العقيقة (رؤية تربوية)

منذ 2014-07-26

تعد العقيقة من الشعائر الإسلامية الثابتة، بيد أنها وشيكة النسيان، لا يتذكر أدائها إلا فئة قليلة من القابضين على دينهم، ولعل ذلك من أهم الدوافع التي دعتنا للكتابة في هذا الموضوع؛ إحياءً لشعيرة من الشعائر الإسلامية، لتأخذ مكانها وتحل محل العادات الاجتماعية الوافدة، التي اعتاد عليها كثيراً من الناس، وغدت عندهم الشعائر والسنن الشرعية نسياً منسياً.

تعد العقيقة من الشعائر الإسلامية الثابتة، بيد أنها وشيكة النسيان، لا يتذكر أدائها إلا فئة قليلة من القابضين على دينهم، ولعل ذلك من أهم الدوافع التي دعتنا للكتابة في هذا الموضوع؛ إحياءً لشعيرة من الشعائر الإسلامية، لتأخذ مكانها وتحل محل العادات الاجتماعية الوافدة، التي اعتاد عليها كثيراً من الناس، وغدت عندهم الشعائر والسنن الشرعية نسياً منسياً.

العقيقة لغة: القطع، يقال عق الولد والديه إذا قطعهما ولم يبرهم.
العقيقة شرعاً: ذبح الشاة عن المولود يوم سابعه.
وقد تواترت الأحاديث التي تؤكد مشروعيتها، وتقرر فعلها، وتأمر بامتثالها، وترغب في أدائها وترهب من تركها.

وقد اختلف الفقهاء في حكمها بين الوجوب والاستحباب، والراجح فيها هو ما عليه جمهور الفقهاء؛ وهو الاستحباب، وان كان الرأي الأخر معتبرًا؛ لما يستند إليه من أدلة، ولترجيح بعض المحققين من العلماء، ومن النصوص الواردة فيها قوله صلى الله عليه وسلم: «مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دماً، وأميطوا عنه الاذي» (رواه البخاري)، وقال أيضاً: «كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه، ويُسمى فيها، ويحلق رأسه» (رواه أصحاب السنن وصححه الألباني).

وقالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة» (رواه أحمد والترمذي)، وعن أم كرو الكعبية أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقيقة فقال: «عن الغلام شاتان، وعن الأنثى واحدة ولا يضركم ذكرانًا كن أو إناثًا» (واه أحمد والترمذي).

وقتها والحكمة منها:
العقيقية في الإسلام بمثابة الحفلة التي تقام؛ احتفاء بالإنسان الجديد، بيد أنها حفلة من نوع خاص، تعبر عن الأهداف الإسلامية النبيلة من التواصل، والتراحم والتكافل، فليست قائمة على ما تنشده المادية الغربية أو الاشتراكية الشرقية من لهو ومجون وإشباع لرغبات جسدية ونزوات حيوانية.

ومن هذا المنطلق جاءت النصوص توقتها بيوم السابع، حيث قال صلى الله عليه وسلم: «كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه..»، وجاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: "عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين يوم السابع..."، وربما تكون الحكمة من اختيار هذا التوقيت، ليكون قد مر على المولود سبعة أيام منذ خروجه من حياة الأجنة إلى الحياة الدنيا، وهي المرحلة الحرجة من عمر الإنسان، التي يتحول خلالها الإنسان من حياة الجنينية بكل ظروفها ومقتضياتها الى الحياة الخارجية.

عقيقة الذكر وعقيقة الأنثى:
لا شك أن العدل والإنصاف من أهم سمات الشريعة الإسلامية، فقد أنصفت الشريعة الإسلامية الأنثى، وحددت وظيفتها في الحياة، كما حددت وظيفة الرجل، فلا فضل لجنس على آخر ولكن نظمت العلاقة بينها بحيث تستقيم الحياة وتعمر الأرض.

فالرجل منوط بالأعمال الخارجية وجلب الرزق، وحماية الأسرة والقيام عليها -الأدوار الغليظة القاسية-، والمرأة منوطة بالأعمال الداخلية والرعاية النفسية لأسرتها -الأدوار الرقيقة الحانية-، ومن ثم فالمرأة يغلب عليها الجانب العاطفي في تكوينها النفسي والبيولوجي، والذي يتناسب مع دورها في الحياة، على غرار الرجل الذي يغلب عليه الجانب العقلي الذي يتناسب مع أدواره هو الأخر.

ولذلك عندما جعل المشرع عقيقة الرجل شاتان والأنثى واحدة، لم يكن ذلك إجحافًا للأنثى وتقليلاً من الإسلام من يرعاها ويقوم عليها، ورغم ذلك فقد جعل لها النصف من الرجل في المواريث والديات والشهادات، والعتق والعقيقة موضوعنا، وهنا تبرز عظمة التشريع الإسلامي في الإنصاف والتقدير، على دونه من الأديان والمذاهب المخالفة، فقد ظلمت المذاهب الوضيعة الرجل؛ بأن ساوت بينه وبين المرأة في كل شيء ولم تراعي التمايز البيولوجي والنفسي الذي بينهما.

وكذلك فعل أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فقد اختصوا الذكر بالعقيقة دون الأنثى، وهناك من أهل العلم من ساوى بين الذكر والأنثى في العقيقة، وهو مذهب مالك، عندما سُئل كم يذبح عن الغلام والجارية؟ أجاب يقول: "يذبح عن الغلام شاة واحدة، وعن الجارية شاة"، وأحتج عليه بالأحاديث السابقة.
 

وصفوة القول: أن من أغدق الله عليه من رزقه وإنعامه، فليعق عن الذكر شاتان، وعن الأنثى شاة واحدة، لما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر المفاضلة بينهم، ومن كانت أحواله المادية في حدود الوسط، أو دون الوسط، فيجزئه عن الذكر شاة وعن الأنثى شاة، وإذا فعل ذلك يكون محظياً بالأجر، محققاً للسنة والله أعلم" (عبد الله ناصح علوان، تربية الأولاد في الإسلام، جـ1، صـ7778 ).

الحكم والمقاصد التربوية من العقيقة:
ذكرنا آنفا أن العقيقة هي الحفلة الإسلامية التي تقام احتفاء بالمولود الجديد، إشاعة لنسبه وابتهاجًا بقدومه، قبل أن يبتكر الإنسان شهادات التوثيق، وما كان ذلك إلا استكمالاً لحرص الإسلام على نقاء السلالة البشرية من اختلاط الأنساب، التي تضرب بشرها في الروابط الاجتماعية والإنسانية، فهي حيلة شرعية في إثبات النسب في جو اجتماعي حميم.

والمتأمل لحال التشريع الإسلامي يجد أنه لم يهدف إلى طي صفحة الماضي بكل ما فيه من خير أو شر، بل جاءت الرسالة الخاتمة لاستكمال البناء الذي بنته الرسالات السابقة، تستفيد من خبرات الأمم السابقة، وتجارب البشرية على امتداد تاريخها الطويل، فقد نظر الإسلام إلى العادات والتقاليد التي كانت موجودة قبله، بعين المقاصد الشرعية التي وضعت لخير البشرية ونعيمها، إن كانت خيراً أقرها الإسلام، وأضفى عليها روح العبادة، وإن لم تتفق مع هذه المقاصد، حاربها الإسلام وحذر منها.

والعقيقة كانت موجودة في الجاهلية، لكنهم كانوا يلطخون رأس المولود بدمها، وكانت أيضاً موجودة في شرائع الأمم السابقة، لكنها كانت قاصرة على الذكور دون الإناث، فلما جاء الإسلام أقرها وعدل مساوئها، لتتناسب مع المقاصد الشرعية، وإن دل ذلك فإنما يدل على سماحة هذه الشريعة، واحتوائها لكل خير وفضل وبعدها عن كل سوء وشر، وإن شعائرها هي البكر العجوز، بكر لأنها آخر الرسالات، عجوز لأنها قامت مستفيدة من خبرات الأسلاف.

إن ما يلازم العقيقة من بشر وسعادة في حضور الأهل والأحباب، فقيرهم وغنيهم، صغيرهم وكبيرهم، أميرهم وغفيرهم، احتفالاً بقدوم مولود جديد، يعد امتدادًا للدوافع التي حرص الإسلام على تدعيم الأبوين بها، في الإقبال على المولود، ورعايته والاهتمام بتربيته، وصيانته مما قد يتعرض له من مخاطر وأهوال.

لقد أدرك العالم اليوم أن الثروة البشرية هي أهم الثروات التي تمتلكها الأمم إذا أحسن استغلالها، وهي بالفعل الثروة التي قامت عليها الحضارة الإسلامية العظيمة، والتي يعتمد عليها الإسلام اعتماداً شبه كامل في منهجه الإصلاحي، فقد حث الرسول الله صلى الله عليه وسلم على الاهتمام بها، وقال لعلي: «لأَن يهديَ اللهُ بك رجلاً واحداً، خيرٌ لك من أن يكونَ لك حُمْرُ النَّعَمِ» (صحيح البخاري:4210)، وأمر أتباعه بالمكاثرة فقال صلى الله عليه وسلم: «تَناكَحوا تَكْثُروا، فإنِّي أباهي بكمُ الأممَ يومَ القيامةِ» (قال السيوطي في الجامع الصغير:3366 مرسل)، فجاءت هذه الشعيرة تعبيراً عن هذا المبدأ الإسلامي.

ويمتد أثر العقيقة ليشمل الحياة الاجتماعية، فإن اجتماع أفراد المجتمع أو بعضه على موائد الطعام في جو تملؤه السعادة وتغمره الألفة، يعمل على تدعيم الترابط الاجتماعي، ونشر أواصر المحبة والحميمية بينهم، فضلاً عن القضاء على ما قد ترسب في النفوس من عداوة أو حقد أو ضغينة أو حسد، ولا يقتصر أثر العقيقة في مجال العلاقات الاجتماعية على تدعيمها وحفظها فقط، بل يتعداه لتكون مورداً جديداً ورافداً من أهم روافد التكافل الاجتماعي، التي تبناها الإسلام للقضاء على ظاهرة الفقر والحرمان.. فضلاً عن القضاء على الفوارق الاجتماعية والعنصرية تجاه الفقراء والمحرومين.

ولا شك أن القيام بهذا الأمر وما يتخلله من معاني البذل والعطاء؛ من الذبح وإطعام الطعام، والدعوة للمولود، مما قد يعترضه في مستقبله من مصائب الدنيا ونوائب الدهر، فإنه بمثابة وقاية وتحصيناً للمولود، يقول الله تعالى: {انَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء من الآية:90]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صنائعُ المعروفِ تَقِي مَصارعَ السُّوءِ..» (السلسلة الصحيحة:538/4).

يذكرنا الإسلام في كثير من المناسبات بموقف الذبح، لا سيما في الاحتفالات الإسلامية، وكأن المشرع يريد أن يذكرنا بالفداء الأعظم، وما صاحبه من امتثال تام للأوامر الإلهية من الوالد وولده، ونفي الشرك بكل صوره وأشكاله.

وهناك حكمة عظيمة؛ هي انتصار الإنسان على الشيطان، عندما أمر الله الإنسان بالذبح فامتثل، خلاف ما حدث مع إبليس الذي حاول إثناء نبي الله إبراهيم عن الذبح ففشل، وعندما أمره الله بالسجود لآدم فأبى، وتمثل العقيقة خاصية من خصائص الأمة الإسلامية، التي حباها الله بها دون الأمم السابقة، فوضعت هذه الشعيرة تأسيًا بجد العرب إسماعيل، وعبد الله بن عبد المطلب والد النبي صلى الله عليه وسلم.

المقصود من كونها فكاك لرهان المولود:
قال ابن القيم: "اختلف في معنى هذا الحبس والارتهان، فقالت طائفة هو محبوس مرتهن عن الشفاعة لوالديه، كما قال عطاء وتبعه عليه الإمام أحمد، وفيه نظر لا يخفى فإن شفاعة الولد في الوالد ليست بأولى من العكس وكونه والدًا له ليس للشفاعة فيه وكذا سائر القرابات والأرحام وقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان من الآية:33]، وقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة من الآية:48]، وقال تعالى: {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة من الآية:254].

فلا يشفع أحد لأحد يوم القيامة إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى، فإذنه سبحانه في الشفاعة موقوف على عمل المشفوع له من توحيده وإخلاصه، ومن الشافع من قربه عند الله ومنزلته ليست مستحقة بقرابة ولا بنوة ولا أبوة، وقد قال سيد الشفعاء وأوجههم عند الله لعمه ولعمته وابنته: «لا أغني عنكم من الله شيئا» (صحيح البخاري:4771)، وفي رواية: «لا أملك لكم من الله شيئًا».

وقال في شفاعته العظمى لما يسجد بين يدي ربه ويشفع «..فيحد لي حدًا، فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة..» (صحيح مسلم:193)، فشفاعته في حد محدود يحدهم الله سبحانه له لا يجاوزهم شفاعته، فمن أين يقال إن الولد يشفع لوالده فإذا لم يعق عنه حبس عن الشفاعة له، ولا يقال لمن لم يشفع لغيره إنه مرتهن ولا في اللفظ ما يدل على ذلك والله سبحانه يخبر عن ارتهان العبد بكسبه كما قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]، وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا} [الأنعام من الآية:70]، فالمرتهن هو المحبوس إما بفعل منه أو فعل من غيره، وأما من لم يشفع لغيره فلا يقال له مرتهن على الإطلاق، بل المرتهن هو المحبوس عن أمر كان بصدد نيله وحصوله ولا يلزم من ذلك أن يكون بسبب منه، بل يحصل ذلك تارة بفعله وتارة بفعل غيره..

وقد جعل الله سبحانه النسيكة عن الولد سببًا لفك رهانه من الشيطان الذي يعلق به من حين خروجه إلى الدنيا، وطعن في خاصرته فكانت العقيقة فداء وتخليصًا له من حبس الشيطان له وسجنه في أسره، ومنعه له من سعيه في مصالح آخرته التي إليها معاده، فكأنه محبوس لذبح الشيطان له بالسكين التي أعدها لأتباعه وأوليائه، وأقسم لربه أنه ليستأصلن ذرية آدم إلا قليلاً منهم فهو بالمرصاد للمولود من حين يخرج إلى الدنيا، فحين يخرج يبتدره عدوه ويضمه إليه ويحرص على أن يجعله في قبضته وتحت أسره، ومن جملة أوليائه وحزبه فهو أحرص شيء على هذا..

وأكثر المولودين من أقطاعه وجنده كما قال تعالى: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} [الإسراء من الآية:64]، وقال: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ} [سبأ من الآية:20]، فكان المولود بصدد هذا الارتهان فشرع الله سبحانه للوالدين أن يفكا رهانه بذبح يكون فداه، فإذا لم يذبح عنه بقي مرتهنًا به فلهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الغلام مرتهن بعقيقته فأريقوا عنه الدم وأميطوا عنه الأذى»، فأمر بإراقة الدم عنه الذي يخلص به من الارتهان، ولو كان الارتهان يتعلق بالأبوين لقال فأريقوا عنكم الدم لتخلص إليكم شفاعة أولادكم، فلما أمر بإزالة الأذى الظاهر عنه وإراقة الدم الذي يزيل الأذى الباطن بارتهانه علم أن ذلك تخليص للمولود من الأذى الباطن والظاهر، والله أعلم بمراده ورسوله" (أ.ه)، (تحفة المولود صـ:50 إلى صـ:51).

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

محمد سلامة الغنيمي

باحث بالأزهر الشريف

  • 1
  • 0
  • 32,700

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً