّزَ في القَوْلِ؛ فإنَّ الجَوازَ هو خَيْرٌ»" (رواه أبو داود [5008]، وسنده ضعيف). وهذا عامٌّ يشمل الخُطبة والموعظة.

 5. حديث أبي أمامة رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليْه وسلَّم كان إذا بعث أميرًا قال: «اقصر الخطبة وأقلل الكلام فإنَّ من الكلام سحرًا»[3].

فكلّ هذه الأحاديث تدلُّ على إقْصار الخطبة، وفي بعضها إطالة الصلاة، والإقْصار هنا لم يرد حدٌّ لأقلِّه، ونُقل عن الشَّافعي في القديم: أنَّ أقلَّ الخُطبة كأقصر سورةٍ في القرآن، وذكر الماورْدي: "إنْ حَمِد الله تعالى وصلَّى على نبيِّه ووعظ، أجزأه"، ونُقِل عن ابن العربي أنَّ أقلَّها: حمد الله والصَّلاة والسَّلام على نبيِّه صلَّى الله عليْه وسلَّم وتحذير وتبشير وقرآن (الحاوي الكبير [2/443]).

قال البغوي رحِمه الله تعالى: "وأقلُّ ما يقع عليه اسم الخُطْبة أن يَحمَد الله ويصلّي على النَّبي صلَّى الله عليْه وسلَّم ويُوصي بتقوى الله، هذه الثَّلاث فرضٌ في الخطْبَتَين جميعًا، ويجب أن يقْرأ في الأولى آيةً من القرآن، ويدعو للمؤْمنين في الثَّانية، فلو ترك واحدًا من هذه الخمْس لا تصح جُمعتُه عند الشَّافعي رحمه الله" (شرح السنة [4/364])

وأحال ابن جُزي المالكي في مقْدارها على عُرف العرب، فقال: "وأقلُّ ما يسمَّى خطبةً عند العرب، وقيل: حمْد وتصْلية ووعظ وقرآن" (القوانين الفقهية: ص[56]).

وعامَّة الفقهاء على استِحباب ما جاءت به الأحاديث من إقصار الخطبة وعدم إطالتها[4] حتَّى قال القرافي رحمه الله تعالى: "واتَّفق الجميع على استِحْسان قصر الخطبة" ( الذخيرة [2/345])، وساق الشَّوكاني جملة من الأحاديث في ذلك ثمَّ قال: "وأحاديث الباب فيها مشروعية إقصار الخطبة ولا خلاف في ذلك" (نيل الأوطار [3/332]). 

وقال ابن عبدالبر رحمه الله تعالى: "وأما قصر الخطبة فسنَّة مسنونة كان رسول الله صلَّى الله عليْه وسلَّم يأمر بذلك ويفعله" (الاستذكار [2/363])، وقال أيضًا: "وأهل العلم يَكرهون من المواعظ ما ينسي بعضه بعضًا لطوله، ويستحبُّون من ذلك ما وقف عليه السَّامع الموْعوظ فاعتبره بعد حفْظِه له، وذلك لا يكون إلا مع القلة" (الاستذكار [2/364]). ومن الفقهاء مَن يوجب إقصار الخطبة ويُحرِّم إطالتها كابن حزم[5].

ولكن ليس في شيءٍ من الأحاديث -فيما وقفتُ عليه منها- تَحديد مقْدار الخطبة؛ ولذلك اختلف العلماء في قدْرِها، وفي فهم معْنى الإقْصار المأمور به؛ إذ إنَّ الإطالة والإقصار من الأمور النِّسبيَّة الَّتي لا يمكن تَحديدُها إلاَّ بالنسبة لغيرها:

1. فمن أهل العلم مَن رأى أنَّ ذكر الصلاة مع الخطبة في بعض الأحاديث يَقتضي المقارنة بينهما بحيث تكون الخطبة أقصر من الصَّلاة؛ للأمر بإقصار الخطبة وإطالة الصلاة، قال البيهقي رحمه الله تعالى: "وهكذا استحبَّ الشَّافعي في القديم أن يكون كلامه خفيفًا وصلاته أطول من كلامه"[6]، وقال زكريا الأنصاري رحمه الله تعالى: "القصر والطول من الأمور النسبيَّة، فالمراد بإقْصار الخطبة إقْصارها عن الصَّلاة، وبإطالة الصَّلاة إطالتها على الخطبة" ( أسنى المطالب [1/260])، وهو ظاهر كلام شيخ الإسلام لأنَّه قال: "الإطالة هنا بالنسبة إلى الخطبة" (مجموع الفتاوى [22/597]).

واعتمده كثير من طلاب العلم المعاصرين، ومنهم مَن حسب الصلاة بقراءة سورتي الجمُعة والمنافقون مترسِّلاً فكانت قريبًا من ثلث ساعة، أو ربع ساعة فيكون مقدار الخطبة ربع ساعة أو ثلث ساعة، وأعْرِف من إخواني الخُطباء مَن يَحرصون على إقصار الخطبة عن الصَّلاة لموافقة السنَّة[7].

قلتُ: هذا الفهم للحديث فيه نظر، كما أنَّ تَحديد الخطبة بزمَن معيَّن ليس عليه دليل، وهو مبنيٌّ على فهم غير دقيق لأحاديث الإقْصار، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.

2. ومن العلماء مَن ذكروا إقْصار الخطبة لكن لم يحدُّوه بحدّ، ولم يجعلوه بالنِّسبة للصلاة، قال الحافظ ابن رجَب رحِمه الله تعالى: "وكان مع ذلك مقتصدًا في خطبته ولا يُطيلها، بل كانت صلاته قصدًا وخطبته قصدًا" (فتح الباري لابن رجب [5/490])، ومنهم مَن نصَّ على عدم المبالغة في إقصارها كما نقل النَّووي رحمه الله تعالى عن فُقهاء مذهب الشَّافعي رحمه الله تعالى: "قال أصحابنا: ويكون قصرها معتدلًا، ولا يبالغ بحيث يمحقها" (المجموع [4/448]).

ومن هؤلاء مَن جعل الأصل هو الإقصار ولم يحدُّوه بحد، لكن أجازوا الإطالة إذا اقتضى الحال ذلك، قال الأذرعي من الشَّافعيَّة: "وحَسَنٌ أن يَختلف ذلك باختلاف أحوالٍ وأزمان وأسباب، وقد يقتضي الحال الإسْهاب، كالحثِّ على الجهاد إذا طرق العدوُّ -والعياذ بالله تعالى- البلاد، وغير ذلك من النَّهي عن الخمْر والفواحش والزِّنا والظلم إذا تتابع الناس فيها" (نهاية المحتاج [2/326]، حاشية الجمل على شرح المنهج [2/35]).

وهذه الإطالة الطَّارئة لا تخرج الخطيب عن مئنَّة الفقه، كما قال الشيخ ابن عثيمين رحِمه الله تعالى: "وأحيانًا تستدعي الحال التطويل، فإذا أطال الإنسان أحيانًا لاقتضاء الحال ذلك فإنَّ هذا لا يخرجه عن كونه فقيهًا؛ وذلك لأنَّ الطول والقصر أمر نسبى، وقد ثبت عن النَّبي صلَّى الله عليْه وسلَّم أنَّه كان يخطب أحيانًا بسورة [ق]، وسورة [ق] مع التَّرتيل والوقوف على كلِّ آيةٍ تستغْرِق وقتًا طويلًا" (الشرح الممتع [5/65]).

3. ومنهم مَن فهِم منه أنَّ الأمر بإقصار الخطبة بالنِّسبة لكونها خطبة، وللخطبة موضوع وفكرة لا بدَّ أن يوضحها الخطيب طالت خطبتُه أم قصرت، كما كان عند العرب خطب طويلة، وكما حُفظ عن السَّلف خطب طويلة، فالمقصود إيفاء الموضع حقَّه، وإيصال فكرته للمنصت حتَّى يستفيد منه.

وأمَّا إطالة الصَّلاة فليست بالنسبة للخُطبة، وإنَّما بالنسبة لغيرها من الصَّلوات التي جاء الأمر بتخْفيفها في الجملة، وليس معنى ذلك أن تكون الخطبة أقصرَ من الصَّلاة، قال سليمان الجمل في حاشيته: "قوله بالنسبة للصلاة؛ أي: وإن كانت طويلة في نفسها" (حاشية الجمل [2/35])؛ أي: الخطبة. 

بل يرى الشيخ ابن جبرين رحمه الله تعالى أنَّ الخطبة ما قسمت يوم الجمعة إلى خطبتَين إلاَّ لطولها، فاقتضى ذلك الجلوس للاستِراحة بين الخطبتين، وحدَّ الطَّويلة بساعة فأكثر، وعدَّ من الخطب القصيرة أن تبلغ ساعة إلاَّ ثلثًا (الموقع الرسمي للشيخ ابن جبرين على الإنترنت).

وقال الشيخ عبدالمحسن الزَّامل حفِظه الله تعالى: "وليس المراد أنَّ الصلاة تكون أطول من الخطبة، لا، المراد أنَّ الخطبة بالنسبة إليها تكون قصيرة، وأنَّ الصلاة تكون طويلة" (موقع جامع شيخ الإسلام ابن تيمية على الإنترنت).

والذي يظهر لي أنَّ هذا القول هو الصَّحيح في فهم أحاديث الإقصار، وأنَّه لا حدَّ لطول الخطبة أو قصرها، وأنَّ عدم التَّحديد كان مقصودًا للشَّارع الحكيم، وأنَّ ذلك متروك لاجتِهاد الخُطباء، وتلمُّسهم لحاجات الناس، وترجيحي لهذا القول من أوجُه ثلاثة:

الوجه الأوَّل: أنَّه لم يرِد في أيِّ حديث من أحاديث الإقْصار تَحديد هذا الإقصار، ومن فَهِم من الحديث أنَّ الخطبة تكون أقْصر من الصَّلاة فقد أبعدَ النجعة؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليْه وسلَّم لم يقُل: من فقه الرجُل أن تكون خطبته أقصر من صلاته، وإنَّما ذكر طول الخُطبة وقصر الصَّلاة، ولا يقتضي الجمع المقارنة بيْنهما، بل قصر الخُطبة بالنسبة لكونِها خطبة والعادة فيها الطول، وطول الصلاة بالنسبة لكونِها صلاة والأصل فيها التَّخفيف؛ لحديث: «أيُّكُمْ أمَّ الناس فلْيُوجِزْ» (رواه من حديث أبي مسعود الأنصاري رضِي الله عنه، البخاري [6740]، ومسلم [466])، فتخرج صلاة الجمعة عن هذا الأصل لهذا الحديث، ويُطَوَّلُ فيها.

الوجه الثاني: ما نُقِل عن النَّبيِّ صلَّى الله عليْه وسلَّم ممَّا ظاهره التَّطويل، وكذلك ما نقل عن عمر رضي الله عنه وكان بمحضر من الصَّحابة رضِي الله عنْهم ولَم ينكر عليْه أحد منهم؛ مما يدلّ على أنَّهم ما فهموا من أحاديث إقصار الخطبة أن تكون أقلَّ من الصَّلاة، ومن هذه الأحاديث:

1. حديث بِنْت حَارِثَةَ بن النُّعْمَانِ رضي الله عنها قالت: "ما حَفِظْتُ [ق] إلاَّ من في رسولِ الله صلَّى الله عليْه وسلَّم، يَخْطُبُ بها كُلَّ جُمُعَةٍ" (رواه مسلم [873])، ومعلوم أنَّ سورة [ق] ليست بالقصيرة، فكيف إذا ضمَّ إليْها افتِتاحه الخطبة بالحمْد، وربَّما أنَّه ذكَّر ووعظ كما هو هدْيه صلَّى الله عليْه وسلَّم في الخطبة.

2. حديث ربِيعةَ بن عبدالله بن الهُدَيْرِ التَّيْمِيِّ: أنَّه حضر عُمَرَ بن الخطَّابِ - رضي الله عنه - قرَأ يوم الجُمُعةِ على المِنْبَرِ بِسُورةِ النَّحْلِ، حتَّى إذا جاء السَّجْدَةَ نَزَلَ فسَجَدَ وسَجَدَ النَّاس، حتَّى إذا كانت الجُمُعَةُ القابِلةُ قَرَأ بها، حتَّى إذا جاء السَّجْدَةَ قال: "يا أيُّها الناس، إنَّا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ، فَمَنْ سَجَدَ فقَدْ أصَابَ، ومَنْ لم يَسْجُدْ فلا إثْمَ عليه"، ولم يَسْجُدْ عُمَرُ - رضِي الله عنه" (رواه البخاري [1027]).

وظاهرُ الحديث أنَّه قرأ السورة كلَّها في الجمعَتَين كلتَيْهما، ومعلوم أنَّ سورة النَّحل طويلة جدًّا، وبعيد أن يُطيل الصَّلاة أكثر من الخطبة وإلاَّ لشقَّ على النَّاس، وكانت خطبتاه بمحضر من الصَّحابة رضِي الله عنهم ولم يُعرف منكِر عليه هذا التَّطويل، مع ملاحظة أنَّه لم يكن ثَمَّة ضرورة لقِراءة سورة النَّحل فيما يظهر؛ حتَّى لا يقال: إنَّ الضَّرورة دعت لهذا التَّطويل بسبب نازلة اقتضت ذلك؛ إذ بإمكان الفاروق رضي الله عنه أن يقرَأَها عليهم في غير الخُطْبة.

 3. حديث ابن عبَّاس رضِي الله عنهما وهو طويل وفيه قصَّة، والشَّاهد منه خطبة عمر رضي الله عنه وفيها قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: "فلما سَكَتَ المُؤَذِّنُونَ قام فأثْنَى على الله بِما هو أهْلُهُ ثُمَّ قال: .... إلخ" وساقها وهي طويلة (رواه البخاري [6442]، ورواه مسلم مختصرًا [1691]).

وما نقله ابن عبَّاس رضي الله عنهما هو جزء من خطبة عمر رضي الله عنه لأنَّ ابن عباس أشار إلى الحمْد ولم يذكره، كما لم يذْكُر الخطبة الثَّانية؛ لأنَّه لم يذكر جلوسًا، والأصل أنَّ هذا المنقول من خُطْبتِه رضي الله عنه كان متَّصلًا لم يقطعْه كما يفهم من سياقها، وهذا الجزء من خُطبة الفاروق رضي الله عنه أطولُ من سورَتَي "الجمُعة والمنافقون"، مجتمعَتَين بما يقارب الضِّعف، وهُما أطول سورَتَين تُقرآن في صلاة الجمعة؛ إذ بلغتْ خطبته بحساب الوورد 618 كلمة بينما عدد كلِمات "الجمعة والمنافقون" 363 كلمة، والله أعلم.

وجاءت آثارٌ عن بعض السَّلف في الإطالة، وهي آثار ضعيفة، منها:
1. أنَّ عمَّار بن ياسر رضي الله عنهما كان يقرأ يوم الجمُعة على المنبر بـ[يس] (رواه ابن سعد في الطبقات [3/255]، وابن عساكر في تاريخه [43/440]).

2. أنَّ أبا موسى الأشعري رضي الله عنه قرأ سورة الحجِّ على منبر البصرة، فسجدَ بالنَّاس سجدتين (رواه ابن المنذر في الأوسط [5/264-265]).

3- أنَّ أبان بن عثمان رحمه الله تعالى كان يقرأ يوم الجمُعة على المنبر سورة الأنعام (رواه أبو عبيد في فضائل القرآن [2/61]).

الوجه الثالث: أنَّ ترْك تحديد الإقْصار مقصود للشَّارع الحكيم، وبيان ذلك أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليْه وسلَّم مكث في المدينة عشْر سنوات، فهاجر في ربيع من السَّنة الأولى، وتوفِّي في ربيع من الحادية عشرة، وصلَّى الجمعة فور وصوله المدينة، فيكون قد خطب بالنَّاس عشر سنوات، والسَّنة الواحدة فيها خَمسون جمعة تقريبًا، فيكون النَّبيُّ صلَّى الله عليْه وسلَّم، صلَّى في المدينة منذ هجرته إلى وفاته ما يُقارب من [500] جمعة، فلو حذفْنا منها مائةَ خطبة من خطبه صلَّى الله عليْه وسلَّم لأسفارِه وغزواته بل مائتَين، لبقِي لنا ثلاثمائة، والصَّحابة متوافِرون، ويحضر خطبتَه الجمع الكبير وهم الحفَّاظ الَّذين حفظوا عن النبي صلَّى الله عليْه وسلَّم أقْواله وأفعاله وتقْريراته مهْما كانت طويلة، فروى جابر حجَّته صلَّى الله عليْه وسلَّم من بدايتِها إلى نهايتِها، وروى كعب بن مالك قصَّة توبتِه، وروت عائشة حادثة الإفْك وتفاصيلها، وغير ذلك كثير، ثمَّ لا يُنقل إليْنا خطبة جُمعة كاملة عن النَّبي صلَّى الله عليْه وسلَّم من بدايتها إلى نهايتها، مع حضور الجمْع الكبير لخُطْبته، وتكرُّرها كلَّ أسبوع طيلة عشْر سنوات، وقد نُقل ما لم يتكرَّر مثل خطب عرفة ويوم النَّحر والكسوف، وهي خُطبة واحدة، فكان أدْعى أن ينقل إليْنا كثير من خطبه المتكرّرة، ولا يرد على تقرير هذا بعض الأحاديث الَّتي هي جزءٌ من خطبتِه؛ لأنَّ مرادي خطبة كاملة. 

الَّذي يظهر -والله تعالى أعلم- أنَّ عدم النقل كان مرادًا للشَّارع الحكيم سبحانه وتعالى، وأنَّ تحديد خطبة الجمعة بمقدار معيَّن من الكلام أو بزمن معين ليس مرادًا له جلَّ وعلا، وأنَّ ذلك تُرك لأحْوال النَّاس والزَّمان والمكان، وأُنيط باجتِهاد الخطباء، بِحيث يأتون بما ينفع النَّاس، مع مراعاة الأصل العام، وهو التَّخفيف؛ لأنَّه مئنَّة الفقه، دون تحديد مقدار هذا التخفيف، وتكون الخطبة طويلة إذا كانت مملَّة غير نافعة ولو كانت قصيرة، وتكون مُمتعة إذا كانت نافعة ولو كانت أطول من غيرها.

كذلك لم يُنقل مقْدار الخطبة، وإنَّما وصفت بأنَّها يسيرة فقط، مع أنَّ الصَّحابة حفظوا ما هو أقلُّ شأنًا من الخطبة، وقدَّروه بمقادير يمكن معرفة الزَّمن فيها على وجه التَّقريب؛ وذلك حتى لا يكون المنقول أو تحديده ميزانًا توزن به الخطب فلا تتعدَّاها، وحينئذ لا تفي بحاجات الناس المختلفة عبر الزمان والمكان، فذُكر الأصل وهو التَّخفيف، وتُرك مطلقًا بلا تحديد؛ ليراعيه الخطيب، ولا يكون مقيّدًا له أو حُجَّة عليه فلا يستوفي موضوعاته بسببه؛ وذلك شرع الحكيم العليم جلَّ في علاه. 

وهذا التَّخريج تجتمع به الأدلَّة، ولا يُضرب بعضها ببعض، ويبطل حجَّة مَن يقول: الخطباء يدْعون النَّاس في خطبهم للالتزام بالسنَّة ثُمَّ يُخالفونها هُم في خطبهم.

لماذا لم تحدَّ الخطبة بحدّ معين؟ 
مَن تأمَّل اختِلاف أحوال النَّاس والجوامع والخطباء عبْر الزَّمان والمكان والظُّروف المحيطة بهم، تبيَّن له شيءٌ من حكمة الشَّارع الحكيم جلَّ وعلا في الأمر بالإقْصار مع عدم تحديدِه:

1. فبعض النَّاس يكونون في عمل ودراسةٍ يوم الجمعة، كما في المراكز الإسلاميَّة في كلّ البلاد الكافرة، وهذا يقتضي مُراعاة أحوالهم أكثرَ من غيرهم؛ لأنَّهم يقتطعون وقتًا من عملِهم أو دراستهم لأجْل الصَّلاة، فليس حالُهم كحال مَن عندهم يوم الجمعة إجازة.

2. وبعْض الجوامع تكون مهيَّأة، والمصلُّون فيها مرتاحون، فهي ليست كالجوامع الَّتي فيها حرّ شديد، ولا وسائل فيها للتَّبريد، أو كان البرد فيها شديدًا، ولا وسائل للتدفئة.

3. وبعض الأئمَّة يكون محسنًا للموضوع الَّذي يتحدَّث فيه، وتكون أفكار خُطبته مرتَّبة، وفيها فوائد جليلة، ويودّ الحاضرون أن لا يسكت؛ لكثرة الفوائد التي ينثُرُها عليهم، فهذا ليس كفاقِد المعرفة الَّذي لا يُلمُّ بموضوع خطبته، أو كانت معلوماته غير وافيه في الموضوع المراد، فيملُّ النَّاس حديثَه.

4. ومن الخطباء: البليغ الممْتع، ومنهم العيي المتَأْتئ، يُعيد في الموضوع ولا يفيد، فالأوَّل لو خطب ضِعْف خطبة الثاني ما ملَّه النَّاس وملُّوا الثَّاني، وهذا مشاهَد؛ إذ يقوم رجل عقب الصَّلاة فيتحدَّث عشر دقائق ليس في موعظتِه موضوع محدَّد، ولا يدْري الحاضرون ماذا يريد، كأنَّه تحدَّث لأجل الحديث فقط، فهذا ينصرف النَّاس عنه منذ أن يتبيَّن لهم حاله، ويأتي متحدِّث متمكِّن لديْه موضوع مهم محدَّد، يُجيد الكلام فيه فيمكُثُ نصف ساعة لم يتحرَّك أحد من مكانه، فهذا لا يصدق عليه أنَّه أطال ولو أطال، والأوَّل يصدق عليه أنَّه أطال ولو لم يزِد على عشر دقائق؛ لأنَّه حبس النَّاس ولم يفدهم بشيء.

5. وبعض المصلِّين يكونون على قدْرٍ من العِلْم والمعرفة، ويحبُّون بعض التفاصيل في الموضوعات التي يطرقُها الخطباء، ولا يشبعهم الكلام العام؛ لأنَّهم يعرفونه في الأصل، وفي النَّوازل يريدون حكم أهْل العلم فيها، فيقتضي ذلك شيئًا من الطول، وعكسهم من كانوا قليلي علم، ضعيفي إدراك، فلا يحسن لهم إلاَّ الاختِصار والتَّسهيل والتَّركيز؛ ليدْرِكوا ما يقول الخطيب.

6. وبعض البلاد تكثُر فيها الأحداث والنَّوازل وتتزاحم الموضوعات على الخطيب، فيضطر لاستيعاب كلّ موضوع على حدة؛ لأنَّه قد لا يعود إليْه مرَّة أخرى، وبلاد أخرى كالقرى والهجر والمدن الصَّغيرة أحداثها أقل، ومشاكلها أصغر، فلا تُساوَى بالأولى.
ومع الانفِتاح الإعلامي صارت الموضوعات تتجدَّد، والأحداث تتسارع، وكلّ الأحداث الكبرى في الأرض تُنقل للنَّاس، فيؤمُّون المساجد يوم الجمعة لمعرفة الأحْكام الشَّرعيَّة فيما يستجدّ، وهذه قضيَّة مهمَّة ما كانت موجودة عند الخطباء السَّابقين حينما كانت الحوادث محصورة على المكان الَّذي هم فيه، وقد أخطأَ مَن ظنَّ حصر الخطبة في الوعظ البحت فقطْ، فالخطبة تعليم وتوجيه ووعظ وإرشاد وبيان أحكام.

7. والموْضوعات الملْقاة على الناس ليست واحدة، فمِنْها ما يكْفي فيه الاختِصار، ومنها ما يَحتاج إلى شيء من طولٍ للإيضاح، فليستْ على سنن واحد في أهميَّتها وحاجة النَّاس إليها، ومعرفتهم بها.

8. والزَّمان كذلك يَختلف؛ فليست الخطبة في العشْر الأواخر من رمضان مع سهَر النَّاس للقيام كغيرها في سائِر العام، وكذلك المكان؛ فليست الخُطْبة في الحرم المكِّي وهو ممتلئ بالطَّائفين يوم النَّحر كمثلها في أوقات السَّعة. 

مقترحات تعين على إقصار الخطبة
1. تصوُّر الموضوع تصوُّرًا صحيحًا، وذلك بجمع مادَّته قبل الكتابة وتقسيمها وترتيبها.

2. معرفة زمَن الخطبة بعدد الأوْراق التي يكتبها حسب إلقائه في العادة، فيحدّ نفسه بعدد من الصَّفحات يقصر عنْه لكن لا يتجاوزه إلاَّ لضرورة.

 3. إن اكتمل موضوعه وكانت الخطبة أقصرَ ممَّا اعتاد عليه، فليبقها كما هي عليه -إن لم يكن إقصارها مخلاًّ- ولا يلزم أن يَزيد أيَّ كلام ليصِل إلى الحدِّ الَّذي وضعه؛ لأنَّ الإقصار أصل شرْعي في الخطبة إذا لم يخلَّ بالموضوع.

4. تدعيم موضوع الخطبة بنصوص الكتاب والسنَّة، واختيار ما هو قطْعي الدلالة، فلا قول لأحد مع قول الله تعالى وقول رسوله صلَّى الله عليْه وسلَّم والخطيب يريد إقناع المنصتين لخطبته، وهم مؤمنون بالوحْي، فتدعيم الخطبة بالنصوص يكفي الخطيب مؤنة كلام كثير في الإقناع.

5. اختيار الكلِمات والجمل الجامعة والأمثال والِحكم، التي تغني عن كلام كثير، وقد أوتي النبي صلَّى الله عليْه وسلَّم جوامع الكلم.

6. اجتناب إطالة الوصْف بالجُمَل المترادفة التي تؤدِّي معنى واحدًا، وهي آفة كثير من الخُطَباء الَّذين يحبُّون السَّجع ويتكلفونه، إلاَّ إذا اقتضت الحاجة للوصف وذكر المترادف، كما لو أراد الخطيب استِدْرار عواطف المصلين في التَّذكير بالآخرة ونحو ذلك.

7. الاقتِصار على الشَّاهد من النص؛ فأحيانًا تكون الآية أو الحديث أو الأثر طويلًا، وموضع الشَّاهد منه قصيرًا جدًّا، فيورد الخطيب كلَّ الآية أو الحديث أو الأثر فيُطيل على الناس ويربك تركيزهم، وأحيانًا يسبق الحديث أو الأثر قصَّة لا علاقة لها بموضوع الخطبة فيسوقها الخطيب ولا داعي لها.

8. إذا تبيَّن للخطيب أنَّ الموضوع طويل فالحلّ هنا قسمته إلى عدَّة موضوعات بدل الإطالة، وقد سبق أن بيَّنت كيفيَّة ذلك في موضوعات سابقة.

9. الاكتفاء بذكر النَّصّ المستشْهد به -سواء كان آية أم حديثًا أم قولًا لأحد- عن ذكر معناه معه أو نتيجته، ومثال ذلك: بعض الخطباء في ذكر فضائِل الجمعة يقول: وفيها ساعة إجابة لا يوافقها عبدٌ مسلم يسأل الله تعالى شيئًا إلا أعطاه الله تعالى إيَّاه، وهي آخر ساعة من العصر؛ لما جاء في حديث، ثمَّ يسوق الحديث بتمامِه، فهنا صار تكرار لا داعي له، وكان بالإمكان أن يوجز العبارة بقوله: وفيها ساعة إجابة أخبر عنْها النَّبي صلَّى الله عليْه وسلَّم بقوله، وأقبح من ذلك أن يكرِّر في الكلام والأفكار لغير معنى يقتضي ذلك، كالتأكيد ونحوه.

10. إذا كان موضوع الخطبة عن طاعة قصَّر النَّاس فيها، أو معصية وقعوا فيها، أو مشكلة حدثتْ فيهم، ومعلوم أنَّ مثل ذلك: له أسباب وآثار وعلاج، وأحيانًا تكون الآثار دينيَّة ودنيويَّة وتكون طويلة، فلأجل الإقْصار وعدم الإطالة أقترح أن يفرد الأسباب في خُطبة، ويشير سريعًا للآثار والعلاج، ويضع أُخرى للآثار ويُشير فيها سريعًا للأسباب والعلاج، وثالثة للعلاج ويشير فيها للأسباب والآثار، ولاسيَّما في الموضوعات المهمَّة، فيعود بفوائد عدَّة، منها: عدم الإطالة، وإعطاء الموضوع حقَّه، وتكريره على النَّاس بأساليب مختلفة.

11. اجتِناب الشَّرح المملّ الَّذي لا داعي له، أو إيضاح ما هو واضح، أو الإطالة في تَخريج الأحاديث أو شرح الغريب؛ إذْ محلّ ذلك الدُّروس والبحوث لا الخطب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- (رواه مسلم [869]، والرواية الثانية لأبي داود [1106]). 
وجاء بنحوه بسندٍ ضعيف عن ابن مسعود رضي الله عنه، رواه البزار [1908]، وقال الهيثمي: رواه البزَّار وروى الطبراني بعضَه موقوفًا في الكبير، ورجال الموقوف ثقات وفي رجال البزَّار قيس بن الرَّبيع؛ وثَّقه شعبة والثوري وضعَّفه الناس؛ (مجمع الزوائد [2/190]). ونقل الشَّوكاني عن العراقي أنَّ وقْفه أوْلى بالصَّواب؛ (نيل الأوطار [3/331]).
[1]- (رواه أبو داود [5008]، وسنده ضعيف).
[2]- (رواه أبو داود [1096] وأحمد: [4/212]، وفي سنده شهاب بن خراش أبو الصلت مختلف فيه، ونقل الشوكاني تصحيح ابن خزيمة وابن السَّكن، وتحسين الحافظ للحديث، انظر: نيل الأوطار [3/330]).
[3]- عزاه الهيثمي في (مجمع الزوائد) للطَّبراني فقال: "رواه الطَّبراني في الكبير مِن رواية جميع بن ثوب وهو متروك: [2/190]، ونقل الشوكاني عن البخاري والدَّارقطني أنَّه منكر الحديث، وعن النَّسائي: مترك الحديث، نيل الأوطار: [3/331].
[4]- (انظر: بدائع الصنائع [1/263]، شرح الخرشي على مختصر خليل [2/82]، والأوسط لابن المنذر [4/60]، والكافي لابن قدامة [1/222]، والمغني [2/78]).
[5]- قال رحمه الله تعالى: "ولا تجوز إطالة الخطبة" (المحلى [5/60]).
[6]- (معرفة السنن والآثار [2/61]، وانظر: نهاية المحتاج [2/326]، وحاشية الجمل على شرح المنهج [2/35]).
[7]- وقد نشرت بعض الصُّحف المصريَّة أنَّ وزارة الأوقاف المصريَّة ألزمتِ الخطباء بأن لا يَزيدوا في خُطَبهم على (ثلث ساعة) وحقَّقت مع سبعة خُطباء لأنَّهم تَجاوزوا ذلك، وفي ظنِّي أنَّها أخطأت في التَّحديد، وفي إلزام الخطباء بما لم يرد، كما أنَّ الخطباء إن كان دأبُهم المشقَّة على الناس بالإطالة فقد أخطؤُوا.