وقفاتٌ لِمَا بعد رمضان

منذ 2014-08-05

بالأمس القريب كُنَّا نتحدَّث عن قدوم رمضان، حتى حلّ علينا ضيفًا عزيزًا كريمًا غاليًا حبيبًا إلى قلوبنا، مفعمًا بالخيرات والبركات والطاعات والرحمات والحسنات، خفيف الظل عظيم الأجر جميل الذكر، فطوبى لمن أحسن ضيافته وكان فيه من المقبولين، ويا خسارة من ضيَّعه فحُرم الأجر وكان من المخذولين.

الحمد لله ذي الجود والكرم، مُسبغ النِّعم ومُوقِظ الهِمَم ومُثبِّت القدم، والصلاة والسلام على النبي الأكرم، خير من مشى على قدم، وعلى آله وصحبه وأتباعه وسلم، وبعد:

بالأمس القريب كُنَّا نتحدَّث عن قدوم رمضان، حتى حلّ علينا ضيفًا عزيزًا كريمًا غاليًا حبيبًا إلى قلوبنا، مفعمًا بالخيرات والبركات والطاعات والرحمات والحسنات، خفيف الظل عظيم الأجر جميل الذكر، فطوبى لمن أحسن ضيافته وكان فيه من المقبولين، ويا خسارة من ضيَّعه فحُرم الأجر وكان من المخذولين.

رمضان مدرسة الأجيال، ومعسكر تدريبي، وجامعة مفتوحة، ودورة تأهيلية، فلا قيمة لطاعة وعبادة تؤدى دون أن يظهر أثرها علينا؛ من تقوى وخشية واستقامة ومداومة على الأعمال الصالحة، لأن من استفاد من رمضان واغترف من نهره الجاري، وقطف ثماره وتجول في بستانه، يقينًا يكون حاله بعد رمضان خير له من قبله، فالحسنة تقول لأختها تعالي فلنتأمَّل.

يقول ابن الجوزي عن رمضان: "شهرٌ جعله الله تعالى مصباح العام، وواسطة النظام وأشرف قواعد الإسلام، المشرف بنور الصلاة والصيام والقيام" (بستان الواعظين ورياض السامعين).

الوقفة الأولى: علامة قبول العمل.

لكل شيء علامة، ومن أعظم علامات قبول الطاعات والحسنات، أن يُوفَّق العبد لأعمال صالحة بعدها والاستقامة على الخير، وظهور أثر العمل على سلوك العبد وإخلاص القلب وعمل الجوارح، فليكن رمضان نقطة انطلاق ومنبع الخيرات، وما بعده امتداد ونتيجة للتنافس في الصالحات.

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "كونوا لقبول العمل أشد همًّا منكم بالعمل، ألم تسمعوا الله عز وجل يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِين} [المائدة من الآية:27]" (الإخلاص والنية لابن أبي الدنيا).

يقول ابن القيم: "فبين العمل وبين القلب مسافة، وفي تلك المسافة قطاع تمنع وصول العمل إلى القلب، فيكون الرجل كثير العمل، وما وصل منه إلى قلبه محبة ولا خوف ولا رجاء ولا زهد في الدنيا ولا رغبة في الآخرة، ولا نور يُفرِّق به بين أولياء الله وأعدائه، وبين الحق والباطل ولا قوة في أمره، فلو وصل أثر الأعمال إلى قلبه لاستنار وأشرق ورأى الحق والباطل وميَّز بين أولياء الله وأعدائه وأوجب له ذلك المزيد من الأحوال" (مدارج السالكين).

قال عبد العزيز بن أبي رُواد: "أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهمّ أيقبل منهم أم لا قال!" (لطائف المعارف).

الوقفة الثانية: كيف حالك بعد رمضان؟!

المُتأمِّل لحال كثير من المسلمين بعد رمضان يجد العجب العجاب، فبعد الإقبال على الله وكثرة الطاعات والأجواء الإيمانية الرائعة، ينقسم الناس عدة أصناف، فالمُوفَّق والسعيد من استمر على طاعة الله والمحافظة على أداء الفرائض والاستزادة من النوافل والسنن، والابتعاد عن المعاصي والمُحرَّمات.

صنفٌ آخر لم يكن لرمضان أي أثر أو بصمة في حياتهم وسلوكهم، حتى صار صيامه عادة وصلاته روتين، بل بعضهم عياذًا بالله يكون عليه رمضان ثقيل جدًا يتمنى انقضائه ليعيث في الأرض فسادًا، ويرجع أسيرًا لشهواته وملذاته وشياطين الأنس والجن!

الانتكاس داءٌ خطير، ومرضٌ عُضال، فإياك أن يصل فتورك بعد رمضان حد الانتكاس والتقهقر واقتراف الخطايا والآثام، قال ابن القيم: "فالكاذب ينقلب على عقبيه ويعود إلى رسوم طبيعته وهواه، والصادق ينتظر الفرج ولا ييأس من روح الله ويُلقي نفسه بالباب طريحًا ذليلًا مسكينًا مستكينًا" (مدارج السالكين).

لنحذر كل الحذر أن نكون ممن قال فيهم يحيى بن معاذ رحمه الله: "عملٌ كالسراب، وقلبٌ من التقوى خراب، وذنوبٌ بعدد الرمل والتراب، ثُمَّ نطمعُ فِي الكواعب الأتراب، هيهات أنت سكران بغير شراب، ما أكملك لو بادرت أملك، ما أجلك لو بادرت أجلك، ما أقواك لو خالفت هواك" (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي).

الوقفة الثالثة: كيف نداوم على العمل الصالح؟

لما كان للنفس إقبال وإدبار بحسب الزمان والمكان والحال؛ ينبغي أن نحافظ عليها حال الروحانية ونتعهدها تقويمًا وتثبيتًا ساعة الركود والفتور، وإيَّاك أن تكن من عُبّاد رمضان، فالله ربّ رمضان وشوال وسائر الشهور، وليكن شعارك المداومة على الأعمال الصالحة بمواسم الخيرات وبعدها إلى أن تلقى الله عز وجل، يقول عليه الصلاة والسلام: «إذا أرادَ اللهُ بعبدٍ خيرًا استعمَلَهُ»، قِيلَ: وما يَستعمِلُهُ؟ قال: «يفتَحُ لهُ عملًا صالحًا بين يدَيْ موتِه حتى يرضَى عليه مَنْ حَوْلَهُ» (صحيح الجامع، برقم: [304]).

ومن أعظم وسائل المداومة على العمل الصالح بعد رمضان:

1- الإكثار من مجالسة الأخيار وصحبتهم، والتعرُّف على سير الصالحين، والحرص على مجالس الذكر، فإنها تبعث في النفس الهِمَّة والعزيمة.

2- المواظبة على أداء الفرائض الخمس بأوقاتها في المسجد، والمداومة على قراءة وِرد قرآني يومي مع تدبر الآيات ومعرفة المعاني، والإكثار من ذكر الله عز وجل.

3- طلب العون من الله والاستعانة به وحُسن الالتجاء إليه، وكثرة الدعاء بالثبات، والابتعاد عن مُفسدات القلب من أصحاب السوء واستماع الأغاني والغيبة والنميمة ومجالس اللغو، والخوض في الباطل وضياع الأوقات.

ولتعلم أخي المسلم أن المداومة على الصالحات من أحب الأعمال إلى الله، وعندما سُئِلَ عليه الصلاة والسلام: أيُّ العملِ أحَبُّ إلى اللهِ؟ قال: «أدْومُه وإن قَلَّ» (أخرجه مسلم).

الثبات حتى الممات والمداومة على الصالحات، هي وصية الله سبحانه لخير البريات إذ يقول عز وجل: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، "أي: الموت أي: استمر في جميع الأوقات على التقرُّب إلى الله بأنواع العبادات، فامتثل صلى الله عليه وسلم أمر ربه، فلم يزل دائبًا في العبادة، حتى أتاه اليقين من ربه صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا" (تفسير السعدي).

ومن روائع سلفنا الصالح في المداومة على الصالحات؛ أن عائشة رضي الله عنها كانت تصلي ثماني ركعات من الضحى ثم تقول: "لو نُشِرَ لي أبواي ما تركتها"، وبلال رضي الله عنه كان يحافظ على ركعتي الوضوء، وسعيد بن المسيب رحمه الله ما فاتته تكبيرة الإحرام خمسين سنة.

و"من مناقب الإمام أحمد رحمه الله، أن عاصم بن عصام البيهقي، يقول: بتُّ ليلة عند أحمد بن حنبل، فجاء بماء فوضعه، فلما أصبح نظر إلى الماء بحاله، فقال: سبحان الله! رجل يطلب العلم لا يكون له وِرد بالليل" (سير أعلام النبلاء).

الوقفة الرابعة: حال السلف بعد رمضان.

لرمضان مكانة عظيمة جدًا في نفوس وقلوب وأحوال سلفنا الصالح، قال معلّى بن الفضل: "كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان! ثم يدعون ستة أشهر أن يتقبّل منهم!".

فالعام كله تفكير واهتمام في رمضان وما يتعلَّق به، إما استقبالًا واستثمارًا لأوقاته، وإما الدعاء والابتهال بأن يتقبَّل منهم، وهذا ناتج عن فقهٍ عميق بحقيقة الصيام وشهر الخير والإنعام.

"قال الحسن: كل يومٍ لا يُعصى الله فيه فهو عيد، كل يوم يقطعه المؤمن في طاعة مولاه وذكره وشكره فهو له عيد" (لطائف المعارف).

لقد جسَّد سلفنا الصالح نماذج رائعة ومواقف نادرة، نابعة عن حرص شديد في طاعة ربّ العبيد، في كل وقت وحال، حتى كان يظهر الأسى والحزن على بعضهم بانقضاء رمضان، فيقال له: إنه يوم فرح وسرور. فيقول: "صدقتم، ولكني عبد أمرني مولاي أن أعمل له عملًا، فلا أدري أيقبله مني أم لا؟".

و"رأى وهيب بن الورد قومًا يضحكون في يوم عيد، فقال: إن كان هؤلاء تقبَّل منهم صيامهم فما هذا فعل الشاكرين، وإن كان لم يتقبَّل منهم صيامهم فما هذا فعل الخائفين" (شعب الإيمان للبيهقي).

ليس عيد المحب قصد المُصلى *** وانتظار الأمير والسلطان
إنما العيد أن تكون لدى الله *** كريمًا مقرّبًا في أمان

"ودخل رجل على أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه يوم عيد الفطر، فوجده يتناول خبزًا فيه خشونة، فقال: يا أمير المؤمنين، يوم عيد وخبز خشن! فقال عليّ: اليوم عيد مَن قُبِلَ صيامه وقيامه، عيد من غُفِرَ ذنبه وشكر سعيه وقبل عمله، اليوم لنا عيد وغدًا لنا عيد، وكل يوم لا يعصى الله فيه فهو لنا عيد".

"وقال وكيع: خرجنا مع سفيان الثوري في يوم عيد، فقال: إن أول ما نبدأ به في يومنا غضّ أبصارنا" (الورع لابن أبي الدنيا).

وكان بعض العارفين ينوح على نفسه ليلة العيد بهذه الأبيات:

بحرمة غربتي كم ذا الصدود *** ألا تعطف عليَّ ألا تجود
سرور العيد قد عمّ النواحي *** وحزني في ازدياد لا يبيد
فإن كنت اقترفت خلال سوء *** فعذري في الهوى أن لا أعود

وقال بعض السلف: "أدركتُ أقوامًا لا يزيد دخول رمضان من أعمالهم شيئًا، ولا ينقص خروجه من أعمالهم شيئًا".

الوقفة الخامسة: رمضان ومفاتيح السعادة.

رمضان شهر كريم وفضله عميم، فيه من الخير والبركة ما الله به عليم، إذ جمع هذا الشهر أركان الإسلام، ويملك مفاتيح السعادة كلها، فهو نقطة انطلاق وبداية الطريق، وفيه مدرسة التوحيد والإيمان.. الصبر والتقوى.. الطهور والصدقة.. الشكر والمحبة.. الصدق والإخلاص.

يقول ابن القيم: "قد جعل الله سبحانه لكل مطلوب مفتاحًا يُفتَح به؛ فجعل مفتاح الصلاة الطهور -كما قال-: مفتاح الصلاة: الطهارة، ومفتاح الحج: الإحرامـ ومفتاح البِر: الصدق، ومفتاح الجنة: التوحيد، ومفتاح العلم: حُسن السؤال حسن الإصغاء، ومفتاح النصر: والظفر الصبر، ومفتاح المزيد: الشكر، ومفتاح الولاية: المحبة" (حادي الأرواح).

ولما جمع رمضان كل هذه المعاني، فهو بحق مفتاح وبداية لكل خير يوصل إلى الله فلنتأمَّل هذه الحقيقة، التي من وُفِّق لها فهو المُوفَّق.

الوقفة السادسة: هِمَم كالقمم.

كُنَّا في رمضان نُسارِع للطاعات، ننفق الأموال ونقرأ القرآن، نفوسنا مطمئنة وصدورنا منشرِحة وقلوبنا مُقبِلة، هِمَمنا كقِمَم الجبال، فكيف حالنا الآن هل سنتعاهد ما كُنَّا عليه من خير وإقبال ونُحاسِب أنفسنا على تقصيرنا؟

أم نُصاب بالفتور ونرجع لِما كُنَّا عليه قبل رمضان من اللهو وضياع الأوقات والتفريط في العبادات؟!

حتى قيل قديمًا: "قدر الرجل على قدر هِمَّته، فمن كان عالي الهِمّة، كان عالي القدر".

وإذا كانَتِ النّفُوسُ كِبارًا *** تَعِبَتْ في مُرادِها الأجْسامُ

والناس متفاوتون بالهِمَم، يقول ابن القيم: "وأعلاهم هِمّة وأرفعهم قدرًا من لذته في معرفة الله ومحبته، والشوق إلى لقائه والتودُّد إليه بما يحبه ويرضاه، فلذته في إقباله عليه وعكوف همته عليه، ودون ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله، حتى تنتهي إلى من لذته في أخس الأشياء من القاذورات والفواحش في كل شيء من الكلام والفعال والأشغال" (الفوائد).

ويقول أيضًا: "المطلب الأعلى موقوف حصوله على هِمَّةٍ عالية ونية صحيحة، فمن فقدهما تعذَّر عليه الوصول إليه، فان الهِمَّة إذا كانت عالية تعلَّقت به وحده دون غيره، وإذا كانت النية صحيحة سلك العبد الطريق الموصلة إليه، فالنية تفرد له الطريق والهِمَّة تفرد له المطلوب، فإذا توحَّد مطلوبه والطريق الموصلة إليه كان الوصول غايته، وإذا كانت هِمَّته سافلة تعلَّقت بالسفليات ولم تتعلَّق بالمطلب الأعلى" (الفوائد).

هِمَم مُعلَّقة بعرش الرحمن وأعلى الجنان، وأخرى مُتعلِّقة بالفرش والقرش والكرش والحش! نعوذ بالله من الخذلان، فمن أي الفريقين أنت؟! ومع أي الصنفين تكون؟!

قال ابن القيم: "ولله الهِمَم! ما أعجب شأنها، وأشد تفاوتها، فهِمَّة مُتعلِّقة بمن فوق العرش، وهِمَّة حائمة حول الأنتان والحُش!".

ولله در ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه، ما أعلى هِمَّته عندما قال له عليه الصلاة والسلام: «سلني» فقال: "مرافقتَكَ في الجنَّة" (صحيح سنن أبي داود).

قال عمر رضي الله عنه: "لا تصغرنّ هِمَّتك فإني لم أرَ أقعد بالرجل من سقوط هِمَّته" (فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب).

وقال أحد العلماء: "علوُّ الهِمَّة هو استصغار ما دون النهاية مِن مَعالي الأمور".

وقيل لبعض العلماء: لي سؤال صغير، فقال: "اطلب له رجلًا صغيرًا".

ويضرب لنا ابن الجوزي مثلَا بين صاحب الهِمَّة العالية والهِمَّة الدنيئة، يقول: "قال الكلب للأسد يومًا: يا سيد السباع، غير اسمي فانه قبيح، فقال له: أنت خائن لا يصلح لك غير هذا الاسم، قال: جربني، فأعطاه شقة لحم وقال: احفظ لي هذه إلى غدٍ وأنا أُغير اسمك، فجاع وجعل ينظر إلى اللحم ويصبر، فلما غلبته نفسه قال: وأي شيء باسمي؟ وما كل إلا اسم حسن فأكل" (صيد الخاطر).

يقول ابن الجوزي مُعلِّقا: "وهكذا الخسيس الهِمَّة، القنوع بأقل المنازل، المختار عاجل الهوى على آجل الفضائل، فالله الله في حريق الهوى إذا ثار وانظر كيف تطفئه".

أخيرًا: إياك أخي الفاضل أن تطلب المعالي باللسان ومُجرّد التمني، حتى ينطبق عليك قول الشاعر:

وما نيل المطالب بالتمني *** ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

ثم إياك أن تدنو هِمَّتك وتنصبُّ إلى سفاسف الأمور ودنيئها، حتى تصاب بالعجز والكسل والقعود.

نسأل الله تعالى أن يُبصِّرنا في ديننا، ويرزقنا حُسن القول والعمل، وأن يتقبَّل مِنَّا ومنكم صالح الأعمال ويهدينا سواء السبيل.
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

أيمن الشعبان

داعية إسلامي، ومدير جمعية بيت المقدس، وخطيب واعظ في إدارة الأوقاف السنية بمملكة البحرين.

  • 7
  • 0
  • 26,301

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً