شرح حديث: «ألا تستنصر لنا»
يقول الدكتور وجيه الشيمي: "في هذا الحديث استعمل النبيُّ صلى الله عليه وسلم التعليمَ بالحدَث؛ حيث يأتيه بعضُ أصحابه المعذَّبين والمضطهدين، فيطلبون منه أن يستعجلَ لهم النصرَ والخَلاص، فيبيِّن لهم أن المتمسِّكَ بدينه لا يتركُه أبدًا، وهذه أولُ فائدة نأخذها من هذا الحديث؛ وذلك أن القابضَ على دينه كالقابض على الجمر، لا يتركُه مهما تعرَّض للأذى".
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا؛ من يهدِه الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل، فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أمَّا بعدُ: فسأُقدِّم في هذا المقالِ شرحًا موجزًا لحديث: «ألا تستنصر لنا»، مستعرضًا قولَ كبارِ شُرَّاح الحديث.
أولاً نص الحديث:
قال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا محمَّد بن المثنى، حدثني يحيى، عن إسماعيل، حدثنا قيس، عن خبَّابِ بن الأرتِّ قال: "شكَوْنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّدٌ بردةً له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصرُ لنا، ألا تدعو الله لنا، قال: «كان الرجلُ في من قبلكم يُحفَرُ له في الأرض، فيُجعل فيه، فيُجاء بالمنشار، فيُوضَع على رأسِه، فيُشقُّ باثنتين، وما يصدُّه ذلك عن دينِه، ويُمشَط بأمشاطِ الحديد ما دون لحمِه من عَظْم أو عصَب، وما يصدُّه ذلك عن دينِه، والله ليُتمنَّ هذا الأمرَ حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا اللهَ أو الذئبَ على غنمِه، ولكنكم تستعجلون»".
معاني بعض الكلمات:
• متوسِّد: ملتفٌّ بثيابِه، أو عَباءته.
• تستنصرُ لنا: تطلب لنا النُّصرةَ من الله عن طريق الدعاء والابتهال.
قال ابن حجر: "إنَّ طلَبَ خباب الدعاءَ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم على الكفار، دالٌّ على أنهم كانوا قد اعتدَوا عليهم بالأذى ظلمًا وعدوانًا؛ قال ابن بطَّال: إنما لم يُجب النبيُّ صلى الله عليه وسلم سؤالَ خبَّاب ومن معه بالدعاء على الكفارِ مع قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وقوله: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43]؛ لأنه علِم أنه قد سبق القدرُ بما جرى عليهم من البَلوى؛ ليُؤجروا عليها كما جرت به عادةُ الله تعالى في مَن اتَّبع الأنبياء، فصبروا على الشدةِ في ذات الله، ثم كانت لهم العاقبةُ بالنصرِ، وجزيلِ الأجر، قال: فأما غيرُ الأنبياء، فواجبٌ عليهم الدعاءُ عند كل نازلةٍ؛ لأنهم لم يطَّلعوا على ما اطلع عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم" (انتهى ملخَّصًا).
وليس في الحديث تصريحٌ بأنه صلى الله عليه وسلم لم يدعُ لهم، بل يُحتمل أنه دعا، وإنما قال: «قد كان مَن قبلكم يؤخذ..» إلخ؛ تسليةً لهم، وإشارةً إلى الصبر حتى تتقضَّى المدةُ المقدورة، وإلى ذلك الإشارةُ بقوله في آخر الحديث: «ولكنَّكم تستعجلون».
وقوله في الحديث: «بالمِنْشار» بنون ساكنة، ثم شِين معجمة معروفٌ، وفي نسخة بياءٍ مثنَّاة من تحت بغير همزة بدل النون وهي لغة فيه، وقوله: «من دون لحمِه وعَظْمه»، وللأكثر: «ما» بدل: «من»، وقوله: «هو الأمر»؛ أي: الإسلام، قال ابن بطَّال: "أجمعوا على أن مَن أُكرِه على الكفر واختار القتلَ، أنه أعظمُ أجرًا عند الله ممن اختار الرُّخصة، وأما غيرُ الكفر، فإن أُكرِه على أكلِ الخنزير وشُرب الخمر مثلاً، فالفعل أَولى"، وقال بعضُ المالكية: "بل يأثم إن مُنع مِن أكل غيرها، فإنه يصير كالمضطر على أكل الميتة إذا خاف على نفسِه الموتَ، فلم يأكل".
يقول الدكتور وجيه الشيمي: "في هذا الحديث استعمل النبيُّ صلى الله عليه وسلم التعليمَ بالحدَث؛ حيث يأتيه بعضُ أصحابه المعذَّبين والمضطهدين، فيطلبون منه أن يستعجلَ لهم النصرَ والخَلاص، فيبيِّن لهم أن المتمسِّكَ بدينه لا يتركُه أبدًا، وهذه أولُ فائدة نأخذها من هذا الحديث؛ وذلك أن القابضَ على دينه كالقابض على الجمر، لا يتركُه مهما تعرَّض للأذى".
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثٌ مَن كنَّ فيه وجد حلاوةَ الإيمان؛ أن يكونَ اللهُ ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرءَ لا يحبُّه إلا لله، وأن يكرهَ أن يعودَ في الكفر كما يكره أن يُقذَفَ في النار»، وقصة خبَّاب هذه توضِّح لنا تحمُّلَ أصحاب النبي الأذى والاضطهادَ في البدايات الأُولى للدعوة الإسلامية؛ ليعلمَ الخلَفُ أن هذا الدينَ إنما جاء إلينا بجهدٍ واجتهادٍ وصبر ومثابرة من السلف".
وقد ذكر أصحاب السِّيَر جُملاً من ألوان العذابِ التي تعرَّض لها الرعيلُ الأول من الصحابة؛ أمثال: (بلال بن رباح، وعمَّار بن ياسر، وخبَّاب بن الأرتِّ، وخُبيب بن عَديٍّ).
قال ابنُ إسحاق:
وحدثني حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير، قال: "قلتُ لعبد الله بن عباس أكان المشركون يبلُغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذابِ ما يُعْذَرون به في تركِ دينهم؟ قال نعم والله! إن كانوا ليَضربون أحدَهم ويُجيعونه ويعطِّشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسًا من شدة الضُّرِّ الذي نزل به، حتى يعطيَهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له: اللاتُ والعزى إلَهَانِ من دون الله؟ فيقول نعم! افتداءً منهم بما يبلغون من جهدهم".
قلت: وفي مثل هذا أنزل الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106]، فهؤلاء كانوا معذورين بما حصَل لهم من الإهانةِ والعذاب البليغ، أجارنا اللهُ من ذلك بحولِه وقوَّته.
وقال الإمام أحمد: "حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمشُ عن مسلم، عن مسروق، عن خبَّاب بن الأرتِّ قال: كنت رجلاً قَيْنًا وكان لي على العاص بن وائل دَين، فأتيتُه أتقاضاه، فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفرَ بمحمَّد، فقلتُ: لا والله لا أكفرُ بمحمد حتى تموتَ، ثم تُبعث" (البداية والنهاية لابن كثير)،
يقول الدكتور وجيه الشيمي: "الفائدة الثانية التي نأخذُها من هذا الحديث: (اليقينُ) الذي أراد النبيُّ أن يعلمه لأصحابه، وأن اللهَ سيتم هذا الأمرَ، ولو كرِه الكافرون، قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8]، وقال أيضًا: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55].
وفي غزوة الأحزاب لَمَّا عرَضتْ لهم صخرةٌ عظيمة في الخندق وهم يحفرونه، استدعَوا رسولَ الله فأخذ يفتِّتها بفأسه وهو يكبِّر كلما تفتَّت جزء، ويبشر أصحابَه بفتح بلاد فارس والروم وصنعاء، هذا كلُّه ليغرس في نفوسهم الثقةَ بنصر الله لهم، وهذا الذي قصده في حديث خبَّاب وأكَّده بالقَسم.
والفائدة الثالثة: وهي أن النبيَّ لم يدعُ لخبَّاب وأصحابه، ولعل ذلك يرجعُ إلى أنه أراد أن يعوِّدهم على الصبر، فلا يستعجلوا النصرَ، أو أنه كان يدعو لهم في غَيبتِهم".
محمود حسن عمر
- التصنيف:
- المصدر: