الآيات.. وعلماء السوء
وإنّ الأئمّة المهديّين، والعلماء الربّانيّين في كلّ عصر ومصر لا يقفون بين الأمّة والحاكم على مسافة واحدة، بل هم في صف الأمّة وأقرب إليها، لا استرضاءً للعامّة وإيثاراً للأهواء، ولكن لأنّ الأمّة -والتاريخ شاهد صدق على ذلك- تنتقص حقوقها في أغلب الأحوال، ويعتدى على حرماتها، وتصوّب إليها سهام المظالم من كلّ باغ متنفّذ، ويضعف أكثر أفرادها عن المطالبة بحقوقهم، فينامون على الضيم، ويستكينون للظلم، ممّا يجرّهم إلى ألوان من الفساد لا تقف عند حدّ..
- التصنيفات: ترجمة معاني القرآن الكريم - قضايا إسلامية -
لقد جعل الله قيم الحقّ والعدل ميزاناً بأيدي العلماء الربّانيّين، والأئمّة المهديّين، الذين ائتمنهم على دينه، وما سواها أهواء متناحرة، وظلمات مدلهمّة، وظلم وعدوان، وبغي وبهتان... فأوّل مسؤوليّاتهم أن يعلنوا قيم الحقّ والعدل للناس، ويعلّموهم إيّاها، وينشروا حقائقها ويشيعوها، ويبشّروا بها بكلّ وسيلة، ويدعوا الناس للالتزام بها، وإيثارها على ما سواها... وهم في ذلك يقفون على صراط الله المستقيم، وهديه القويم، يبشّرون به، ويدعون إليه، فإن عجزوا عن ذلك أو ضعفوا فلا أقلّ من أن يلزموا الصمت، ويعتزلوا الناس، ولا يعينوا الظالم على ظلمه، والباغي على بغيه.
وإنّ الأئمّة المهديّين، والعلماء الربّانيّين في كلّ عصر ومصر لا يقفون بين الأمّة والحاكم على مسافة واحدة، بل هم في صف الأمّة وأقرب إليها، لا استرضاءً للعامّة وإيثاراً للأهواء، ولكن لأنّ الأمّة -والتاريخ شاهد صدق على ذلك- تنتقص حقوقها في أغلب الأحوال، ويعتدى على حرماتها، وتصوّب إليها سهام المظالم من كلّ باغ متنفّذ، ويضعف أكثر أفرادها عن المطالبة بحقوقهم، فينامون على الضيم، ويستكينون للظلم، ممّا يجرّهم إلى ألوان من الفساد لا تقف عند حدّ... ويتطلّعون إلى العلماء، وهم الفئة الرائدة الراشدة، وينتظرون منهم أن ينتصروا لهم، ويطالبوا بحقوقهم... فهل من المسؤوليّة أن يخذل العلماء الأمّة التي وثقت بهم، وعلّقت آمالها عليهم؟!
إنّ الأمّة تريد من علمائها أن يكونوا لسانها الناطق بالحقّ، وقلبها النابض بالإيمان والهدى، وعقلها المفكّر، الذي يفقه دين الله، ويعي الواقع، بكلّ ملابساته وتعقيداته، ويُعلّم ويُبصّر، وأن يكونوا يدها المغيثة في كلّ نازلة، ورائدها القدوة في كلّ ميدان من ميادين الخير... ولا نقول هذا الكلام من نسج الخيال، ففي التاريخ الإسلاميّ وفي الحاضر نماذج مشرقة عن ذلك كلّه.
ولك أن تقارن تلك الآيات التي وصفت حال علماء السوء، وما فيها من التهديد المخيف، والوعيد الشديد بحال العلماء بالله، أهل الخشية والتعظيم لأمر الله، الذين يؤثرون مرضاة الله تعالى على كلّ شيء، وقد امتدحهم الله تعالى بقوله: {إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ العُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28]، فقد دلّت هذه الآية الكريمة على أنّ الخشية لا تكون إلاّ بالمعرفة، فالعُلَماءُ هنا هم العلماء به سبحانه، كما دلت على أنّ الخشية ملاك الخيرات، لأنّ من خشي الله أتى منه كلّ خير، ومن أمِنَ اغترّ بالله، واجتر أ على كلّ شرّ، ومنه قوله عليه السلام: «من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل» (الترغيب والترهيب: 210/ 4).
وشرط الخشية معرفة المخشيّ والعلم بصفاته وأفعاله، فمن كان أعلم به سبحانه كان أخشى منه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «..إني أخشاكم لله وأتقاكم له...» (صحيح الجامع: 1336).
قال الإمام الرازيّ: قوله تعالى: {إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} [فاطر: 28] فإنّ الله تعالى وصف العلماء في كتابه بخمس مناقب، أحدها: الإيمان: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران:7] وثانيها: التوحيد والشهادة: {شَهِدَ اللَّـهُ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] وثالثها: البكاء: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ} [الإسراء:109]. ورابعها: الخشوع: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ...} [الإسراء: 107]. وخامسها: الخشية: {إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} [فاطر: 28].
فالخشية بقدر معرفة المخشيّ، والعالم يعرف الله فيخافه ويرجوه. وهذا دليل على أن العالم أعلى درجة من العابد، لأن اللّه تعالى قال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ} [الحجرات:13] فبيّن أن الكرامة بقدر التقوى، والتقوى بقدر العلم. فالكرامة بقدر العلم لا بقدر العمل، نعم العالم إذا ترك العمل قدح ذلك في علمه، فإن من يراه يقول: لو علم لعمل. ثمّ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} ذكر ما يوجب الخوف والرجاء، فكونه عزيزاً ذا انتقام يوجب الخوف التامّ، وكونه غفوراً لما دون ذلك يوجب الرجاء البالغ.
والتقوى ثمرة العلم قال اللّه تعالى: {إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} [فاطر: 28]. فلا تقوى إلاّ للعالم فالمتقي العالم أتمّ علمه، والعالم الذي لا يتّقي كشجرة لا ثمرة لها، لكن الشجرة المثمرة أشرف من الشجرة التي لا تثمر بل هو حطب، وكذلك العالم الذي لا يتقي حصب جهنم.
وقوله تعالى: {ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8]. إذا ضُمّ إليها قوله تعالى: {إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} [فاطر: 28]. صار المجموع دليلا على فضل العلم والعلماء، وذلك لأنه تعالى بيّن أنّ العالم هو صاحب الخشية، وهذه الآية وهي قوله: {ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} تدلّ على أن صاحب الخشية تكون له الجنة فيتولد من مجموع الآيتين أنّ الجنة حقّ العلماء.
والمراد بالعلماء: العلماء بالله وبالشريعة، وعلى حسب مقدار العلم في ذلك تقوى الخشية، فأمّا العلماء بعلوم لا تتعلق بمعرفة الله وثوابه وعقابه معرفة على وجهها فليست علومهم بمقرّبة لهم من خشية الله، ذلك لأنّ العالم بالشريعة لا تلتبس عليه حقائق الأسماء الشرعيّة، فهو يفهم مواقعها حقّ الفهم، ويرعاها في مواقعها، ويعلم عواقبها من خير أو شرّ، فهو يأتي ويدع من الأعمال ما فيه مراد الله ومقصد شرعه، فإن هو خالف ما دعت إليه الشريعة في بعض الأحوال أو في بعض الأوقات لداعي شهوة أو هوى أو تعجل نفع دنيوي كان في حال المخالفة موقناً أنّه مُورّط فيما لا تحمد عقباه، فذلك الإيقان لا يلبث أن ينصرف به عن الاسترسال في المخالفة بالإقلاع أو الإقلال. وغير العالم إن اهتدى بالعلماء فسعيه مثل سعي العلماء وخشيته متولدة عن خشية العلماء. قال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد: "والعلم دليل على الخيرات وقائد إليها، وأقرب العلماء إلى الله أولاهم به، وأكثرهم له خشية وفيما عنده رغبة".
وخشية الله تعالى هي امتلاء القلب بالله، وخشية عقابه، ورجاء ثوابه، وأن يكون ذاكراً لله، شكوراً لنعمه، راجياً قبول طاعته، والعلماء بالله هم أعلم الناس به ذاتاً وصفاتٍ، وقدراً وإكباراً.
قال الحسن البصريّ: "العالم: من خشي الرحمن بالغيب، ورغب فيما رغّب الله فيه، وزهد فيما سخط الله فيه، ثمّ تلا الآية: {إِنَّما يَخْشَى الله مِنْ عِبادِهِ العُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}".
وعن ابن مسعود: "كفى بخشية الله تعالى علماً، وبالاغترار جهلاً".
وقال سعيد بن جبير: "الخشية هي التي تحول بينك وبين معصية الله عزّ وجلّ".
وقال مالك: "إن العلم ليس بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يجعله الله في القلب".
وبعد؛ فإنّ فيصل التفرقة بين علماء السوء وعلماء الآخرة إخلاص القلب لله عزّ وجلّ، وابتغاء مرضاته، وأن تكون الآخرة نصب عين طالب العلم فيما يأتي ويذر، ومنتهى سعيه في علمه وعمله... ومن ثمّ فقد جاء التهديد المخيف، والوعيد الشديد لطالب العلم إذا كان سعيه للدنيا وحطامها، وقصده الرياء والسمعة، ومنافسة الخلق على الجاه والمكاسب، وأوهام المناصب.
عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: "تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنْه فَقَالَ لَهُ نَاتِلُ أَهْلِ الشَّامِ: أَيُّهَا الشَّيْخُ حَدِّثْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ: جَرِىءٌ. فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِىَ فِى النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ العِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ القُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ العِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ: وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ العِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ. وَقَرَأْتَ القُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ. فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلقِيَ فِى النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ الله عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ المَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلاَّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ. فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِىَ فِى النَّارِ» (صحيح مسلم: 1905).
أمثال قرآنيّة عن علماء السوء:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، والرضا عمّن اتّبع سنّته، واقتفى هديه، ونصر دينه، وبعد؛ فقد ضرب الله لعلماء السوء مَثَلَين شنيعين مخيفين في كتابه، تحذيراً لكلّ من حمل أمانة العلم وتخويفاً، ليعلموا أنّ مسؤوليّة العلم كبيرة، وأمانة الحقّ ثقيلة، وأنّهم على نعمة من الله عظيمة، إن لم يقوموا بحقّها كانوا من الهالكين يوم القيامة.
يقول الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِين . وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون} [الأعراف: 175-176]. ويقول تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ الله وَالله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين} [الجمعة: 5].
وتأمّل المَثَلَ الأوّل: {مَثَلَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِين}، وتدبّر هذا التعبير الإلهيّ المعجز: {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا}. فهذا صنف من علماء السوء المنتكسين عن الحقّ والهدى، الذين باعوا دينهم بثمن بخس، من دنيا خسيسة، أو باعوا دينهم بدنيا غيرهم، أو بدنيا عدوّهم... وتلك أسوأ صورة لهم... واسمح لي أن نقف قليلاً مع توضيح هذا المثل، كما جاء في بعض التفاسير، وما له من آفاق وأبعاد.
قال صاحب تفسير المنار: "هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللهِ المُنَزَّلَةِ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا أَيَّدَهَا بِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ، وَهُوَ مَثَلُ مَنْ آتَاهُ اللهُ آيَاتَهُ فَكَانَ عَالِمًاً بِهَا حَافِظًاً لِقَوَاعِدِهَا وَأَحْكَامِهَا، قَادِرًا عَلَى بَيَانِهَا وَالْجَدَلِ بِهَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُؤْتَ الْعَمَلَ مَعَ الْعِلْمِ، بَلْ كَانَ عَمَلُهُ مُخَالِفًا لِعِلْمِهِ تَمَامَ الْمُخَالَفَةِ، فَسُلِبَهَا; لِأَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي لَا يُعْمَلُ بِهِ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَزُولَ، فَأَشْبَهَ الْحَيَّةَ الَّتِي تَنْسَلِخُ مِنْ جِلْدِهَا وَتَخْرُجُ مِنْهُ وَتَتْرُكُهُ عَلَى الْأَرْضِ (وَيُسَمَّى هَذَا الْجِلْدُ المِسْلَاخَ) أَوْ كَانَ فِي التَّبَايُنِ بَيْنَ عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ كَالمُنْسَلِخِ مِنَ الْعِلْمِ التَّارِكِ لَهُ، كَالثَّوْبِ الْخَلِقِ يُلْقِيهِ صَاحِبُهُ، وَالثُّعْبَانُ يَتَجَرَّدُ مِنْ جِلْدِهِ حَتَّى لَا تَبْقَى لَهُ بِهِ صِلَةٌ... لقد لَحِقَهُ الشَّيْطَانُ، فَأَدْرَكَهُ وَتَمَكَّنَ مِنَ الْوَسْوَسَةِ لَهُ، إِذْ لَمْ يَبْقَ لَدَيْهِ مِنْ نُورِ الْعِلْمِ وَالْبَصِيرَةِ مَا يَحُولُ دُونَ قَبُولِ وَسْوَسَتِهِ، وَأَعْقَبَ ذَلِكَ أَنْ صَارَ مِنَ الْغَاوِينَ، أَيِ الْفَاسِدِينَ الْمُفْسِدِينَ".
ويقول الإمام الرازيّ في تفسيره: "وهذه الآية من أشدّ الآيات على أصحاب العلم، وذلك لأنّه تعالى بعد أن خصّ هذا الرجل بآياته وبيّناته، وعلمه الاسم الأعظم، وخصّه بالدعوات المستجابة، لما اتّبع الهوى انسلخ من الدين وصار في درجة الكلب، وذلك يدلّ على أنّ كلّ من كانت نعم الله في حقه أكثر، فإذا أعرض عن متابعة الهدى، وأقبل على متابعة الهوى، كان بعده عن الله أعظم، قال تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} قال الليث: "اللهث هو أن الكلب إذا ناله الإعياء عند شدّة العَدو وعند شدّة الحر، فإنّه يدلع لسانه من العطش.
واعلم أن هذا التمثيل ما وقع بجميع الكلاب، وإنما وقع بالكلب اللاهث، وأخسّ الحيوانات هو الكلب، وأخسّ الكلاب هو الكلب اللاهث، فمن آتاه الله العلم والدين فمال إلى الدنيا، وأخلد إلى الأرض، كان مشبهاً بأخسّ الحيوانات، وهو الكلب اللاهث، وفي تقرير هذا التمثيل وجوه:
الأول: أنّ كلّ شيء يلهث فإنّما يلهث من إعياء أو عطش إلاّ الكلب اللاهث فإنّه يلهث في حال الإعياء، وفي حال الراحة، وفي حال العطش، وفي حال الري، فكان ذلك عادة منه وطبيعة، وهو مواظب عليه كعادته الأصلية، وطبيعته الخسيسة، لا لحاجة وضرورة، فكذلك من آتاه الله العلم والدين، أغناه عن التعرض لأوساخ أموال الناس، ثمّ إنّه يميل إلى طلب الدنيا، ويلقي نفسه فيها، كانت حاله كحال ذلك اللاهث، حيث واظب على العمل الخسيس، والفعل القبيح، لمجرد نفسه الخبيثة. وطبيعته الخسيسة، لا للحاجة والضرورة.
والثاني: أن الرجل العالم إذا توسّل بعلمه إلى طلب الدنيا، فذاك إنّما يكون لأجل أنّه يورد عليهم أنواع علومه، ويظهر عندهم فضائل نفسه ومناقبها، ولا شكّ أنّه عند ذكر تلك الكلمات، وتقرير تلك العبارات يدلع لسانه، ويخرجه لأجل ما تمكن في قلبه من حرارة الحرص، وشدة العطش إلى الفوز بالدنيا، فكانت حالته شبيهة بحالة ذلك الكلب الذي أخرج لسانه أبداً من غير حاجة ولا ضرورة، بل بمجرد الطبيعة الخسيسة.
والثالث: أن الكلب اللاهث لا يزال لهثه ألبتة، فكذلك الإنسان الحريص لا يزال حرصه ألبتة.
أمّا قوله تعالى: {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ} فالمعنى أنّ هذا الكلب إن شُدَّ عليه وهُيّج لهث وإن ترك أيضاً لهث، لأن ذلك الفعل القبيح طبيعة أصليّة له، فكذلك هذا الحريص الضالّ إن وعظته فهو ضالّ، وإن لم تعظه فهو ضالّ، لأنّ ذلك الضلال والخسارة عادة أصليّة وطبيعة ذاتيّة له".
ويقول سيّد رحمه الله: "إنّه مشهد من المشاهد العجيبة، الجديدة كلّ الجدّة على ذخيرة هذه اللغة من التصوّرات... إنسان يؤتيه الله آياته، ويخلع عليه من فضله، ويكسوه من علمه، ويعطيه الفرصة كاملة للهدى والاتصال والارتفاع... ولكنّه ينسلخ من هذا كلّه انسلاخاً. ينسلخ كأنّما الآيات أديم له متلبس بلحمه فهو ينسلخ منها بعنف وجهد ومشقة، انسلاخ الحي من أديمه اللاصق بكيانه... أوليست الكينونة البشرية متلبسة بالإيمان باللّه تلبس الجلد بالكيان؟ ها هو ذا ينسلخ من آيات الله ويتجرد من الغطاء الواقي، والدرع الحامي، وينحرف عن الهدى ليتبع الهوى، ويهبط من الأفق المشرق، فيلتصق بالطين المعتم، فيصبح غرضا للشيطان، لا يقيه منه واق، ولا يحميه منه حام فيتبعه ويلزمه ويستحوذ عليه... ثمّ إذا نحن أولاء أمام مشهد مفزع بائس نكد... إذا نحن بهذا المخلوق، لاصقاً بالأرض، ملوثاً بالطين. ثمّ إذا هو مسخ في هيئة الكلب، يلهث إن طورد ويلهث إن لم يطارد...
كلّ هذه المشاهد المتحركة تتتابع وتتوالى والخيال شاخص يتبعها في انفعال وانبهار وتأثر، فإذا انتهى إلى المشهد الأخير منها، مشهد اللهاث الذي لا ينقطع، سمع التعليق المرهوب الموحي، على المشهد كله: {ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ . ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 176-177]. ذلك مثلهم! فلقد كانت آيات الهدى وموحيات الإيمان متلبسة بفطرتهم وكيانهم وبالوجود كله من حولهم... ثم إذا هم ينسلخون منها انسلاخاً. ثمّ إذا هم أمساخ شائهو الكيان، هابطون عن مكان الإنسان إلى مكان الحيوان، مكان الكلب الذي يتمرغ في الطين، وكان لهم من الإيمان جناح يرفون به إلى عليين، وكانوا من فطرتهم الأولى في أحسن تقويم، فإذا هم ينحطون منها إلى أسفل سافلين! {ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ}" [الأعراف: 177].
وهل أسوأ من هذا المثل مثلاً؟ وهل أسوأ من الانسلاخ والتعري من الهدى؟ وهل أسوأ من اللصوق بالأرض واتباع الهوى؟ وهل يظلم إنسان نفسه كما يظلمها من يصنع بها هكذا؟ من يعريها من الغطاء الواقي والدرع الحامي، ويدعها غرضا للشيطان يلزمها ويركبها، ويهبط بها إلى عالم الحيوان اللاصق بالأرض، الحائر القلق، اللاهث لهاث الكلب أبدًا! وهل يبلغ قول قائل في وصف هذه الحالة وتصويرها على هذا النحو العجيب الفريد إلاً هذا القرآن العجيب الفريد!
وما أكثر ما يتكرر هذا النبأ في حياة البشر ما أكثر الذين يعطون علم دين اللّه، ثم لا يهتدون به، إنما يتخذون هذا العلم وسيلة لتحريف الكلم عن مواضعه، واتباع الهوى... هواهم وهوى المتسلطين الذين يملكون لهم في وهمهم عرض الحياة الدنيا.
وكم من عالم دين رأيناه يعلم حقيقة دين الله ثم يزيغ عنها، ويعلن غيرها. ويستخدم علمه في التحريفات المقصودة، والفتاوى المطلوبة لسلطان الأرض الزائل! يحاول أن يثبت بها هذا السلطان المعتدي على سلطان الله وحرماته في الأرض جميعاً؟!
ولقد رأينا من هؤلاء من يكتب في تحريم الربا كله عاما ثم يكتب في حله كذلك عاما آخر... ورأينا منهم من يبارك الفجور وإشاعة الفاحشة بين الناس، ويخلع على هذا الوحل رداء الدين وشاراته وعناوينه، فماذا يكون هذا إلاً أن يكون مصداقاً لنبأ الذي آتيناه آياتنا، فانسلخ منها، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين؟
وماذا يكون هذا إلاّ أن يكون المسخ الذي يحكيه اللّه سبحانه عن صاحب النبأ: {وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ. فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} ولو شاء اللّه لرفعه بما آتاه من العلم بآياته، ولكنه سبحانه لم يشأ، لأن ذلك الذي علم الآيات أخلد إلى الأرض واتبع هواه، ولم يتبع الآيات.
إنّه مثل لكلّ من آتاه الله من علم الله فلم ينتفع بهذا العلم، ولم يستقم على طريق الإيمان، وانسلخ من نعمة الله، ليصبح تابعاً ذليلاً للشيطان، ولينتهي إلى المسخ في مرتبة الحيوان! والإنسان الذي لا يتبع منهج الله يكون مضطرب الحركة في الحياة، حتى وإن كان في نعمة، لأنّه معزول عن الله، وما دام معزولاً عن الله تجده دائم التساؤل: أيدوم لي هذا النعيم أو لا يدوم؟ إنّه يعيش دائماً في قلق ورعب... ومثله كالكلب يلهث حال راحته، ويلهث حال تعبه.
ثمّ ما هذا اللهاث الذي لا ينقطع؟ إنه في حسّنا كما توحيه إيقاعات النبأ وتصوير مشاهده في القرآن، ذلك اللهاث وراء أعراض هذه الحياة الدنيا التي من أجلها ينسلخ الذين يؤتيهم الله آياته فينسلخون منها، ذلك اللهاث القلق الذي لا يطمئنّ أبداً. ولا يتركه صاحبه سواء وعظته أم لم تعظه، فهو منطلق فيه أبداً!
والحياة البشريّة ما تني تطلع علينا بهذا المثل في كلّ مكان، وفي كلّ زمان، وفي كلّ بيئة، حتّى إنّه لتمرّ فترات كثيرة، وما تكاد العين تقع على عالم إلاّ وهذا مثله. فيما عدا الندرة النادرة ممّن عصم اللّه، ممّن لا ينسلخون من آيات الله، ولا يخلدون إلى الأرض، ولا يتّبعون الهوى، ولا يستذلّهم الشيطان، ولا يلهثون وراء الحطام الذي يملكه أصحاب السلطان! فهو مثل لا ينقطع وروده ووجوده، وما هو بمحصور في قصة وقعت، في جيل من الزمان! وقد أمر اللّه رسوله صلى اللّه عليه وسلم أن يتلوه على قومه الذين كانت تتنزل عليهم آيات الله، كي لا ينسلخوا منها وقد أوتوها.
ثمّ ليبقى من بعده ومن بعدهم يتلى، ليحذر الذين يعلمون من علم الله شيئا أن ينتهوا إلى هذه النهاية البائسة، وأن يصيروا إلى هذا اللهاث الذي لا ينقطع أبداً، وأن يظلموا أنفسهم ذلك الظلم الذي لا يظلمه عدوّ لعدوّ. فإنّهم لا يظلمون إلاّ أنفسهم بهذه النهاية النكدة! ولقد رأينا من هؤلاء والعياذ بالله في زماننا هذا من كان كأنّما يحرص على ظلم نفسه، أو كمن يعض بالنواجذ على مكان له في قعر جهنم يخشى أن ينازعه إياه أحد من المتسابقين معه في الحلبة! فهو ما يني يقدّم كل صباح ما يثبت به مكانه هذا في جهنم! وما يني يلهث وراء هذا المطمع لهاثاً، لا ينقطع حتى يفارق هذه الحياة الدنيا! اللهم اعصمنا، وثبت أقدامنا، وأفرغ علينا صبراً، وتوفنا مسلمين.
ثمّ نقف أمام هذا النبأ والتعبير القرآني عنه وقفة أخرى: إنّه مثل للعلم الذي لا يعصم صاحبه أن تثقل به شهواته ورغباته فيخلد إلى الأرض لا ينطلق من ثقلتها وجاذبيتها وأن يتّبع هواه فيتبعه الشيطان ويلزمه ويقوده من خطام هذا الهوى، ومن أجل أنّ العلم لا يعصم يجعل المنهج القرآني طريقه لتكوين النفوس المسلمة والحياة الإسلامية، ليس العلم وحده لمجرد المعرفة، ولكن يجعل العلم عقيدة حارة دافعة متحركة لتحقيق مدلولها في عالم الضمير وفي عالم الحياة أيضاً.
إنّ المنهج القرآني لا يقدم العقيدة في صورة نظرية للدراسة... كذلك هو لا يقدّم هذا الدين دراسات في النظام الإسلامي، ولا في الفقه الإسلامي، ولا في الاقتصاد الإسلامي، ولا في العلوم الكونية، ولا في العلوم النفسية ولا في أيّة صورة من صور الدراسة المعرفية! إنّما يقدّم هذا الدين عقيدة دافعة دافقة محيية موقظة رافعة مستعلية تدفع إلى الحركة لتحقيق مدلولها العمليّ فور استقرارها في القلب والعقل، وتحيي موات القلب فينبض ويتحرك ويتطلع، وتوقظ أجهزة الاستقبال والاستجابة في الفطرة فترجع إلى عهد الله الأول وترفع الاهتمامات والغايات فلا تثقلها جاذبية الطين، ولا تخلد إلى الأرض أبداً.
ويقدمه منهجاً للنظر والتدبر يتميز ويتفرد دون مناهج البشر في النظر، لأنّه إنّما جاء لينقذ البشر من قصور مناهجهم وأخطائها وانحرافها تحت لعب الأهواء، وثقلة الأبدان، وإغواء الشيطان! ويقدّمه ميزاناً للحق تنضبط به عقول الناس ومداركهم، وتقاس به وتوزن اتجاهاتهم وحركاتهم وتصوراتهم، فما قبله منها هذا الميزان كان صحيحاً لتمضي فيه وما رفضه هذا الميزان كان خاطئاً يجب الإقلاع عنه.
ويقدمه منهجاً للحركة يقود البشرية خطوة خطوة في الطريق الصاعد إلى القمة السامقة. وفق خطاه هو ووفق تقديراته، وفي أثناء الحركة الواقعية يصوغ للناس نظام حياتهم، وأصول شريعتهم، وقواعد اقتصادهم واجتماعهم وسياستهم. ثم يصوغ الناس بعقولهم المنضبطة به تشريعاتهم القانونية الفقهية، وعلومهم الكونية والنفسية، وسائر ما تتطلبه حياتهم العملية الواقعية، يصوغونها وفي نفوسهم حرارة العقيدة ودفعتها، وجدية الشريعة وواقعيتها، واحتياجات الحياة الواقعية وتوجيهاتها.
هذا هو المنهج القرآني في صياغة النفوس المسلمة والحياة الإسلامية... أما الدراسة النظرية لمجرد الدراسة، فهذا هو العلم الذي لا يعصم من ثقلة الأرض، ودفعة الهوى، وإغواء الشيطان، ولا يقدم للحياة البشرية خيراً.
عبد المجيد البيانوني