تفسير قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}
عبد العزيز بن باز
"فالمفهوم من هذا الكلام: أن لله تعالى يدين مختصتين به، ذاتيتين له كما يليق بجلاله"
- التصنيفات: الأسماء والصفات - القرآن وعلومه -
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز، إلى حضرة الأخ المكرم
سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد [1]:
فأشير إلى استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء [برقم:3137]، في 11/7/1408هـ، الذي نصه:
لقد كنا في حلقة تفسير في مسجد بمنطقة الصليبية في الكويت، وقد تعرض إمام المسجد إلى تفسير قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] فقال: قيل معناها: منة الله عليهم، وقيل: قوة الله معهم، وقيل: الله عليم بحالهم ونياتهم.
فتكلم أحد الشباب من إخواننا في الله بعد الدرس، وقال: تفسيرك هذا ليس من عقيدة أهل السنة والجماعة، بل هو من كلام الأشاعرة؛ فغضب الإمام وقال: إن هذا موجود في كتاب الماوردي وابن كثير، فرد الشاب وقال: ليس هذا في ابن كثير وإنما هو عند الماوردي الأشعري.
فلما رأى العامة الشيخ غضبان غضبوا له، ورمى بعضهم الشاب بكلمة أنت مسيحي أنت بوذي، وكادوا أن يضربوه لولا أن بعضهم حماه.
والله يعلم أن هذا الشاب لم يتكلم إلا غيرة على عقيدة المسلمين، ومن باب أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فأشار الشاب أن يقضي فضيلتكم بينهم، فوافق العوام على ذلك، فأفيدونا، ونحن بانتظار ردكم، وجزاكم الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء.
الجواب: وأفيدك أن ما نعتقده في إثبات صفة اليد لله تبارك وتعالى وغيرها في الصفات التي وصف الله بها نفسه في كتابه العزيز، أو وصفه بها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة هو: إثباتها لله تبارك وتعالى إثباتًا حقيقيًا على ما يليق بجلال الله سبحانه من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، ونؤمن بأن الله ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير.
فلا ننفي عنه ما وصف به نفسه، ولا نحرف الكلم عن مواضعه، ولا نكيف ولا نمثل صفاته بصفات خلقه؛ لأنه سبحانه لا سميَّ له، ولا كفؤ له ولا ند له، ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى.
فكما أن له سبحانه ذاتًا حقيقية لا تشبه ذوات خلقه، فكذلك له صفات حقيقية لا تشبه صفات خلقه، ولا يلزم من إثبات الصفة للخالق سبحانه مشابهتها لصفة المخلوق، وهذا هو مذهب سلف الأمة من الصحابة والتابعين، ومن سار على نهجهم في القرون الثلاثة المفضلة، ومن سلك سبيلهم من الخلف إلى يومنا هذا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "حكى غير واحد إجماع السلف: أن صفات الباري جل وعلا تجري على ظاهرها، مع نفي الكيفية والتشبيه عنه، وذلك أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، يحتذى حذوه ويتبع فيه مثاله؛ فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية، فنقول: إن لله سبحانه يدًا وسمعًا، ولا نقول: إن معنى اليد القدرة، ومعنى السمع العلم".
ثم استدل رحمه الله على إثبات صفة اليد لله سبحانه من القرآن بقول الله سبحانه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64]، وقال تعالى لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، وقال سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1]، وقال تعالى: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26].
ثم قال رحمه الله تعالى: "فالمفهوم من هذا الكلام: أن لله تعالى يدين مختصتين به، ذاتيتين له كما يليق بجلاله، وأنه سبحانه خلق آدم بيده دون الملائكة وإبليس، وأنه سبحانه يقبض الأرض ويطوي السماوات بيده اليمنى، وأن يديه مبسوطتان، ومعنى بسطهما: بذل الجود وسعة العطاء؛ لأن الإعطاء والجود في الغالب يكون ببسط اليد ومدّها، وتركه يكون ضمًا لليد على العنق، كما قال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء:29]، وصار من الحقائق العرفية أنه إذا قيل هو مبسوط اليد فهم منه يد حقيقية".
وقال رحمه الله تعالى: "إن لفظ اليدين بصيغة التثنية لم يستعمل في النعمة ولا في القدرة؛ لأن استعمال لفظ الواحد في الاثنين أو الاثنين في الواحد لا أصل له في لغة العرب التي نزل بها القرآن، فقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، لا يجوز أن يراد به القدرة؛ لأن القدرة صفة واحدة، ولا يجوز أن يعبر بالاثنين عن الواحد، ولا يجوز أن يراد به النعمة؛ لأن نعم الله لا تحصى، فلا يجوز أن يعبر عن النعم التي لا تحصى بصيغة التثنية".
ثم استدل رحمه الله تعالى على إثبات صفة اليد لله سبحانه من السنة بقوله صلى الله عليه وسلم: « » [2]، وقوله صلى الله عليه وسلم: « » [3].
وفي الصحيح أيضًا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « » [4].
وفي الصحيح أيضًا عن ابن عمر رضي الله عنهما يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] قال: « » [6] وذكره.
[5] » وفي رواية أنه قرأ هذه الآية على المنبر: {وفي الصحيح أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
» [7]. وفي حديث صحيح: « [8] ».وفي الصحيح: «
» [9]. وفي الصحيح: أنه لما تحاجَّ آدم وموسى، قال آدم: "يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده"، وقد قال موسى: "أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه" [10]. وفي حديث آخر: أنه قال سبحانه: « » [11]، وفي حديث آخر في السنن: « » [12].
قال شيخ الإسلام رحمه الله: فهذه الأحاديث وغيرها نصوص قاطعة لا تقبل التأويل، وقد تلقتها الأمة بالقبول والتصديق.
ثم قال رحمه الله تعالى: "فهل يجوز أن يملأ الكتاب والسنة من ذكر اليد، وأن الله تعالى خلق بيده، وأن يديه مبسوطتان، وأن الملك بيده، وفي الحديث ما لا يحصى، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر لا يبينون للناس أن هذا الكلام لا يراد به حقيقته ولا ظاهره، حتى ينشأ جهم بن صفوان بعد انقراض عهد الصحابة فيبين للناس ما نزل إليهم على نبيهم، ويتبعه عليه بشر بن غياث، ومن سلكوا سبيلهم من كل مغموص عليه بالنفاق؟ وكيف يجوز أن يعلمنا نبينا صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة؟! ويقول: «
» [13]، ثم يترك الكتاب المنزل عليه وسنته الغراء مملوءة مما يزعم الخصم أن ظاهره تشبيه وتجسيم، وأن اعتقاده ظاهره ضلال، وهو لا يبين ذلك ولا يوضحه؟
وكيف يجوز للسلف أن يقولوا: أمروها كما جاءت، مع أن معناها المجازي هو المراد، وهو شيء لا يفهمه العرب، حتى يكون أبناء الفرس والروم أعلم بلغة العرب من أبناء المهاجرين والأنصار؟!. اهـ. باختصار من (مجموع الفتاوى، [ج6]، [ص: 351 إلى 373]).
وبما ذكرنا، يتضح للجميع أن ما ذكره الشاب هو الصواب.
ونسأل الله أن يهدي الجميع لإصابة الحق في القول والعمل؛ إنه سميع مجيب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
___________________________
[1]- صدرت من مكتب سماحته [برقم: 2823 / 2]، في 17/9/1408هـ.
[2]- أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل، [برقم: 3406].
[3]- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب قوله تعالى: لما خلقت بيدي، [برقم: 6862]، ومسلم في كتاب الزكاة، باب: الحث على النفقة وتبشير المنفق، [برقم: 1659].
[4]- أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب يقبض الله الأرض، [ برقم: 6039]، ومسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب نزل أهل الجنة، [برقم: 5000].
[5]- أخرجه مسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار، [برقم: 4996].
[6]- أخرجه الإمام أحمد في مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما [برقم: 5157].
[7]- أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب يقبض الله الأرض يوم القيامة، [برقم: 6038]، ومسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار، [برقم: 4994].
[8]- أخرجه الترمذي في سننه، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة المعوذتين، [برقم: 3290].
[9]- أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، [برقم: 6855]، ومسلم في كتاب التوبة، في سعة رحمة الله تعالى، [برقم: 4939].
[10]- أخرجه الإمام مسلم في كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام، [برقم: 4795].
[11]- تفسير ابن كثير، [ج3]، [ص: 52].
[12]- أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الأعراف، [برقم: 3001].
[13]- أخرجه ابن ماجة في سننه، كتاب المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين، [برقم: 43].