وقفة مع الإجازة الصيفية

منذ 2014-05-30

فالحاصل أن الترويح عن النفس مطلبٌ شرعي حتى يعود للنفس نشاطها ويستمر عطائها، ولكن مع الأسف الشديد أن كثيرًا من الناس استغل وقت الإجازة أسوأ استغلال وظن أن الإجازة هي التفلت من الواجبات الدينية والدنيوية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله الذي جعل الدنيا دار ابتلاءٍ وامتحان والآخرة دار قرار وجزاء وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً ندخرها ليومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمةً للعالمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

 

عباد الله: فبعد عام من الكفاح والجد والاجتهاد أقبلت الإجازة الصيفية لتحمل في طياتها معانٍ كثيرةٍ وأحداثٍ مثيرة ودروسٍ وعبر وتأملٍ وفكر. إنها أيامٌ مضت وليالٍ انقضت، طويت صفحاتها وتصرمت ساعاتها. باء فيها الكسالى اللاهون بالخيبة والخسارة والحسرة والندامة، واستبشر المجدون بالنصر والسلامة والفوز والكرامة. إنها عظةٌ وعبرةٌ للمعتبرين الذين يقرنون بين الحياتين، فأيام الدراسة كأيام الحياة فكما انقضت أيام الدراسة ستنقضي أيام الحياة، وكما يحتاج الطالب للجد والمذاكرة للنجاح في حياته الدراسية يحتاج المؤمن للجد والاجتهاد والصبر على أوامر الله والكف عن محارم الله.

 

وساعات الاختبار تذكرنا بساعة الاحتضار إذ هو الاختبار النهائي في هذه الحياة فناطقٌ بالشهادتين ومحرومٌ منهما أو قائلٌ بضدهما. ثم النتائج في الدار الآخرة. فيا فوز العاملين المجدين حين يأخذون صحائفهم باليمين لينطلقوا مستبشرين مبشرين ويقال ادخلوا الجنة بسلامٍ آمنين حيث مجالس الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين. ويا خيبة الكسالى المفرطين اللاهين المذنبين حين يأخذون صحائفهم بالشمال ويقال هلموا إلى دار المذلة والهوان حيث الحميم والغساق والغسلين ومردة الإنس والشياطين.

 

لا دار للمرء بعد الموت يسكنها *** إلا التي كان قبل الموت يبنيها

فإن بناها بخيرٍ طاب مسكنه *** وإن بناها بشرٍ خاب بانيها

 

أيها الأحبة الكرام: لقد جاء الإسلام بالحث على الجد والاجتهاد وبذل الأسباب لتحصيل سعادة الدارين، ولمَّا كان الشرع منزلاً من لدن حكيمٍ عليم، عالم بطبيعة النفس البشرية وما تحمله من ضعفٍ وحاجةٍ إلى الراحة وما تحمله من كلالة العمل وسآمة الروتين، جعل لها حقًا في الراحة واجبًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لنفسك عليك حقًا» (صحيح الترمذي:2413) لأن النفس تمل فتحتاج إلى وقتٍ أطول في الراحة وإنما راحتها بالترويح والممازحة واللعب الذي لا يخرج عن حدود الحشمة والرجولة كالسباحة والرماية وركوب الخيل والمسابقات وغيرها.

 

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم على جلالة قدره وعظم منزلته يسابق زوجاته ويمازح أصحابه، ومن ذلك ما روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت مع رسول الله وأنا خفيفة اللحم، فنزلنا منزلاً، فقال لأصحابه: «تقدموا»، ثم قال لي: «تعالَي حتى أسابِقكِ» فسابقني، فسبقته، ثم خرجت معه في سفر آخر، وقد حملتُ اللحم، فنزلنا منزلاً، فقال لأصحابه: «تقدموا»، ثم قال لي: «تعالَي أسابقك» فسابقني، فسبقني، فضرب بيده كتفي، وقال: «هذه بتلك» (رواه أبو داود والنسائي وغيرهما).

 

ومن ذلك أنه عليه الصلاة والسلام التزم أحد أصحابه من خلفه وهو يبيع متاعه فقال: «من يشتري العبد؟» فقال: إذًا تجدني كاسدًا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لكن عند الله لست بكاسد» (صححه الألباني).

 

فالحاصل أن الترويح عن النفس مطلبٌ شرعي حتى يعود للنفس نشاطها ويستمر عطائها، ولكن مع الأسف الشديد أن كثيرًا من الناس استغل وقت الإجازة أسوأ استغلال وظن أن الإجازة هي التفلت من الواجبات الدينية والدنيوية فأضاع نفسه وأهله وأولاده وربما ترك الفرائض والواجبات وفعل الفواحش والمنكرات وضيع الأمانات وأغضب رب الأرض والسماوات، بحثًا عن قضاء الأوقات في المتعة والسعادة بزعمه، وأي سعادة يرجوها من يواقع الفجور ويمارس الشرور ويرتكب المحظور، كيف يذوق لذة الحياة من ركب هواه وتمرد على مولاه؛ قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124].

 

وإن الناس في هذه الإجازة على أقسام:

فمنهم من يسافر إلى بلاد الكفار ويوقع نفسه في الأخطار وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين» (صحيح الجامع:1461).

 

ومنهم من يسافر إلى بلادٍ اشتهرت بالخنا والزنا والفجور فيعرّض نفسه وأهله للفتن وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتجنب مواطن الفتن كالأسواق وغيرها فكيف بتلك المواطن وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن السعيد لمن جنب الفتن» قالها ثلاثًا، ثم قال: «ولمن ابتلي فصبر فواها» (السلسلة الصحيحة: 2/667). كلمة ثناء لمن صبر عن محارم الله فغض بصره وكف سمعه وصان فرجه وحفظ قلبه وعقله، فهذا جاءته الفتنة إلى عنده فصبر عنها فكيف بمن يبحثون عنها.

 

ومنهم من يسافر ويترك أهله وأولاده بلا رقيب ولا حسيب فيضيعون في الشوارع والأسواق، وربما ترك بعضهم والديه وهم في أمس الحاجة إليه، ومنهم من يسافر لا لشيء ولكن ليقال فلانٌ وصل إلى بلاد كذا وكذا رياءً وسمعة وربما تحمَّل من الديون لأجل ذلك، وربما رجع بعضهم محمولاً في تابوت بعد أن قضى أسوأ أيام عمره في معاصي الله فمات بعضهم والعياذ بالله في أحضان العاهرات، وبعضهم من حقن المخدرات، وبعضهم في المراقص والبارات فرجع يجر العار والنار في الدنيا والآخرة، فأي إجازةٍ قضوا، وأي سعادةٍ حصَّلوا، أما يخشى أحدهم أن يخسف الله به الأرض وهو في تلك المواطن الخبيثة أو تصيبهم الزلازل فينهدم عليهم السقف من فوقهم أو تبتلعهم الأرض من تحتهم أو يمسخهم الله قردةً وخنازير، وهو حاصلٌ في عصاة هذه الأمة لا محالة كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بقوله: «ليكونن في هذه الأمة خسفٌ ومسخٌ وقذفٌ»، فقال رجل: متى ذلك يا رسول الله؟ قال: «إذا ظهرت القيان والمعازف وشربت الخمور» (صحيح الترمذي:2212).

 

وفي البخاري أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «ليكوننَّ من أُمَّتي أقوام يَستحلُّونَ الْحِرَ والحَريرَ والخمر والمعازِف، ولينزِلنَّ أقوام إلى جَنبِ عَلم يَروحُ عليهم بسارحةٍ لهم، يأتيهم يعني الفقيرَ لحاجة فيقولوا: ارجِعْ إلينا غَدًا فيُبيِّتُهمُ الله، ويَضَع العَلَمَ، ويَمسَخُ آخرينَ قِرَدةً وخنازيرَ إلى يوم القيامة» (البخاري:5590). وعن أبي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أَنه قالَ: «لَيَشْرَبَنَّ أناسٌ من أُمَّتِي الخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بغيرِ اسْمِهَا، وتُضْرَبُ عَلَى رُءُوسِهِمْ المَعَازِفُ، يَخْسِفُ الله بِهِمُ الأرضَ، ويَجْعَلُ مِنْهُمْ قِرَدةً وخنازيرَ» (رواه بن ماجة وبن حبان، وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم:5454).

 

وبعضهم يقضي وقته في تقليب القنوات الفضائية والإنترنت بحثًا عن التحلل والعري وربما تخفى عن أعين الناس في غرفةٍ أو نحوها وجعل ربه أهون الناظرين إليه كما قال تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء:108].

 

وقسم أضاعوا أوقاتهم في التسكع في الشوارع وعلى الشواطئ والأسواق دون هدفٍ أو غاية أو ربما للمعاكسات والتفحيط فآذوا الناس، وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب:58]. وبالجملة فالكثير من الناس قد استغل الإجازة فيما لا نفع فيه هذا إن نسلم من الوقوع في المحرمات.

 

وقسم وهم كثيرٌ ولله الحمد قد استغل الإجازة فيما ينفعه في دينه وديناه؛ فوصل رحمه، وبر والديه، وزار أقربائه وأصدقائه من أهل الخير، وربما زار الحرمين وأدى العمرة، أو سافر ليدعو إلى الله أو يستزيد علمًا أو يعلم جاهلًا أو ينفع نفسه وإخوانه والمسلمين، أو زار الأماكن السياحية والترفيهية التي لا يوجد فيها منكرات بقصد الترفيه عن الأهل والأولاد. وبلادنا تزخر بمثل هذه الأماكن التي تستريح فيها النفس ويأمن فيها الإنسان على نفسه وعرضه ويسلم من الوقوع في الشر والآثام، وإن السعيد لمن جُنب الفتن.

 

أيها الأحبة الكرام: إن وقت المسلم ثمين فينبغي أن لا يضيع منه ساعة فيما لا ينفعه في دينه أو دنياه وليعلم المؤمن أنه مسؤول عن من يعوله من أهله وذريته ولذلك فينبغي أن يجلس مع نفسه ومع أهله ساعةً يخططون فيما سوف يقضون فيه إجازتهم وكيف يستثمرون وقت الإجازة فيما يعود عليهم وعلى أبنائهم ومجتمعهم بالنفع. وهنا نذكر بعض الأمور التي يمكن أن تستغل فيها الإجازة وتكون نافعة بإذن الله فمن ذلك:

 

أولاً: زيارة الأقارب والأرحام وخاصة الوالدين والأجداد والأعمام والأخوال وذرياتهم وبقية الأقارب وهي واجبة، والقطيعة محرمة ومن كبائر الذنوب.

ثانيًا: زيارة الحرمين لأداء العمرة والصلاة فإن ذلك يجمع بين العبادة والترويح والنزهة.

ثالثاً: السفر إلى الأماكن السياحية والمصائف التي لا يوجد فيها منكرات وبلادنا مليئة بمثل ذلك.

رابعًا: استغلال الإجازة في طلب علم نافع دينيٍ أو دنيوي وتعقد في بلادنا كثير من الدورات في العلوم الشرعية والحاسب واللغة وغيرها من العلوم التي يحسن قضاء الوقت في تحصيلها.

خامسًا: تسجيل الأبناء في المراكز الصيفية والأندية المأمونة النافعة فإن ذلك يملأ وقتهم فإن الفراغ له مفاسد وفي ذلك يقول الشاعر:

إن الفراغ والشباب والجدة *** مفسدة للمرء أي مفسدة

سادسًا: وهو الأهم من كل ذلك أن تستغل الإجازة في الإكثار من العبادات كالصيام والقيام وقراءة القران ونحوها وخاصة مع قرب شهر رمضان المبارك، وإن الإنسان قد لا يستطيع مثل ذلك في أيام العمل لكثرة الأشغال ومشقة الجمع بين العمل ونوافل العبادات فيستريح في الإجازة بأداء العبادات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أرحنا بها يا بلال» أي بالصلاة؛ فالعبادة راحة للنفس وطمأنينة للبال على أن لا يضيع حق نفسه وأهله بالترويح واللعب المباح كما تقدم.

 

هذا ما تيسر ذكره على عجل وأسأل الله أن ينفع به، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.

 

سرحان بن غزاي العتيبي

  • 2
  • 0
  • 2,922

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً