(3) إن الحسنات يذهبن السيئات

منذ 2014-06-11

رحمة الله جائزة الطائعين، ومرجع التائبين، وملاذ المسرفين من القنوط من عفو رب العالمين، إنها الغيث الذي تنبت به القلوب المؤمنة، والنور الذي يضيء الطرق الحالكة، والغيض الذي بلغ المؤمن غاية رشده، والفيض الذي تعجز الأقلام عن وصف حده، فرحمة الله تعالى تفيض على عباده جميعًا، وتسعهم جميعًا وبها يقوم وجودهم وتقوم حياتهم..

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي عَالَجْتُ امْرَأَةً فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَإِنِّي أَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا، فَأَنَا هَذَا فَاقْضِ فِيَّ مَا شِئْتَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ لَقَدْ سَتَرَكَ اللَّهُ لَوْ سَتَرْتَ نَفْسَكَ، قَالَ فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا، فَقَامَ الرَّجُلُ فَانْطَلَقَ، فَأَتْبَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلا دَعَاهُ، وَتَلا عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةَ: {أَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَذَا لَهُ خَاصَّةً؟ قَالَ: «بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً»" (1).

رحمة الله جائزة الطائعين، ومرجع التائبين، وملاذ المسرفين من القنوط من عفو رب العالمين، إنها الغيث الذي تنبت به القلوب المؤمنة، والنور الذي يضيء الطرق الحالكة، والغيض الذي بلغ المؤمن غاية رشده، والفيض الذي تعجز الأقلام عن وصف حده، فرحمة الله تعالى تفيض على عباده جميعًا، وتسعهم جميعًا وبها يقوم وجودهم وتقوم حياتهم، وهي تتجلى في كل لحظة من لحظات وجودهم وفي جميع حركاتهم وسكناتهم.

قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:156]، وقال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر:49]، وقال تعالى: {حم . تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ . غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:1-3].

روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه: "افتقد رجلاً ذا بأس شديد من أهل الشام فقيل له: تتابع في هذا الشراب، فقال عمر لكاتبه: اكتب من عمر إلى فلان، سلام عليك وأنا أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، بسم الله الرحمن الرحيم: {حم . تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ . غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}، ثم ختم الكتاب، وقال لرسوله لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيًا، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة"، فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول: "قد وعدني الله أن يغفر لي وحذرني عقابه، فلم يبرح يرددها حتى بكى ثم نزع، فأحسن النزوع وحسنت توبته"، فلما بلغ أمره، قال: "هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أحدكم قد زل زلة فسددوه وادعوا الله له أن يتوب عليه ولا تكونوا أعوانًا للشيطان عليه".

وقال جل ذكره: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ} [الأنعام:133]، {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا} [الكهف:58]، {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:54]، {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام من الآية:12].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار» (2)، وعن أبي سعيد رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: «لو تعلمون قدر رحمة الله لاتكلتم عليها» (3).

وتمسك بظاهر قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} المرجئة وقالوا: "إن الحسنات تكفر كل سيئة كبيرة كانت أو صغيرة"، وحمل جمهور العلماء هذا المطلق على المقيد في الحديث الصحيح: «الصلوات الخمس كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر» (4)، فقال طائفة: "إن اجتنبت الكبائر كانت الحسنات كفارة لما عدا الكبائر من الذنوب، وإن لم تجتنب الكبائر لم تحط الحسنات شيئًا"، وقال آخرون: "إن لم تجتنب الكبائر لم تحط الحسنات شيئًا منها وتحط الصغائر".

وقال ابن عبد البر: "ذهب بعض أهل العصر إلى أن الحسنات تكفر الذنوب"، واستدل بهذه الآية وغيرها من الآيات والأحاديث الظاهرة في ذلك. قال: "ويرد الحث على التوبة في أي كبيرة، فلو كانت الحسنات تكفر جميع السيئات لما احتاج إلى التوبة"، واستدل بهذا الحديث على عدم وجوب الحد في القبلة واللمس ونحوهما لقوله: «عالجي امرأة..»، أي داعبت واستمتعت بها، مع قوله «وَإِنِّي أَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا»، كناية عن الجماع، واستدلوا بهذا الحديث أيضًا على سقوط التعزيز عمن أتى شيئًا منها وجاء تائبًا نادمًا

-----------------------------


(1) رواه مسلم في كتاب التوبة، باب (إن الحسنات يذهبن السيئات) رقم: 4964، والترمذي كتاب تفسير القرآن ــ باب ومن سورة هود رقم: 3112. 
(2) رواه البخاري في كتاب الرقائق برقم 5988.
(3) رواه البزار (صحيح) انظر حديث رقم: 5260 في صحيح الجامع.
(4) رواه أبو نعيم في الحلية عن أنس (صحيح) انظر حديث رقم: 3874 في صحيح الجامع.

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 2
  • 0
  • 11,211

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً