حين ينسى الإنسان نفسه

منذ 2014-07-04

لو سَلبَ اللهُ تعالى منكَ نعمةً واحدةً من نِعم الجسدِ لغابتْ عنك الحياةُ فورًا، ولو أراد الله تعالى سلب المال من رجل لأعاده فقيرًا كيوم ولدته أمه، ينسى أنه سيعود إلى الله تعالى إن عاجلاً أم آجلاً، وأن هذهِ الحياة الدنيا ما هي إلا كمثل قول نوح عليه السلام، عندما سُئل عن حياته المديدة الطويلة ألف سنة إلا خمسين عامًا كما ذكر القرآن الكريم، فقال: "رأيت كأني دخلت بيتاً له بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر".

تأملت في قول الله تعالى في سورة الحشر: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19] فإذا هي تأخذني إلى آفاق من جمال بيان الله تعالى وإعجازه، في عصر نرى فيه بأم أعيننا كل يوم، نماذج من ذلك الإنسان الذي نسي نفسه بسبب نسيانه لربه وخالقه. وإنه لشيء عجيب وغريب أن ينسى الإنسان ربه وخالقه ومالكه، أن ينسى لماذا هو مخلوق على هذه الأرض، و ينسى ما الذي يجب أن يفعله على وجه هذه البسيطة، وينسى المصير المحتوم الذي سيؤول إليه.

إنها الأسئلة المصيرية الكبرى في هذه الحياة التي لا بد أن تبقى حاضرة في ذهن الإنسان، ماثلة أمام عينيه، فهي صمام الأمان من انفلات تلك الشهوات من عقالها وضوابطها الإسلامية، والوكاء المحكم للمارد الجبار الذي يسميه القرآن الهوى الذي يرقد في داخل ذلك الإنسان، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23]. ويا لها من عقوبة تلك التي ذكرت في القرآن لمن ينسى الله تعالى ويغفل عنه، أن ينسيه الله تعالى نفسه، فينسى من هو ولماذا خلق وإلى أين المصير. ينسى أنه عبد مملوك لله لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا؛ خُلِقَ ليعبدَ اللهَ تعالى لا ليلهوَ ويلعب، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

ينسى أنه ضعيف ولو كان أقوى الأقوياء مالا وسلطانا وجاها، فهذا فرعون نسي نفسه وعبوديته لله فأنساه الله تعالى نفسه، فمات أبشع ميتة حين أغرق في اليم، قال تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [القصص: 40]. ينسى أنه فقيرٌ إلى اللهِ تعالى في كلِ لحظةٍ بل في كل جزءٍ منها، فلو سَلبَ اللهُ تعالى منكَ نعمةً واحدةً من نِعم الجسدِ لغابتْ عنك الحياةُ فورًا، ولو أراد الله تعالى سلب المال من رجل لأعاده فقيرا كيوم ولدته أمه، ينسى أنه سيعود إلى الله تعالى إن عاجلاً أم آجلاً، وأن هذهِ الحياة الدنيا ما هي إلا كمثل قول نوح عليه السلام، عندما سُئل عن حياته المديدة الطويلة ألف سنة إلا خمسين عامًا كما ذكر القرآن الكريم، فقال: "رأيت كأني دخلت بيتاً له بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر".

حين ينسى الإنسانُ نفسَه فإنه بذلكَ يغرقُ في محيطِ الحياةِ المتلاطمِ، ويضيعُ في مسالِكها ودرُوبها الكثيرةِ المتشعبة، ويَذوبُ في لهيبِ شهواتها وأهوائها، ويتصبب عرقًا تعبًا ونصبًا من وُعورةِ طرقها. حين ينسى الإنسانُ نفسَهُ يخرج من إنسانيته فلا شيء يشدُه إلى الأعلى، ولا هدف له في الحياةِ عظيم يجعله يمتاز عن السائمة والحيوان، فيعيش كما وصف الله تعالى في القرآن الكريم: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].

حين ينسى الإنسانُ نفسَه يفقد القيمَ والأخلاقَ والمبادئ وكل ما يمت إليها بِصّلة، بل يفقدُ حتى الشعورَ بالأشياءِ، فتراه يطغى ويظلم، يسرق وينهب، يفسق ويفجر، يفعلُ كلَ ما تَطلبه شهوته وهواه، ولكنه في النهاية يعود خاوي الوفاض حتى من المتعة التي فعل كل تلك القبائح من أجلها.

 

حين ينسى الإنسان نفسه فإنه يعبد ذاتَه بدلَ أن يعبدَ ربَه، ويفعل كل شيء ليحافظَ على هذه الذات، يقتل الأطفال والنساء والشيوخ، يختلق الحروب والمعارك، يخرب ويدمر الأرض التي أقامه الله تعالى عليها ليعمرها. حين ينسى الإنسان نفسه يبتعد عن ما يصلحه وينفعه، يبتعد عن سعادته الحقيقية التي جعلها الله تعالى في عبادته وطاعته ومناجاته، ولذلك قال إبراهيم بن الأدهم التابعي المعروف لبعض أصحابه يوماً: "لو عَلِم الملوكُ وأبناءُ الملوك ما نحن فيه -أي من السعادة والسرور- لجالدونا عليه بالسيوف" (البداية والنهاية لابن كثير).

قال ابن الجوزي في صيد الخاطر معلِّقاً على كلام ابن الأدهم: "ولقد صَدَقَ ابن أدهم، فإن السلطان إن أكل شيئاً خاف أن يكون قد طُرِحَ له فيه سم، وإن نام خاف أن يغتال، وهو وراء المغاليق لا يمكنه أن يخرج لفرجة، فإن خرج كان منزعجاً من أقرب الخلق إليه، واللذة التي ينالها تبرد عنده، ولا تبقي له لذة مطعم ولا منكح". وما أجمل قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إنَّ في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة".

قد يخطئ الإنسان المسلم ويذنب ولكنه يؤوب ويتوب ويستغفر، قد تأخذه غمرة الحياة ومشاغلها بعض الوقت، ولكنه سرعان ما يتيقظ ويتنبه ويتذكر فيعود إلى رحاب الله تعالى وفسيح رحمته، فالمسلم على كل حال لا ينسى ربه وخالقه ومولاه فلا تضيع بوصلته أبدا، وهذا هو الفرق بين المسلم المؤمن وبين الكافر الفاسق الذي نسي ربه وخالقه. المسلم المخطئ مثله كمثل رجل أراد السفر من القاهرة إلى شرم الشيخ، ذهب إلى الحافلة المتجهة إلى شرم الشيخ وركب فيها، وحدث في الطريق أخطاء كثيرة أتعبته وأنهكته، حيث لم يحضر طعاما فأصابه الجوع، لم يلبس ثيابا مناسبة فأصابه البرد الشديد، ولكنه على كل حال سيصل إلى شرم الشيخ، لأنه في الاتجاه الصحيح، ولكن الخطأ الذي لا يغتفر أن تكون في الحافلة متجهة إلى الإسكندرية بدلاً من شرم الشيخ.
فإياك أخي المسلم أن تنسى ربَك حتى لا تنسى نفسك. 

 

عامر الهوشان

  • 6
  • 0
  • 2,160

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً