الصراع الأمريكي الكوري بين التهويش والتحريش
الصراع بين كوريا الشمالية وأمريكا وحلفائها يبدو للوهلة الأولى أنه بلغ درجة خطيرة من الاحتقان، تنذر بوقوع حرب مدمرة، لكن المتابعين والمراقبين للشأن الكوري يعلم جيدًا، أن فرص وقوع حرب بعيدة، وأن الأمر لا يعدو بين الجانبين إلا تهويش في مقابلة تحريش، تهويش كوري في مواجهة تحرش أمريكي متصاعد، من أجل إظهار الإمكانات الفعلية للجيش الكوري الذي يعتبر الرابع عالميًا من حيث القوة والعدد..
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
من جديد اندلعت الحرب الكلامية في شبه الجزيرة الكورية، إثر قيام كوريا الشمالية بتوجيه تهديدات شديدة لجارتها الجنوبية وأمريكا واليابان، وصلت لحد الوصف بحرب تمطر السماء فيها صواريخا نووية، لا تدع موضعا في هذه الأماكن إلا وصلته ودمرته، فقد أصدر الزعيم الكوري الشمالي الجديد (كيم جونج أون) أوامره في 29 مارس الماضي بعمل الاستعدادات اللازمة لتوجيه ضربات صاروخية تجاه القارة الأمريكية والقواعد الأمريكية في المحيط الهادئ، في حرب مقدمة ضد أعداء الأمة الكورية، وذلك ردا على إعلان كوريا الجنوبية عن توقيع اتفاق مع واشنطن يسمح لها بزيادة مدى صواريخها البالستية، ثلاث مرات تقريبا لتغطي كامل مساحة كوريا الشمالية، مع نشر الولايات المتحدة لقوة برية قوامها 28500 جندي على أراضي كوريا الجنوبية وتؤمن لها (مظلة نووية) في حال تعرضها لهجوم من جارتها اللدودة كوريا الشمالية.
وكان هذا الإعلان مفاجئا وصادما لكوريا الشمالية، التي تسعى دائما لابتزاز جارتها الجنوبية، بالتلويح بالحرب في كل عام مرة أو مرتين، فقد قال (بيك سونغ-جو) من المعهد الكوري الجنوبي للتحليلات الدفاعية على ضوء هذا الافتراض: "لا شك أن الشمال تَفاجَأ بالإعلان الذي سيسمح لسيول بشن ضربات وقائية محددة الأهداف إذا دعت الحاجة ضد القواعد الكورية الشمالية التسع لإطلاق الصواريخ"، وكوريا الشمالية شديدة الاعتداد بهذه المنصات، وتجعلها سلاحا منفردا داخل الجيش، تطلق عليها اسم (قوة الصاروخ)، وتبني عليها قوة الردع العسكرية لها.
الصراع بين المعسكر الغربي وبين كوريا الشمالية ليس جديداَ، بل هو من مخلفات الحرب الباردة التي كانت سائدة لعشرات السنوات بين أنصار الرأسمالية وبين أنصار الاشتراكية، في عالم ثنائي القطبية في حينها، إذ كانت كوريا مستعمرة يابانية، وبعد هزيمة اليابان أصبحت كوريا غنيمة حرب للمنتصرين، فقسمت بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، الشطر الشمالي للسوفييت، والجنوبي للأمريكان، وعام 1948 أصبح الكوريتان مستقلتان، فساد نظام شيوعي في الشمال، ونظام رأسمالي في الجنوب. وعام 1950 حاول الشمال غزو الجنوب وضمه إليه، فتدخلت أمريكا وتم طرد الشيوعيين من الجنوب، واحتلت أمريكا وحلفائها معظم أراضي كوريا الشمالية حتى العاصمة بيونج يانج، فتدخلت الصين لمناصرة كوريا الشمالية فخسرت نحو 400 ألف شخص خلال أيام، بالإضافة لمقتل 4 ملايين كوري شمالي و50 ألف جندي أميركي، وكادت أميركا أن تستعمل القنبلة النووية ضد الصين، لولا تدخل الاتحاد السوفيتي حيث تم إبرام حالة هدنة بين الكوريتين.
ومنذ ذلك الوقت والعلاقة تمر بمد وجزر، حتى بعد سقوط الاتحاد السوفيتي،وظلت أجواء الحرب الباردة مستمرة، فأمريكا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي تريد بسط سيطرتها بالكامل على شبه الجزيرة الكورية لفوائد اقتصادية ولمحاصرة الصين. وبيونج يانج لا زالت تحلم باستعادة كوريا الجنوبية وضمها إلى نظامها. يُضاف إلى ذلك ما لدى بكين وموسكو من مشاريع خاصة بها، والتي تتمحور حول السعي الدءوب نحو منع واشنطن من الاستئثار بهذه المنطقة الهامة من العالم، لذلك ظل الصراع مستمرا والتهديد متبادلا، ولم تصمد أي اتفاقية عسكرية كانت أم اقتصادية أكثر من عام، بما في ذلك اتفاقية الهدنة نفسها التي أنهت حرب 53.
الصراع بين كوريا الشمالية وأمريكا وحلفائها يبدو للوهلة الأولى أنه بلغ درجة خطيرة من الاحتقان، تنذر بوقوع حرب مدمرة، لكن المتابعين والمراقبين للشأن الكوري يعلم جيدًا، أن فرص وقوع حرب بعيدة، وأن الأمر لا يعدو بين الجانبين إلا تهويش في مقابلة تحريش، تهويش كوري في مواجهة تحرش أمريكي متصاعد، من أجل إظهار الإمكانات الفعلية للجيش الكوري الذي يعتبر الرابع عالميًا من حيث القوة والعدد، فثمة عسكري كوري لكل 25 مواطن، فأمريكا تبحث عن حقيقة التهديدات من جانب كوريا الشمالية، خاصة بعد إجراء تجربتها النووية الثالثة في 12 فبراير الماضي، وهي التجربة التي وُصفت بأنها أكثر قوة من التجربتين السابقتين خلال عام 2006، 2009 ونجحت خلالها في إطلاق صاروخ (أونها 3) بهدف وضع قمر صناعي، للاستخدامات المدنية في المدار الفضائي لمراقبة الأرض..
وفقًا لما أفادت به السلطات الكورية الشمالية، فقد اعتبرت أمريكا هذه التجربة بمثابة اختبار جديد لقدرة صواريخها الباليستية بعيدة المدى، السبب في ذلك هو أن صاروخ (أونها 3) يحمل خصائص مشابهة لصاروخ (تايبودونج 2) وهو صاروخ باليستي بعيد المدى كانت الأمم المتحدة أدانت قيام كوريا الشمالية بتطويره عام 2006، وفرضت عليها عقوبات قاسية. لذلك فأمريكا أخذت تتحرش بكوريا من أجل معرفة حقيقة التطور الذي طرأ على سلاح (قوة الصاروخ) الكوري الشمالي، ومن ثم كان الإعلان عن مشروع زيادة مدى الصواريخ الباليستية في كوريا الجنوبية، وهو الإعلان الذي استفز كوريا الشمالية وأثار حفيظتها بشدة حتى وصل الأمر للتهديد العلني الذي هو في حقيقته مجرد تهويش للجانب الجنوبي وأمريكا للتراجع عن فكرة المظلة الباليستية.
الموضوع الآن يدور حول محورين أساسيين ألا وهما: حقيقة التهديد الكوري الشمالي بشن ضربات من خلال صواريخها الباليستية، ومدى قدرة منظومة الدفاع لكوريا الجنوبية وحليفتها الولايات المتحدة الأمريكية.
وبدراسة القوة العسكرية الشمالية يتضح لنا أن قدرة كوريا الشمالية على ضرب أمريكا تكاد تكون منعدمة، في حين أن تهديداتها الجدية إنما تقع على كوريا الجنوبية واليابان فحسب، ذلك أن معظم الترسانة العسكرية للصواريخ الباليستية الشمالية هي من النوع القصير والمتوسط المدى، في حين أن البعيدة المدى وهي الأكثر كفاءة وقدرة على إصابة الأراضي الأمريكية قليلة وما زالت في مرحلة البناء والتطوير، وعقوبات 2006 القاسية جففت منابع بناء هذه القوة كثيرا، وحدت من قدرة الشمالية على تطوير صواريخها بعيدة المدى، ولم تنجح كوريا في تجارب إطلاق الصواريخ بعيدة المدى إلا في ديسمبر الماضي، بعد عشرات التجارب الفاشلة، ولكن تجربة واحدة ناجحة لا تعني بناء منظومة متكاملة يعتمد عليها في الردع والحرب، وبين كوريا الشمالية وبين امتلاك هذه المنظومة سنوات طويلة على ما يبدو.
في حين أن أمريكا تمتلك منظومة دفاع بالغة التقدم في مواجهة الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، تعمل في البر والبحر عبر المدمرات الأمريكية التي نشرتها في بحر اليابان والسواحل الكورية الجنوبية لصد أي عدوان محتمل، وبالتالي فأمريكا وإن كانت تأخذ تهديدات كوريا الشمالية على محمل الجد، إلا أنها قادرة تماما على إحباط أي هجوم كوري عليها.
وبعيدًا عن حسابات القوة العسكرية، فكوريا الشمالية بلد شديد الفقر يعاني من أزمات داخلية متفاقمة، وذكر برنامج الأغذية العالمي في أواخر 2011 أن ثلث الأطفال الكوريين الشماليين دون سن الخامسة يعانون من سوء تغذية مزمن، وقدرت وكالات الأمم المتحدة بعد زيارة إلى الشمال في (تشرين الثاني- نوفمبر الماضي) أن ثلاثة ملايين شخص يحتاجون إلى مساعدات غذائية في 2012، وقد تفاقمت الأزمة الغذائية بعد الكوارث الطبيعية التي حلت خلال الصيف؛ في إشارة إلى الجفاف الذي تلته فيضانات ما أدى إلى ضرب الموسم الزراعي..
هذا الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتدهور هو الذي حدا بفيكتوريا نولاند المتحدثة باسم وزارة الخارجية للرد بسخرية وازدراء على كوريا الشمالية بقولها: "بدلا من التبجح بقدراتهم الصاروخية، يجدر بهم أن يطعموا شعبهم"، الحرب بعيدة المنال، ولكن التاريخ علمنا حقيقة ثابتة، وهي أن الحروب الكبيرة تندلع دائما بتراشقات صغيرة، كما قال الشاعر:
فإن النار بالعيدان تزكى *** وإن الحرب مبدأها كلام
والزعيم الكوري الشاب مشهور بنزقه واندفاعه بحماسة الشباب المعهودة، حتى أن قد أعدم مساعد وزير الدفاع الكوري قصفا بمدفع هاون لأنه شرب الخمر في فترة الحداد على أبيه زعيم كوريا الراحل، ولا يستبعد أن يقصف حلفاء أمريكا مثل اليابان وسنغافورة إذا لم يستطع أن يقصف أمريكا نفسها، وهذا لا شك سيؤدي لعواقب وخيمة على غرب آسيا كلها، وربما تندلع حرب تلتهي بها أمريكا عن الكيد والتآمر ضد العالم الإسلامي ودول الربيع العربي التي لم تستطع حتى الآن الفكاك ولو لقيد أنملة من أسر التبعية الأمريكية، ومن يدري ربما يأتي المدد والتأييد من حيث لا يحتسب الناس أبدًا.
شريف عبد العزيز الزهيري