الملل والفتور ودنو الهمة

منذ 2014-06-24

إن الأمة لا تصاب بهذه المحن والشرور إلا عندما تضعف همم أفرادها، وتهن عزائمهم، وتقصر آمالهم، وينشغلون بالدنيا وملذاتها، وينسون الآخرة وما فيها من النعيم المقيم والعذاب الأليم.

الخطبة الأولى

الحمد لله ذو الفضل والجود والإنعام، أحمده حمدًا كثيرًا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له...

أما بعد فاتقوا الله عباد الله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].

 

معاشر المؤمنين:

جاء في الصحيحين وغيرهما أن عائشة رضي الله عنها سئلت عن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "كان عمله ديمة" وفي حديث آخر عند البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا وكان أحب الدين إليه مادام عليه صاحبه» وفي رواية لمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي العمل أحب إلى الله فقال: «أدومه وإن قل».

وكان صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الصلاة من الليل من وجع أو غيره صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة (رواه مسلم).

ومن وصاياه لعبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في الحديث المتفق عليه: «يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل».

 

ومن تأمل حال السلف عرف أنهم لم يصلوا ما وصلوا إليه إلا بالصبر والمصابرة وعلو الهمة، فتوحات عظيمة ورحلات دعوية طويلة، وسهر وتحقيق في المسائل، فكانوا من خير المجتمعات وأزكاها، تمثلوا أخلاق الإسلام وتعاليمه وآدابه في جميع شؤونهم.

لقد كان العمل للإسلام يخالط شغاف قلوبهم، تترجم ذلك أقوالهم وأفعالهم، يؤثر أحدهم أخاه على نفسه، يطوي جائعًا حتى يشبع أخوه، يشتركون في الآمال والآلام، ويقبلون على العبادة إقبال الظمآن على الماء البارد؛ فسادوا الأرض.

ومن يتأمل أحوال الكثير منا اليوم وخصوصًا من عرفوا بالاستقامة والصلاح يرى هممهم تقصر، وأعمالهم تقل، ولربما تركوا أعمالًا صالحةً كانوا يحرصون عليها، وما ذاك إلا بسبب الملل والفتور والسآمة، والسبب الأساس لذلك هو قصور الهمة، والغفلة عن الآخرة، وكثرة الفتن والمغريات وانفتاح الدنيا.

 

بتلك الأسباب تكاسل بعض أهل الاستقامة عن الدعوة إلى الله، وتهاونوا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسكت بعضهم عن قول الحق، وتكاسلوا عن طلب العلم، بل بعضهم أصابه كسل في العبادة، ما بين متخلف عن تكبيرة الإحرام أو جزء من الصلاة، والبعض وهم قلة إن شاء الله وصل بهم التكاسل إلى التأخر عن صلاة الفجر مع الجماعة، نسأل الله العافية والسلامة.

ناهيك عن سوء خلق بعضهم، وإساءة معاملته مع الآخرين من القرابة أو غيرهم، والتهاون في أداء الحقوق إلى أصحابها، وأكل أموال الناس بالباطل، والغش والخداع والتدليس، وظلم إخوانهم المسلمين.

إن الأمة لا تصاب بهذه المحن والشرور إلا عندما تضعف همم أفرادها، وتهن عزائمهم، وتقصر آمالهم، وينشغلون بالدنيا وملذاتها، وينسون الآخرة وما فيها من النعيم المقيم والعذاب الأليم.

 

عباد الله:

إن الملل والفتور باب من أبواب التقصير في العمل، وربما أدى على انقطاعه، وهذا باب شر على العبد، فلنحذر من هذا الداء، وعلينا أن نسعى لإعلاء هممنا، لنقبل على طاعة الله ونداوم عليها، ومن الأمور التي تعين بعد الله عز وجل على ذلك:

كثرة الدعاء والإلحاح على الله بالثبات على الهداية والاستقامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: «أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» (أبو داود).

وذكَرَ الله تعالى من دعاء عباد الرحمن قولهم: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]، وإمامة المتقين من أعلى مراتب علو الهمة.

ومما يعين: قراءة القرآن بتدبر وتعقل، فالقرآن يهدي للتي هي أقوم، وعلو الهمة من جملة ذلك؛ فالقرآن هو الذي ربى الأمة وأدبها وزكى نفوسها وأعلى هممها وغرس الإيمان في قلوبها.

ومما يعين على البعد عن الملل والفتور: قِصر الأمل وتذكر الآخرة، وهذا من أعظم الموقظات للهمة، ومن أكبر البواعث على الإقبال على الله، فإذا تذكر المرء قِصر الدنيا وسرعة زوالها، أدرك أنها مزرعة للآخرة وفرصة لكسب الأعمال الصالحة.

ومن الأمور التي تعين على ذلك: زيارة القبور، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن في زيارتها تذكرة» (أبو داود).

وقال ابن الجوزي رحمه الله: "من تفكر في عواقب الدنيا أخذ الحذر، ومن أيقن بطول الطريق تأهب للسفر".

ومما يعين على طرد الملل والسآمة: قراءة السيرة النبوية؛ فحياة النبي صلى الله عليه وسلم مليئة بالأحداث العظام التي تبعث الهمة وتوقظ العزيمة، جهاد وصبر ومصابرة، وصدق وعزيمة وعلو همة، وهو سيد البشر، وخيرة الله من خلقه، وقدوة الناس أجمعين.

 

ثم عليهم بمصاحبة الأخيار، وأهل الهمم العالية، فهذا من أعظم ما يبعث الهمة، ويربي الأخلاق الرفيعة، ويزكي النفوس؛ لأن الإنسان مولع بمحاكاة من حوله، وشديد التأثر بأصحابه وأقرانه.

وأخيرًا أوصيك أخي الكريم بالتفاؤل؛ فإن التفاؤل يبعث الهمة، ويدعو النفس إلى محاربة الفتور والملل، ويحثها على الإقبال على الجد والعمل.

فإذا عمل المرء ما في وسعه، واستنفد جهده وطاقته، فليثق بأن الله لن يخذله، ولن يضيع عمله، واحذروا اليأس والقنوط والتشاؤم؛ فإنها من أشد المثبطات وأكبر المعوقات.

نسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يرزقنا العلم النافع، وييسر لنا العمل الصالح، وان يثبتنا بقوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة إنه جواد كريم.

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب...

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه...

أما بعد أيها المسلمون:

فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18]

 

عباد الله:

الوقت هو رأس مال الإنسان، وساعات العمر هي أنفس ما يُعنى بحفظه.

فحياة الإنسان مقسمة إلى مراحل محددة يمر عليها كل واحد منا، إذا أمد الله في عمره، مرحلة الصبا، ثم الشباب، فالكهولة، وتنتهي بالشيخوخة.

فإذا جاء الأجل فلا مفر من الموت، {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُو} نَ [الأعراف:34].

من المعلوم لدى كل إنسان أن ما فات من الزمن لا يعود، فالشاب لا يمكنه العودة إلى صباه، ولا الكهل يعود إلى شبابه، ولا الشيخ يرجع إليه نشاطه وقوته، فالزمن المفقود لا يمكن أن يعود.

 

لذا من العقل أن نستثمر ساعات أعمارنا، بل دقائقها وثوانيها فيما يعود علينا بالنفع في دنيانا وأخرانا، فضلًا عن أن نصرفها فيما يضر، أو يعود علينا بالحسرة والندامة، ولنتذكر دائما قول الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99-100].

ولو تصفحنا تاريخ علماء الأمة الذين رفعوا لواء العلم، وأخذوا على عواتقهم مهمة نشر الإسلام، لوجدناهم يبخلون بأوقاتهم أن يصرف شيء منها في غير درسٍ أو بحث أو عمل صالح.

بل كانوا يختصرون أوقات أكلهم خشية ضياع الوقت، لهذا خلَّفوا رحمهم الله آثارًا عظيمة، وحققوا أمورًا لا تكاد العقول تصدقها لولا أن العيون رأتها.

نسأل الجواد الكريم أن يمن علينا بالهداية والتوفيق، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

هذا وصلوا على البشير النذير والسراج المنير من بعثه الله رحمة للعالمين، فقد أمركم ربكم بذلك في كتابه المبين فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].

 

الشيخ عبدالله بن ناصر الزاحم

  • 3
  • 0
  • 6,282

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً