من فضائل الصحابة وأقوال المنصفين فيهم عمومًاً وفي معاوية خصوصًا

منذ 2014-06-08

كل ناصح لنفسه محب الخير لها عليه أن يمتلئ قلبه بحبهم وتعظيمهم التعظيم اللائق بهم، وأن يكون لسانه رطبًاً بذكرهم بالجميل اللائق بهم، فلا يذكرهم إلا بخير، وأن يحذر من ذكرهم بأي شيء لا يليق بهم مع نظافة قلبه من الغل لهم، وهذه طريقة سلف هذه الأمة من التابعين ومن جاء بعدهم..

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد، فإن من المعلوم أن خير البشر الأنبياء والمرسلون صلوات الله وسلامه وبركاته عليهم، وخيرهم وسيدهم خاتمهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وأمته هي خير الأمم، كما قال الله عز وجل: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} [آل عمران: ١١٠]. 

وخير هذه الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيرهم الخلفاء الراشدون الهادون المهديون: 
(أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي)، رضي الله عنهم أجمعين، فقد أكرمهم الله بالوجود في زمانه، وشرفهم بصحبته والجهاد معه، وتلقي الكتاب والسنة عنه صلى الله عليه وسلم، وإبلاغهما إلى من بعدهم. 

ومن فضائلهم حديث: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» (رواه البخاري (3651)، ومسلم (6472) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ورواه البخاري (3650) ومسلم (6475) عن عمران بن حصين رضي الله عنه، ورواه مسلم (6478) عن عائشة رضي الله عنها، ورواه مسلم (6473) عن أبي هريرة رضي الله عنه).

وقوله صلى الله عليه وسلم: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: فِيكُمْ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ، ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ صَحِبَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ، ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ صَحِبَ مَنْ صَحِبَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ فَيُفْتَحُ لَهُمْ» (رواه البخاري (3649)، ومسلم (6467) عن أبي سعيد رضي الله عنه). 

والقرون الثلاثة المفضلة: قرون الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، فالصحابة رضي الله عنهم رأت عيونهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعون رحمهم الله رأوا العيون التي رأته صلى الله عليه وسلم، وأتباع التابعين رحمهم الله رأوا العيون التي رأت الصحابة رضي الله عنهم، وقد كان التابعون يفرحون فرحًاً شديدًاً بلقاء الواحد من الصحابة ويعتبرون ذلك غنيمة، ففي سنن أبي داود (948) بإسناد صحيح عَنْ هِلالِ بْنِ يَسَافٍ، قَالَ: 
«قَدِمْتُ الرَّقَّةَ، فَقَالَ لِي بَعْضُ أَصْحَابِي: هَلْ لَكَ فِي رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: قُلْتُ: غَنِيمَةٌ، فَدَفَعْنَا إِلَى وَابِصَةَ، قُلْتُ لِصَاحِبِي: نَبْدَأُ فَنَنْظُرُ إِلَى دَلِّهِ، فَإِذَا عَلَيْهِ قَلَنْسُوَةٌ لاطِئَةٌ ذَاتُ أُذُنَيْنِ، وَبُرْنُسُ خَزٍّ أَغْبَرُ، وَإِذَا هُوَ مُعْتَمِدٌ عَلَى عَصًا فِي صَلاتِهِ» (الحديث) 

ووابصة بن معبد رضي الله عنه من المعمرين كما في تقريب التهذيب لابن حجر، وقد جاء في القرأن الكريم آيات دالة على فضل الصحابة رضي الله عنهم، في سور الأنفال والتوبة والفتح والحديد والحشر، بل جاء في آية سورة الفتح ذكرهم والثناء عليهم في التوارة والإنجيل قبل أن يوجدوا وقبل أن يأتي زمانهم، قال الله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْانْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29].   

وفيها أن الكفار يغاظون بهم، وفي شرح السنة للبغوي (1/229): (وذكر بين يديه -أي الإمام مالك- رجل ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ مالك هذه الآية:
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} إلى قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}، ثم قال: من أصبح من الناس في قلبه غل على أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أصابته هذه الآية، وفيها أن الصحابة جميعًاً وعدوا بالمغفرة والأجر العظيم، وحرف (مِن) في قوله: {مِنْهُمْ} لبيان الجنس لا للتبعيض. 

والمراد أن هذا الوعد في هذه الآية لجميع الصحابة وليس لبعضهم، وقد وصف ابن الأنباري الذين قالوا: "إنها للتبعيض بالزندقة"، قال ابن هشام في مغني اللبيب (2/15): "وفي كتاب المصاحف لابن الأنباري: أن بعض الزنادقة تمسك بقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً}، في الطعن على بعض الصحابة، والحق أن مِن فيها للتبيين لا للتبعيض أي الذين آمنوا هم هؤلاء".

وهذه الآية التي فيها {مِنْهُمْ} تعم الصحابة الأخيار مثلها آية المائدة التي فيها {مِنْهُمْ} وهي تعم الأشرار، قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إن اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ الَهٍ الَّا الَهٌ وَاحِدٌ وَانْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:73].
  
فإن الوعد في آية الفتح للصحابة كلهم لا لبعضهم، والوعيد في آية المائدة لكل من قال: {إن اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} لبعضهم، ومن أجلّ فضائل الصحابة الكرام رضي الله عنهم أنهم الواسطة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين من جاء بعدهم، فما عرف الناس الكتاب والسنة ولا عرفوا حقًاً ولا هدى إلا من طريقهم، وكل صحابي روى حديثًاً عن النبي صلى الله عليه وسلم فله مثل أجور كل من عمل به إلى يوم القيامة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ» (رواه مسلم (4899) عن أبي مسعود الأنصاري البدري رضي الله عنه).

وقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» (رواه مسلم (6804) عن أبي هريرة رضي الله عنه).


وكل ناصح لنفسه محب الخير لها عليه أن يمتلئ قلبه بحبهم وتعظيمهم التعظيم اللائق بهم، وأن يكون لسانه رطبًاً بذكرهم بالجميل اللائق بهم، فلا يذكرهم إلا بخير، وأن يحذر من ذكرهم بأي شيء لا يليق بهم مع نظافة قلبه من الغل لهم، وهذه طريقة سلف هذه الأمة من التابعين ومن جاء بعدهم، وهذه نماذج من كلامهم الجميل:

1ـ الإمام مالك بن أنس (179هـ) رحمه الله، قال البغوي في شرح السنة (1/229): "قال مالك: مَن يبغض أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان في قلبه عليه غِلٌّ فليس له حقٌّ في فَيءِ المسلمين، ثم قرأ قولَه سبحانه وتعالى: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }" [ الحشر:7].


2ـ الإمام أحمد بن حنبل (241هـ) رحمه الله، قال في كتابه السنة: "ومن السنَّة ذكرُ محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلِّهم أجمعين، والكفّ عن الذي جرى بينهم، فمَن سبَّ أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أو واحدًاً منهم فهو مبتدعٌ رافضيٌّ، حبُّهم سنَّةٌ، والدعاءُ لهم قربةٌ، والاقتداءُ بهم وسيلةٌ، والأخذُ بأثارهم فضيلةٌ"، وقال: "لا يجوز لأحدٍ أن يذكر شيئًا من مساوئهم ولا يطعن على أحدٍ منهم فمَن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبُه وعقوبتُه ليس له أن يعفوَ عنه بل يعاقبُه ثمَّ يستتيبُه فإن تاب قبِلَ منه وإن لَم يتب أعاد عليه العقوبة وخلَّده في الحبس حتى يتوب ويراجع".


3ـ الإمام أبو زرعة الرازي (264هـ) رحمه الله، روى الخطيبُ البغدادي في كتابه الكفاية (ص:49) بإسناده إليه قال: "إذا رأيت الرجلَ ينتقصُ أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنَّه زنديقٌ، وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا حقٌّ والقرأن حقٌّ، وإنَّما أدَّى إلينا هذا القرأنَ والسننَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنَّما يريدون أن يجرحوا شهودَنا ليُبطلوا الكتاب والسنة، والجرحُ بهم أولى وهم زنادقةٌ".

4ـ الإمام أبو جعفر الطحاوي (322هـ) رحمه الله: 
قال في عقيدة أهل السنة والجماعة: "ونحبُّ أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حبِّ أحدٍ منهم، ولا نتبرَّأ من أحدٍ منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخيرٍ، وحبُّهم دينٌ وإيمانٌ وإحسانٌ، وبغضُهم كفرٌ ونفاقٌ وطغيانٌ".

5ـ الإمام ابن أبي زيد القيرواني (386هـ) رحمه الله، قال في مقدَّمة رسالته: "وأنَّ خيرَ القرون القرنُ الذين رأوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به، ثمَّ الذين يلونهم، ثمَّ الذين يلونهم، وأفضل الصحابة الخلفاءُ الراشدون المهديّون: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم أجمعين، وأن لا يُذكر أحدٌ من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بأحسن ذكرٍ، والإمساك عمَّا شجر بينهم، وأنَّهم أحقُّ الناس أن يُلتمس لهم أحسن المخارج، ويُظنَّ بهم أحسنَ المذاهب"، وقد شرحت هذه المقدمة برسالة بعنوان: (قطف الجنى الداني شرح مقدِّمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني) طبعت مفردة وطبعت ضمن مجموع كتبي ورسائلي 4/7ـ189 .

6ـ الإمام أبو عثمان الصابوني (449هـ) رحمه الله، قال في كتابه عقيدة السلف وأصحاب الحديث: "ويَرون الكفَّ عمَّا شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمَّن عيباً لهم أو نقصاً فيهم ويرون التَّرحُّم على جميعهم والموالاة لكافَّتهم".

7ـ الإمام أبو المظفَّر السمعاني (489هـ) رحمه الله، نقل الحافظ في الفتح (4/365) عنه أنَّه قال: "التعرُّضُ إلى جانب الصحابة علامةٌ على خذلان فاعله، بل هو بدعةٌ وضلالةٌ".

8ـ شيخ الإسلام ابن تيمية (728هـ) رحمه الله، قال في كتابه العقيدة الواسطية: "ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفهم الله في قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِاخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإيمان وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا انَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [الحشر:10]، وطاعة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم في قوله: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» (متفق عليه).

9ـ الشيخ ابن أبي العزّ الحنفي (792هـ) رحمه الله، قال في شرح الطحاوية (ص:696): "فمن أضلُّ مِمَّن يكون في قلبه غلٌّ على خيار المؤمنين وسادات أولياء الله تعالى بعد النبيِّين، بل قد فضَلهم اليهودُ والنصارى بخصلة، قيل لليهود مَن خيرُ أهل ملَّتكم؟ قالوا: "أصحابُ موسى"، وقيل للنصارى: من خير أهل ملَّتكم؟ فقالوا: "أصحابُ عيسى"، وقيل للرافضة من شرُّ أهل ملَّتكم؟ فقالوا: أصحابُ محمد"، ولم يستثنوا منهم إلا القليل، وفيمن سبّوهم من هو خير مِمَّن استثنوهم بأضعافٍ مضاعفةٍ".

وهذا المعنى جاء في شعر أحد علمائهم بين القرن الثاني عشر والثالث عشر الهجري، وهو كاظم الأزري، فقال:

أهم خير أمة أخرجت للنا س *** هيهات ذاك بل أشقاها!


وقفتُ عليه في نقد الأستاذ محمود الملاح لقصيدته الأزرية المطبوع بعنوان: (الرزيّة في القصيدة الأزرية) (ص:51). وما جاء في هذا البيت غايةٌ في الجفاء والخبث، ومثله في الغلوِّ في أمير المؤمنين علي رضي الله عنه والجفاء في الصحابة قوله (ص:45).

أَنَبِيٌّ بلا وَصِيٍّ؟! تعالى الله عمَّا يقوله سفهاها

ومن غلوِّه في علي رضي الله عنه قوله كما في (ص:34):

 

وهو الآيةُ المحيطة في الكو ن *** ففي عين كل شيء تراها

 

وقوله كما في (ص:36):

ورأت قسوراً لو اعترضته الـ *** إنسُ والجنُّ في وغى أفناها


والبيتان الأخيران يصدق عليهما الوصف المشهور: يُضحك النمل في قراها، والنحل في خلاياها!
10ـ الحافظ ابن حجر العسقلاني (852هـ) رحمه الله، قال في كتابه فتح الباري (13/34): "واتّفق أهلُ السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من حروبٍ ولو عُرف المحقُّ منهم، لأنَّهم لَم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهادٍ، وقد عفا اللهُ تعالى عن المخطئ في الاجتهاد، بل ثبت أنَّه يؤجر أجرًاً واحدًا وأنَّ المصيبَ يؤجر أجرين".

وكل ما جاء من أحاديث وأثار في فضل الصحابة عمومًاً فإن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما داخل فيها، وقد جاء عن بعض السلف أثار مختصة به، وهذه نماذج منها:

1ـ الخليفة عمر بن عبد العزيز (101هـ) رحمه الله، قال إبراهيم بن ميسرة: "ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنسانًا قط إلا إنسانًا شتم معاوية فإنه ضربه أسواطًا"، البداية والنهاية لابن كثير (11/450ـ451).
2ـ الإمام عبد الله بن المبارك (181هـ) رحمه الله، قال: "معاوية عندنا مِحْنة، فمن رأيناه ينظر إليه شزَرًا اتهمناه على القوم -يعني الصحابة-". 

وسئل عن معاوية، فقال: "ما أقول في رجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سمع الله لمن حمده)، فقال خلفه: ربنا ولك الحمد، فقيل: أيهما أفضل هو أم عمر بن عبد العزيز؟ فقال: لتراب في منخري معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير وأفضل من عمر بن عبد العزيز" (البداية والنهاية:11/449).

3ـ المعافى بن عمران الموصلي (185هـ) رحمه الله، قال وقد سئل: أيهما أفضل معاوية أم عمر بن عبد العزيز؟ فغضب، وقال للسائل: "تجعل رجلًا من الصحابة مثل رجل من التابعين، معاوية صاحبه وصهره وكاتبه وأمينه على وحي الله" البداية والنهاية (11/450).

4ـ الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، قال الفضل بن زياد: "سمعت أبا عبد الله وسئل عن رجل انتقص معاوية وعمرو بن العاص، أيقال له رافضي؟ فقال: "إنه لم يجترئ عليهما إلا وله خبيئة سوء، ما انتقص أحد أحدًا من الصحابة إلا وله داخلة سوء" (البداية والنهاية:11/450).

5ـ أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي (241هـ) رحمه الله، قال: "معاوية ستر لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه" (البداية والنهاية:11/450).

6-الإمام أبو زرعة الرازي رحمه الله، قال له رجل: "إني أبغض معاوية"، فقال له: "ولِمَ"، قال: "لأنه قاتل عليًاً"، فقال له أبو زرعة: "ويحك إن رب معاوية رب رحيم وخصم معاوية خصم كريم، فأيش دخولك أنت بينهما"؟! رضي الله عنهما البداية والنهاية (11/427).

7ـ الإمام أبو عبد الرحمن النسائي (303هـ) رحمه الله، قال كما في ترجمته في تهذيب الكمال للمزي، وقد سئل عن معاوية فقال: "إنما الإسلام كدارٍ لها بابٌ، فبابُ الإسلام الصحابة، فمن آذى الصحابةَ إنما أرادَ الإسلام، كمن نَقرَ البابَ إنما يريدُ دخولَ الدارقال: فمن أراد معاويةَ فإنما أراد الصحابة".

8ـ الإمام ابن قدامة المقدسي (620هـ) رحمه الله، قال في كتابه لمعة الاعتقاد: "ومعاوية خال المؤمنين وكاتب وحي الله وأحد خلفاء المسلمين رضي الله عنه".


9ـ الإمام الحافظ الذهبي (748هـ) رحمه الله، قال في كتابه سير أعلام النبلاء (3/120): "أمير المؤمنين ملك الإسلام".


10ـ الشيخ ابن أبي العز الحنفي رحمه الله، قال في كتابه شرح العقيدة الطحاوية (ص722): "وأول ملوك المسلمين معاوية وهو خير ملوك المسلمين"، ولمعاوية رضي الله عنه في الكتب الستة كما في خلاصة تذه?ب تهذيب الكمال للخزرجي مائة وثلاثون حديثًا اتفق البخاري ومسلم على أربعة وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بخمسة.

وقد ورد في صحيح مسلم (6628) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في معاوية: «لا أشبع الله بطنه»، فروى بسنده إلى ابن عباس قال: "كنت ألعب مع الصبيان، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواريت خلف الباب"، قال: "فجاء فحطأني حطأة" وقال: «اذهب وادع لي معاوية»، قال: "فجئت فقلت: هو يأكل"، ثم قال: «اذهب فادع لي معاوية»، قال: "فجئت فقلت: هو يأكل"، فقال: «لا أشبع الله بطنه». 

ومعنى حطأني حطأة: ضرب بيده بين كتفي، وقد ختم مسلم رحمه الله بهذا الحديث الأحاديث الواردة في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل ما صدر منه من سب ودعاء على أحد ليس هو أهلًا لذلك أن يجعله له زكاة وأجرًا ورحمة، وذلك كقوله: "تربت يمينك، وثكلتك أمك، وعقرى حلقى، ولا كبرت سنك". 

فقد أورد في صحيحه عدّة أحاديث، أحدها هذا الحديث، وقبله حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كانت عند أم سليم يتيمة، وأم سليم هي أم أنس، فرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أنت هي لقد كبرتِ لا كبر سنّك، فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكي، فقالت لها أم سليم: ما لك يا بنية؟ فقالت الجارية: دعا عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يكبر سنّي، فالأن لا يكبر سني أبدًاً، أو قالت قرني، فخرجت أم سليم مستعجلة تلوث خمارها، حتى لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك يا أم سليم؟ قالت: يا نبي الله، أدعوت على يتيمتي؟ قال: وما ذاك يا أم سليم؟ قالت: زَعَمَتْ أنك دعوت عليها أن لا يكبر سنها ولا يكبر قرنها، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا أم سليم، أما تعلمين أن شرطي على ربي أني اشترطت على ربي فقلت: إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن يجعلها له طهورًا وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة». 

وعقب هذا الحديث مباشرة أورد مسلم رحمه الله الحديث الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في معاوية: «لا أشبع الله بطنه»، وهذا من حسن صنيع مسلم رحمه الله وجودة ترتيبه لصحيحه، وهو من دقيق فهمه، وحسن استنباطه رحمه الله. 

وقد قال النووي رحمه الله في شرحه (16/156): "وقد فهم مسلم رحمه الله من هذا الحديث أن معاوية لم يكن مستحقًا للدعاء عليه، فلهذا أدخله في هذا الباب، وجعله غيره من مناقب معاوية"، يعني وجعله غير مسلم من مناقب معاوية، لأنه يصير في الحقيقة دعاءً له.

وقد كتبت رسالة بعنوان: (عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم) طبعت مفردة وطبعت ضمن مجموع كتبي ورسائلي (4/191ـ205)، ورسالة بعنوان: (من أقوال المنصفين في الصحابي الخليفة معاوية رضي الله عنه) طبعت مفردة وطبعت ضمن مجموع كتبي ورسائلي (6/397)ـ424.


ومن الذين ولغوا في أعراض الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم زنديق من الرافضة يقال له: (ياسر الحبيب)، وهو في الحقيقة (عاسر بغيض)، وزنديق ينتسب إلى أهل السنة كذباً وزوراً وهو: (حسن فرحان المالكي)، وقد كتبت رسالة في الرد على العاسر البغيض بعنوان: (أغلوٌّ في بعض القرابة وجفاء في الأنبياء والصحابة؟!) طبعت مفردة وطبعت ضمن مجموع كتبي ورسائلي (7/7ـ31). 

وهي رد على كلام له في غاية الخبث والسوء والقبح، زعم فيه أن (أبا بكر وعمر) رضي الله عنهما هما أسوأ مخلوقين في الكون منذ بدء الخليقة، وأنهما يعذبان في جهنم أشد من عذاب إبليس فيها، وزعم أن (إبراهيم الخليل) ومن دونه من الأنبياء في الفضل أنزل درجة من الأئمة الإثني عشر عندهم.

وكتبت رسالتين في الرد على حسن فرحان المالكي: إحداهما بعنوان: (الانتصار للصحابة الأخيار في ردِّ أباطيل حسن المالكي)، والثانية بعنوان: (الانتصار لأهل السنَّة والحديث في ردِّ أباطيل حسن المالكي) طبعتا مفردتين وطبعتا ضمن مجموع كتبي ورسائلي (7/33ـ393). 

ومن يطلع على هاتين الرسالتين يعرف زندقة (حسن المالكي) بل يكفي في ذلك الاطلاع على المقدمة والفهارس لهما، ومن أباطيله: زعمه أن (العباس وابنه عبد الله وخالد بن الوليد ومعاوية وعمرو بن العاص) وأمثالهم من أسلم بعد الحديبية رضي الله عنهم ليسوا من الصحابة الصحبة الشرعية وأن صحبتهم لغوية كصحبة المنافقين والكفار، وقد ألحق بهم (المغيرة بن شعبة) رضي الله عنه لحقده عليه، وهو ممن شهد الحديبية، بل هو القائم على رأس الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه السيف يحرسه، وهو داخل تحت قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ اذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]، وقصر الصحبة على الذين أسلموا قبل الحديبية من محدثات القرن الخامس عشر. 

وكتبت عنه أيضاً كلمة بعنوان: (أفعى تعود إلى رفع رأسها من جديد لنفث سمومها) نشرت في 15/1/1431هـ.
وإن مما يؤسف له أن بعض القنوات والصحف تبث وتنشر كلامًاً ساقطًاً لبعض المتكلفين في النيل من أمير المؤمنين وأول ملوك المسلمين وخير ملوكهم معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، لذا رأيت كتابة هذه الكلمة ذبًا عن الصحابة عمومًاً ومعاوية خصوصًاً ونصحًاً لهؤلاء ولمن تسول له نفسه النيل من أي واحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وأن يكون كل مسلم لنفسه عنده قيمة من الذين جمعوا لهم بين سلامة القلب واللسان الذين قال الله فيهم: 


{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِاخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإيمان وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا انَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ اذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً انَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8]، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِاخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإيمان وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا انَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

عبد المحسن بن حمد العباد البدر

عبد المحسن بن حمد العباد البدر

المحدث الفقيه والمدرس بالمسجد النبوي الشريف، ومدير الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة سابقاً

  • 32
  • 4
  • 42,698

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً