سلاح رمضان الأقوى

علي بن عمر بادحدح

هذه قوة عظمى وهذا سلاح أمضى وأقوى من كل سلاح، يبقى أن نكون به مستيقنين وأن نكون له متهيئين وأن نأخذ بأسبابه.

  • التصنيفات: الذكر والدعاء - ملفات شهر رمضان - خطب الجمعة -

الخطبة الأولى:

معاشر المؤمنين..

وصية الله لكم في كل آن وحين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

إخوة الإسلام والإيمان..

يحل غدًا أو بعد غدٍ رمضان، وكلنا يعلم أحوالًا عصيبة وكربات عظيمةً تمر على إخواننا المسلمين في شتى بقاع الأرض، أرواحٌ تُزهق وبيوتٌ تُدمّر وأطفالٌ تُيتّم ونساء تُرمّل، ومسجونون مظلومون ومقهورون مسحوقون ومشردون مبعدون، وأحوالٌ تدمي قلوب المؤمنين.

وهنا ينبغي أن ندرك الحقيقة العظمى التي ينبغي لنا أن نعيشها بأرواحنا وأن نكون فيها ومعها وبها بقلوبنا، إننا في كل الأحوال وفي مثل هذه الأحوال على وجه الخصوص وفي مثل هذا الزمن الذي نستقبله والعبادة التي نتهيأ لها على وجه الخصوص وخصوص الخصوص لدينا القوة العظمى وعندنا السلاح الأقوى والسلاح الأمضى الذي إذا ضربنا به أصبنا، وإذا واجهنا به انتصرنا، وإذا جعلناه درعًا واقيًا لنا تحصّنًا، يبقى أن نعرفه وأن نحسن استخدامه وأن يكون ذلك ديدنًا لنا في كل أوقاتنا وسائر أحوالنا وأن نغتنم فيه ما يسّر الله سبحانه وتعالى لنا فيه أسبابه وهيأ لنا فيه كل ما ينبني عليه مما نؤمل ونرجو.

نتحدث عن أمر نعرفه جميعًا وربما نأخذ به ونفعله لكننا نحتاج إلى مزيد من المراجعة في ذلك سيما مع الاختصاص الذي في هذا الشهر العظيم وهذه الفريضة الجليلة، «الدعاء هو العبادة» كما قال صلى الله عليه وسلم وفي حديث آخر: «الدعاء مخ العبادة».

الدعاء السبب الواصل بين الأرض والسماء، الدعاء القوة التي تستمد من جبار السماوات والأرض، الدعاء الذي يكون بين يدي من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، الدعاء الذي كان وظلّ ولا زال وسيظل السلاح الأقوى والأمضى في كل ما يرجوه العبد.

لماذا نتحدث عن الدعاء؟ سأبدأ بالدعاء في هذه الأيام التي نستقبلها، الخصائص العظمى لهذه العبادة في هذا الموسم وهذه الفريضة، كلنا يحفظ الآيات الواردة في شأن الدعاء: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، جاءت هذه الآيات في سياق آيات الصيام قبلها آيات الصيام وفرضيته ونزول القرآن وبعدها كذلك آيات الصيام، دلالة.. إشارة إلى أن لهذه الفريضة وهذه العبادة خصوصية في هذا الدعاء وفي هذه العبادة، وتأملوا وأرجو دائمًا أن نتأمل وأن نتدبر وأن نحيا مع ما نتلو بقلوبنا: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي} قدمهم وذكرهم بلفظ العبودية واستخدم ياء الإضافة إلى الله (عبادي) فإذا كانوا عباده ألن يكرمهم؟ وإذا كانوا عباده ألن يرزقهم؟ وإذا كانوا عباده ألن يدفع عنهم ويدافع عنهم؟.

{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} كلمة واحدة دلالة واضحة لا تحتاج إلى تفسيرات ولا تأويلات {قَرِيبٌ} قربًا لا تتصوره العقول ولا تدركه الخيالات، هو أقرب إلينا من حبل الوريد، هو أقرب إلينا من الخاطرة التي قد ترد في أذهاننا، هو أقرب إلينا من الهمّ الذي قد يكون في نفوسنا، هو أقرب إلينا من دعواتنا التي قد نتلفظ بها بألسنتنا، وتأمل معي كذلك {قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} قدّم الإجابة، قدّمها مع لفظ القرب الذي يدل على عظيم الرحمة وعظيم المنة وعظيم الكرم الرباني بالعباد المستضعفين المؤمنين الأذلاء الخاضعين السائلين المتضرعين لربهم سبحانه وتعالى، {قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} مطلوب أن تدعو والله قريب والله مجيب والله سبحانه وتعالى طلب الدعاء: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}.

وروى البيهقي عن أنس رضي الله عنه بسند صحيح عن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث دعوات لا ترد، دعوة الوالد لولده، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر»، القائل الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، يخبر عن ربه جل وعلا أن دعوة الصائم لا ترد، ولماذا دعوة الصائم؟ ولماذا اختصاص إجابة الدعاء بالصيام بمزية أو مزايا كثيرة؟ لأنها عبادة إخلاص لأن الصوم سر بين العبد وربه لأن الصوم كما قال الله جل وعلا في الحديث القدسي: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"، تترك الطعام والشراب والشهوة من أجل الله، استجابة لأمر الله في السر والعلن دون أن يعلم أحد من عباد الله، تفضي بقلبك إليه ويلهج لسانك بالدعاء والتضرع إليه، وتسجد جبهتك تعظيمًا وخضوعًا له، كل ذلك يجعلك في هذه العبادة أقرب إلى إخلاص الدعاء وإلى صدق التوكل والالتجاء وإلى سرعة وتحقق إجابة الدعاء.

ولماذا مرة أخرى نتحدث عن هذه العبادة العظيمة في هذه الفريضة الجليلة؟ لأن سائر الأوقات التي خُصت بإجابة الدعاء لها في شهر رمضان وفي وقت الصيام خصوصية عظيمة، {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18]، الثلث الأخير من الليل الذي ورد فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة إذا بقي الثلث الأخير من الليل فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له، حتى ينفجر الفجر" (متفق عليه).

 

قد نكون في غير رمضان في وقت السحر مع النيام، لكننا في رمضان في غالب أيامه ولياليه نكون في هذا الوقت مستيقظين مستغفرين متسحرين متوضئين ذاكرين، هنا ارفع يديك إلى السماء، هنا استنزل كل ما تريد مِن مَن بيده كل أمر تريد، هنا في هذه اللحظات التي هي من أعظم وأثمن وأغلى لحظات يومنا وليلتنا، هنا يكون الدعاء الخالص وتكون أسباب الإجابة، من وقت هادئ لا انشغال فيه، من سكينة وطمأنينة تحل على القلب، من مواطأة وتوافق بين القلب واللسان، من خلوة بينك وبين ربك سبحانه وتعالى، من دمعة قد تذرف خشوعًا أو خوفًا أو رجاءً أو تعلقًا أو حبًا أو كل ذلك مجتمعًا في هذه اللحظات وهي تتكرر عندك ومعك في رمضان كل ليلة على مدى هذا الشهر العظيم وهذه الفريضة الجليلة، واستمع كذلك للحديث الذي رواه الترمذي في سننه وأحمد في مسنده من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم في كلمات وجيزة قاطعة: «الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة»، وكثيرًا ما نكون بين الأذان والإقامة منشغلين لسنا في بيوت الله ولسنا متهيئين للإقبال والاستعداد للصلاة، غير أن في رمضان في جملة أوقاتنا نبكر ونكون بين الأذان والإقامة في بيوت الله متهيئين للوقوف بين يدي الله، هنا ارفع يديك وادع الله بما تشاء، هنا كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «لا يرد الدعاء»، وفي حديثه عند مسلم في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد»، وفي حديثه الآخر أيضًا عند مسلم: «أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فإنه قَمِنٌ أن يستجاب لكم».

وهنا مرة أخرى في هذا الشهر الذي ننتظر خلاله بإذن الله جل وعلا نحن نكثر من الصلوات وسجودنا يكثر وإخلاصنا وخشوعنا وتهيؤنا في صلاتنا ولصلاتنا في رمضان وفي هذه العبادة أكثر وأعظم، القلب حاضر واللسان مرطب بذكر الله جل وعلا والجبهة ممرغة في الأرض تعظيمًا وابتهالًا وتضرعًا، هنا في قمة الدنو يكون العبد أقرب ما يكون من ربه، هنا في هذه اللحظات يكون الصدق وإخلاص الدعاء حيث لا صوارف ولا شيء تراه العين ولا شيء يمكن لعبد مصل مخلص قانت متهيء لصلاته إلا أن يكون بإذن الله حاضر القلب حاضر اللب حاضرًا في كل ما يتلفظ به لسانه من ثنائه على ربه وتضرعه إليه، وانظر وتأمل وخذ وانتفع من رسولك صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم فقد علّم أصحابه التشهد في الصلاة ثم قال: «ثم ليختر من الدعاء أعجبه إليه فيدعو به» أي قبل السلام، وهذا من مواطن الدعاء ومواطن الإجابة وقد أكملتَ كل أركان صلاتك قبل أن تنصرف منها تدعو الله سبحانه وتعالى.


وفي الجمعة كما نعلم ساعة لا يوافقها عبد مؤمن فيسأل الله إلا أعطاه، وكل ذلك في رمضان له خصوصية، خصوصية الصيام وخصوصية إدراك أوقات الفضيلة في أمر وفي صورة وفي حال تجعلنا قبل أن ندخل شهرنا نعظم في نفوسنا أن الدعاء أعظم عبادة ينبغي أن نتهيأ لها في شهر رمضان، كما بل وأعظم مما نتهيأ في صلاتنا في التراويح أو في التهجد أو الوتر أو غيرها لأن الصلاة روحها الدعاء ولأن العبادة هي الدعاء ولأن الدعاء أمر عظيم جليل في كل وقت وآن وهو في لب العبادات وفي أثناء كل الفرائض له مزية وخصيصة أعظم.

{وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، إذا كنت مستشعرًا للضعف فادع وقل: اللهم يا قوي يا عزيز أمدني بحولك وقوتك، إن كنت تشكو فقرًا وفاقة فقل: اللهم أنت الغني فأغنني بفضلك عمن سواك، إن كنت في كرب فقل: اللهم منفس الكروب ومفرج الهموم نفس عني، أسماء الله الحسنى استدعها وادع بها بحسب حالك وحاجتك فإن له الأسماء الحسنى التي يتعلق بها العبد المؤمن، والتي يعلق بها أسبابه في كل ما يرجوه من ربه ويسأله إياه من علم فيدعو العليم ومن مغفرة فيدعو الغفار، ومن توبة فيدعو التواب ويعيش ويحيا ويلتف ويكون مع هذه الأسماء الحسنى يجدد إيمانه ويعظم صلته بالله سبحانه وتعالى ويزيد خشوعه وإخلاصه لربه سبحانه جل وعلا.

فحقيقة الدعاء تعظيم الرغبة إلى الله في قضاء الحاجات الدنيوية والأخروية وكشف الكربات ودفع الشرور والمكروهات الدنيوية والأخروية: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62]، نحن نعلم ونرى في شامنا في مصرنا في يمننا في عراقنا في شرق الأرض وغربها كم هو الظلم جاثم على القلوب، وكم هو الطغيان حاصل للأرواح، وكم هي الكرب التي مرت وتمر على إخواننا في كل هذه البقاع {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} هم مضطرون ونحن مضطرون وكل العباد مضطرون.

ونتذكر هنا الوصية العظيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها ابن عمه: «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة» هنا والأمن موفور والرزق عظيم والحال مطمئنة عظّم الرجاء وأكثر الدعاء واستحضر الكرب لإخوانك، وعظّم هذا الدعاء بيقين جازم لأن الله يقول: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} ليس أحد إلا الله وهو سبحانه وتعالى وعد ووعده الحق ووعد بإجابة دعوة المظلوم وأنه ينتصر لها وأنها تشق عنان السماء وذلك وعد قاطع منه سبحانه وتعالى.

وتأمل قول الحق جل وعلا: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف:205]، وقوله في الدعاء: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف:55]، وتأمل أن الذكر والدعاء يذكران ويراد بأحدهما الآخر، لأن الدعاء يُسبق بالذكر والثناء ويتضمنه أيضًا الذكر والثناء، ولأن الثناء إنما هو ضرب من الدعاء وتأمل الجامع بينهما وهو التضرع هو التذلل هو الانكسار هو الشعور بالضعف والفقر والانكسار هو العبودية الحقيقية في هذه العبادة الجليلة ولذا قال {تَضَرُّعًا} في الذكر {تَضَرُّعًا} في الدعاء، حتى الذكر فيه تضرع، وقال في الذكر {وَخِيفَةً} لأنه يكون فيه غلبة من الخوف لا تكون في الدعاء عند السؤال، ولذا قال في الدعاء {وَخُفْيَةً} أي تدعوه بصوت خافت أو في مكان وأنت وحيد لا يراك أحد من الناس، كما رأينا وعرفنا فيما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من قصة الثلاثة الذين آواهم الغار وسدت عليهم صخرة مخرجه فلم ينجهم من ذلك إلا دعاء خالص بعمل صالح ذكروه بين يدي ربهم فأزيحت الصخرة وأزيحت وأزيحت وخرجوا يمشون، نحن مؤمنون مصدقون مستيقنون بما يذكر الله جل وعلا في كتابه وبما يصح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكننا بطبعنا نتعجل، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول: دعوت فلم يستجب لي»، هكذا بهذا النص يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم.


وأنتقل بكم إلى قوله جل وعلا في قصة موسى وهارون: {قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا} [يونس:89]، قال ابن كثير: "ولم ير موسى إجابة دعوته إلا بعد أربعين سنة"، نبي من أولي العزم من الرسل موسى كليم الله عليه السلام، {قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا} وكان التيه أربعين سنة وبعده كان الخلاص، وكم بين ما قاله يعقوب عليه السلام عندما َابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ} [يوسف:86]، وبين أَن جَاءه الْبَشِيرُ وأَلْقَى القميص عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا، ما كان في لحظة من اللحظات عنده شك بل يقين، ما كان عنده في وقت من الأوقات يأس بل رجاء، ينبغي أن نعظم هذا اليقين في قلوبنا وأن ندعو إلى الله بصدق وإخلاص فإن ذلك هو مفتاح الإجابة بإذنه سبحانه وتعالى.

{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وهنا نذكر مقولة لأبي بكر الشبلي في هذا المعنى جميلة يقول: "ادعوني بلا غفلة أستجب لكم بلا مهلة"، إن كانت القلوب حاضرة إن كان الإخلاص تامًا إن كان التعلق عظيمًا إن كان الرجاء كبيرًا إن كان الأمل في الله سبحانه وتعالى واثقًا فإن الإجابة يوشك أن تكون أقرب مما نتوقع، وقال ابن القيم رحمه الله: "الدعاء من أنفع الأدوية وهو عدو البلاء ودافعه ويعالجه ويمنع نزوله ويرفع أو يخففه إذا نزل وهو سلاح المؤمن".

نسأل الله عز وجل أن يسلحنا بسلاح الإيمان والدعاء، وأن يجعلنا في هذا الشهر الكريم من المخلصين المخبتين العابدين، ومن المتضرعين الذاكرين الداعين، وأن يجيب دعواتنا وأن يرفع عنا وعن المسلمين أسباب الشقاق والعناء إنه ولي ذلك والقادر عليه.


الخطبة الثانية:

إخوة الإسلام والإيمان..

الدعاء عبادة عظيمة وهو في شهر الصوم وفي شهر رمضان فرصة عظيمة من أعظم الفرص التي ينبغي أن نغتنمها واعجبوا إن تعجبوا وتأملوا فيما تتأملون في آيات الدعاء وفي الأحاديث الواردة فيه عن رسولنا صلى الله عليه وسلم وفيها ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: «ليس شيء أكرم على الله من الدعاء» (رواه الترمذي).

الدعاء يحبه الله سبحانه وتعالى، "إن الله حيي كريم ستير يستحي إذا رفع عبده إليه يديه أن يردهما خائبتين"، وفي لفظ: "أن يردهما صفرًا"، أخلص وأقبل بقلبك وادع ربك وثق أن الله عز وجل يعطيك، إن لم يجب دعوتك ادخرها لك يوم القيامة تكون أحوج إليها، إن لم يجب لك دعوتك صرف عنك من البلاء ما يقابل ذلك الدعاء، والخير هو الذي يختاره الله سبحانه وتعالى لك، {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر:14]، قال المناوي رحمه الله: "لا يعبأ سبحانه بسؤال سائل غافل عن الحضور مع مولاه مشغول بما أهمه من دنياه والتيقظ والجد من أعظم آداب الدعاء"، وهذا أمر مهم فقد قال الرازي: "أن الأمة أجمعت على أن الدعاء اللساني الخالي عن الطلب النفساني قليل النفع عديم الأثر".

وقال ابن رجب: "ومن أعظم شرائطه -أي الدعاء- حضور القلب ورجاء الله سبحانه وتعالى"، وتأملوا كل ذلك في دعوات الأنبياء تجدون فيها دروسًا عظيمة، {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:21].

نحن وأمة الإسلام في كل مكان قد لا تكون عندنا أسباب قوة مادية، قد لا تكون عندنا أسباب قوة مالية، قد لا تكون عندنا أسباب قوة عسكرية، لكن عندنا أسباب القوة الربانية، نلجأ فيها إلى الله سبحانه وتعالى، كل مظلوم سلاحه بالدعاء أفتك وأمضى وأقوى من كل ما يملكه ظالمه من قوة وغطرسة وطغيان، سلاح المقهور المضطر بإذن الله سبحانه وتعالى أقوى فتفتح له أبواب السماء وتتغير له إذا أراد الله جل وعلا أسباب الكون المادية المعروفة {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ . فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ . وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:10-12]، هكذا تغيرت أسباب الدنيا: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا} [الأنبياء:69]، النار المحرقة تحولت لإبراهيم إلى برد وسلام، وهكذا، زكريا عليه السلام: {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89]، بلغ من الكبر عتيًا، وامرأته عقيم عجوز ومع ذلك منحه الله الذرية، الله جل وعلا رب الأرباب ومسبب الأسباب وجبار السموات والأرض من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء من أمره بين الكاف والنون يقول للشيء كن فيكون هو سبحانه وتعالى يدبر الأمور ويصرف الأقدار ويقسم الأرزاق ويعز من يشاء ويذل من يشاء ويؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ينبغي أن نعظم اليقين بذلك وأن نوطد به وأن نربط به أسباب الرجاء، وأن نجعل قنطرتنا إليه الإخلاص في الدعاء لله سبحانه وتعالى.


الدعاء سلاح عظيم وعبادة ينبغي أن نستحضرها في يومنا وليلتنا لا أقول مرات بل عشرات المرات مع كل أذان وبين كل أذان وإقامة وفي كل صلاة وفي كل سجدة وكم نصلي بحمد الله في رمضان وكم نقبل على بيوت الله في رمضان وكم لحظات قبل الإفطار وعند الإفطار الذي يُقبل بإذنه جل وعلا، وفي السحر وفي كل وقت إنه الموسم الذي يخشاه وأقول بحق يخشاه كل ظالم وكل طاغ فيخشى من الدعوات في المحاريب فيمنع أو يسعى أن يمنع بيوت الله عز وجل أن تعمر لأنه يخاف من المصلين الذين هم أقرب إلى الله منه والذين هم ينتصرون بالله عليه والذين هم يدعون الله عليه.

هذه قوة عظمى وهذا سلاح أمضى وأقوى من كل سلاح، يبقى أن نكون به مستيقنين وأن نكون له متهيئين وأن نأخذ بأسبابه فإنه من أعظم الأسباب التي يحقق الله لنا بها أفرادًا وآحادًا ومجتمعًا وأمةً ما نصبو إليه وما نرجوه من ربنا سبحانه وتعالى، وقد استعان به واستخدمه في كل الأوقات وفي سائر الأحوال وفي المحكات الصعبة رسولنا صلى الله عليه وسلم ونعلم كيف دعا يوم بدر ونعلم كيف كان يدعو في يوم الخندق والأحزاب ونعلم كيف كان دعاؤه ضارعًا يوم رده أهل الطائف، ونعلم كيف تحولت الأسباب ونزل ملك الجبال: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت، كل ذلك يعظم يقينًا بهذه العبادة فلنستقبل رمضان ليس بالصيام فحسب بل بالتهيؤ لهذه العبادة العظيمة التي هي قرينة للصيام والقيام والعمرة والحج وهي روح كل العبادات، وهي عبادة كل الأوقات وهي عبادة كل الظروف والأحوال التي تمر بالعبد في سائر أوقاته وحياته.


نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا له مخلصين وأن يرطب ألسنتنا بذكره وأن يملأ قلوبنا بحبه، اللهم إنا نسألك إجابة الدعاء ونسألك قبل ذلك الإخلاص في الدعاء ونسألك قبل ذلك أن تلهمنا حسن الثناء والدعاء، اللهم يا حي يا قيوم قلت وقولك الحق: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، اللهم فإنا ندعوك يا ربنا فاستجب لنا، اللهم ارحم المستضعفين وانتصر للمظلومين، اللهم فرج هم المهمومين ونفس كرب المكروبين، اللهم رد المشردين إلى أهلهم، اللهم يا حي يا قيوم الطف بعبادك المستضعفين المشردين المبعدين المسجونين المقهورين المظلومين في كل مكان يا رب العالمين، امسح اللهم عبرتهم وسكن لوعتهم وآمن روعتهم وسد جوعتهم وأجب دعوتهم وأعل كلمتهم وانصرهم على عدوك وعدوهم.