ختام الصالحات

منذ 2014-07-31

لحظات الصالحات هي أحسن لحظات الحياة، بل هي الحياة الحقة التي يعيشها الصالحون، فليس لهم في الدنيا ثمة سعادة إلا في رضا الله سبحانه وابتغاء مرضاته.

لحظات الصالحات هي أحسن لحظات الحياة، بل هي الحياة الحقة التي يعيشها الصالحون، فليس لهم في الدنيا ثمة سعادة إلا في رضا الله سبحانه وابتغاء مرضاته، سواء أكان ذلك عبادة مأمورة أو علمًا ينتفع به أو إصلاحًا في الأرض أو دعوة خير وصلاح.

وإذا أنعم الله سبحانه على عبده المؤمن بعمل صالح فإنها خير النعم، وحق لذلك العبد أن يفرح، {قُلْ بِفَضْلِ اللَّـهِ وَبِرَ‌حْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَ‌حُوا هُوَ خَيْرٌ‌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]، فلا قيمة لمال ولا زخرف، ولا ولد ولا مكانة، ولا عمر ولا عيش إلا ما كان لله سبحانه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة..» (صحيح البخاري) وفي الحديث: «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالمًا ومتعلمًا» (الترمذي).

وإذا أنعم الله سبحانه على عبده بعمل صالح، فهو في حيرة إذا أنهاه، إذ إن فرحته بعمله الصالح تجعله خائفًا أن يتبعه بآخر سيئًا، أو خاشيًا من السقوط في إثم أو معصية بعدما عمل صالحًا وسار في سبيل هدى. وههنا وجهنا المنهج الإسلامي نحو نوع من ختام للأعمال الصالحة يليق مع طبيعتها، ويناسب آمال كل عامل صالح، ويزيل مخاوف كل خائف، ذلك هو الاستغفار.

فالاستغفار مناسب عند ختم العبادة والعمل الصالح أجمعه إذ يجبر النقص فيه و ويملأ قلب العبد طمأنينة وسكينة، ويحفظه من الإعجاب بعمله، ويذكره بتقصيره الفائت وبأنه بحاجة إلى تكرار الصالحات مرات ومرات، وبحاجة الى توبة نصوح دائمة.

فقد كان من هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ختمُ الأعمال الصالحة بالاستغفار، بل إن من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يختم قراءة القرآن والصلاة وسائر العمل بذلك الاستغفار بعد تسبيح الله وتمجيده عز وجل، فعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "مَا جَلَسَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَجْلِسًا قَطُّ، وَلاَ تَلاَ قُرْآنًا، وَلاَ صَلَّى صَلاَةً إِلاَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِكَلِمَاتٍ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَاكَ مَا تَجْلِسُ مَجْلِسًا، وَلاَ تَتْلُو قُرْآنًا، وَلاَ تُصَلِّي صَلاَةً إِلاَّ خَتَمْتَ بِهَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ ؟ قَالَ «نَعَمْ، مَنْ قَالَ خَيْراً خُتِمَ لَهُ طَابَعٌ عَلَى ذَلِكَ الْخَيْرِ، وَمَنْ قَالَ شَرّاً كُنَّ لَهُ كَفَّارَةً: سُبْحَانَكَ [اللَّهُمَّ] وَبِحَمْدِكَ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ»" (النسائي) [1].

وعند مسلم: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثًا"، فعلى الرغم أن الصلاة كلها ذكر وعبودية، فأمر أن ينهيها بالاستغفار وتذكر الذنب ورجاء مغفرته. وقال الله تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران:17]، وقال تعالى {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18] فهم يصلون بالليل ثم يستغفرونه عند السحر.

وعند نهاية أعمال الحج أمر سبحانه به أيضًا فقال سبحانه: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199]، فالحج عبادة بدنية ومالية وقلبية مجتمعة، وفيها من البذل والعطاء الكثير، وفيها من الذكر الكثير، وفيها من المشقة ما هو معروف، وعلى الرغم من ذلك أمرنا سبحانه بالاستغفار، لعل الله سبحانه يقبل ذلك الحج، ولئلا يعجب المرء بعمله، وليزداد المؤمن تواضعًا مع ربه وذلة وانكسارًا، فكلما ازداد انكسارًا زاد عند الله رفعة.

وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ختم مجالسه بالاستغفار، روى أبو داود عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأخرة إذا أراد أن يقوم من المجلس: سبحانك اللهمَّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاَّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك" (أبو داود).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «مَن جلس في مجلس فكثر فيه لغَطُه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللَّهمَّ ربَّنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاَّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلاَّ غفر له ما كان في مجلسه ذلك» (أبو داود).

 

فالاستغفار عبادة يحبها الله من عباده وشرعها لهم تفضلًا منه وإنعامًا ليكفر عنهم سيئاتهم ويمحوها، فأمرهم بها طوال حياتهم، وأمرهم بها فور عباداته: روي عن لقمان أنه قال لابنه: "عود لسانك: اللهم اغفر لي فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلًا". وقالت عائشة رضي الله عنها: "طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرًا" [2].

وقال قتادة: "إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم فالذنوب، وأما دواؤكم فالاستغفار". وقال الحسن: "أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقاتكم، وفي أسواقكم، وفي مجالسكم، فإنكم لا تدرون متى تنزل المغفرة".

وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقــول: «قـال الله تعــالى: يــا ابــن آدم إنـــك مـــا دعـــوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة» [3].

 

__________________________

[1]- الحديث إسناده صحيح: أخرجه النسائي في (السنن الكبرى [9/123/10067]) - وقال الحافظ ابن حجر في (النكت [2/733]): إسناده صحيح، وقال الألباني في (الصحيحة [7/495]): هذا إسنادٌ صحيحٌ أيضًا على شرط مسلم، ولقد بَوَّب الإمامُ النسائي على هذا الحديث بقوله: "ما تُختم به تلاوة القرآن".

[2]- أخرجه ابن ماجه [رقم 3818] عن عبد الله بن يسر، وأبو نعيم في الحلية [10/395] عن عائشة، وصححه الألباني في صحيح الجامع [رقم 3930].

[3]- أخرجه الترمذي [رقم 3540] وقال: هذا حديث حسن غريب. وحسنه الألباني في صحيح الجامع [رقم 4338].

 

خالد رُوشه 

29/9/1435 هـ

  • 0
  • 0
  • 18,284

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً